الفصل الثاني : لمحات من الماضي

417 8 4
                                    


  

..   فتحت الباب و تفاجأت بهوية المستأجر الجديد الذي يضع حقائبه و يخرج المفتاح ليدخل شقته المملوءة بالصناديق من مختلف الأحجام , لا بد أن لديه عملا كثيرا ليقوم به . هي كانت متأكدة بان اللقاء كان صدفة و لكن الآن و في اللحظة التي تسبق إغلاقه للباب التقت نظراتهما مرة أخرى في نفس اليوم , أطالا التحديق و كأن كل واحد يتأكد من ملامح الأخر و انه لا يرى وهما . فكرت لبعض الوقت كيف ستتعامل مع هذا الموقف المحرج و قررت تجاهله و لكن المعني يملك رأيا آخر فهو قد أوقفها و هو يقول في ثقة " مرحبا , يالها من صدفة التقينا مجددا " استدارت و هي تعتصر هاتفها في يدها متصنعة ابتسامة و قالت " مساء الخير جاري الجديد " وهي تضغط على كلمة جاري كأنها تحذره أن لا يتخطى حدوده ثم استدارت لتكمل طريقها و لكنه تجاهل تحذيرها ببساطة راسما ابتسامة بلهاء " أنا إياد , ماذا عنك ؟ " لم يتلقى ردا فأردف بشبه صراخ في نبرة مستغربة " ماذا ألن ترحبي بجارك الجديد حتى ؟؟" و لكنها فقط انعطفت و لم تلقي له بالا .

مشت في الطريق بعد أن اشترت سندويتشا و الكولا و لمحت رجلا خمسينيا يمسك بيد حبيبته ذات العشرين المثيرة , ذكرها المنظر فور رؤيته برجل تحتقره . أبوها الذي تخلى عنها و عن أمها و شقيقيها من اجل عشيقته الشقراء , في ذلك اليوم كانت بالعاشرة كبيرة بما يكفي لتفهم أمها التي تتوسله كي لا يتركها كانت تعلم بخيانته و لكنها مستعدة لتسامحه فقط كي لا يعيش أطفالها أيتاما . إلا انه كان عديم المشاعر ليتركها مع صغارها يعيشون فقرا , أمهم تعمل ليل نهار لتوفر لهم كل احتياجاتهم أما جمانة و التي تربع الحقد على أبيها في قلبها فهي كانت تساعد أمها و تدرس بجد لتتولى عنها مصاريف البيت و قد نجحت فهي قد أخذت منحة و انتقلت إلى المدينة و ثم تخرجت لتصبح مدرسة أدب في الجامعة و كاتبة ثرية مشهورة فأغنت أمها عن العمل و حسنت من معيشة أسرتها إلى رغيدة بعد ان جعلتهم ينتقلون من ذلك البيت الكئيب . هي لليوم لم تنسى ما فعله ذلك الوغد لامها رغم انه تزوجها عن حب كما يدعي لكنه استبدلها فور أن لمعت له فرصة لذلك في ذلك اليوم فقدت ثقتها في الرجال و تكونت لديها فكرة انه لا يوجد حب بعد الآن الحب شيء خيالي ستتفاداه لتتجنب أي ضرر في قلبها . لكن ماذا إن تسلل الحب إلى قلبها دون أن تدري ؟ هل ستعترف به ؟ أو تحاربه ليزول ؟ لكن الحب لا يزول إن استقر في القلب رحيله محال . يمكننا ببساطة أن نقول أنها تخاف من الحب , لكنها لا تعلم بذلك .

***

صعد الدرجات متجها إلى السطح حيث يجلس عندما يحس بالاختناق من شقته , لكنه هذه المرة عند وصوله و جد مكانه محجوزا من قبل جارته الفظة كما يدعوها . سحب كرسيا من الطاولة التي تجلس عليها و ضل صامتا ينظر إلى نفس المكان الذي تنظر إليه , " إنها مدينة جميلة " كسر حاجز الصمت و لم يحرك عينيه عن البحر الذي يتأملانه ثم أردف و هو ينظر لها بدفء مع ابتسامته التي لا تفارق وجهه " أنت لم تقولي لي ما اسمك بالمناسبة " صمت قليلا ثم قال ممازحا لتلطيف الجو بينهما " لا باس إن لم تخبريني سأكتفي بمناداتك جارتي المتجاهلة التي ترفض التحدث معي " ما إن أنهى جملته حتى لمح ابتسامة تلمع على ثغرها فقال و هو لا يبعد عينيه عنهما " ابتسمي دائما , فابتسامتك جميلة " و أردف بتوتر" عـلى كل أنت دائما جميلة " . تلطخت و جنتاها باللون الأحمر من مجاملاته التي نادرا ما تتلقى مثلها و خاصة من شاب و أيضا نضراته التي تتفحص كل شبر في ملامحها و قالت بتردد طفيف " اسمي جمانة " ابتسم لها و مد يده قائلا " تشرفت بمعرفتك جمانة أنا إياد , إذن أصدقاء ؟ " صافحته و هي تقول " أصدقاء " ثم وقفت و ذهبت دون قول شيء ربما لأنها كانت مصدومة مما أقدمت عليه منذ قليل , إنها أول مرة لها ترتاح لرجل هكذا في وقت قصير و تصادقه صحيح هو ساذج و ربما فيه بعض الغباء لكنه استطاع أن يلمس روحها , نظراته التي تخترقها كم كرهتها خافت من أن يرى ما تخبئه من انكسار خلف تلك القوة التي تظهرها . أما هو فقد أعجب بغموضها فهي في كل مرة تعطيه القليل و تتركه مع الكثير من الأسئلة هو يرى منها لغزا يتوق لحله , متاهة يحاول يكتشف زواياها . لقد أصبح جد متشوق لما تخبئه له الأيام من مواقف مع هذه الفتاة .

حمل كامرته و ركب سيارته و خرج إلى مكان حيث تلتقي خضرة الأشجار مع زرقة البحر الخليط الذي أولع به يعشق كل مكان تلتقي فيه هذه العناصر , هذا هو ما دفعه إلى أن يصبح مصورا يحب التقاط المناظر من منظوره الخاص و يريد الاستمتاع بحياته و العيش بسعادة و هو يفعل ما يعشق تماما كما أوصته . قبل موتها . جلس على المقعد المعتاد و تخيلها بجانبه تجلس بشعرها الفحمي المموج الطويل الذي يرتمي على كتفيها إلى نهاية ظهرها , تتأمل البحر بعينيها اللتان تعكسان لونه ثم تستدير بنضرتها الحزينة المعتادة و تبتسم له بدفء ثم تقول " أشكرك لأنك أحببتني إياد , انا لست خائفة من الموت بفضلك لأني موقنة بأنك ستكون بجانبي و لن تنساني " أنزلت رأسها وهي تكتم دموعها و استطردت " أنا سأكون سعيدة في الأعلى فأنت قد منحتني أحلى لحظات يمكن أن أحضى بها قبل مماتي . لكن ماذا عنك ؟ " فتح فمه ليخبرها انه لن يستطيع أن يحب غيرها و سيعيش على ذكراها التي لن تفارقه سيكون بخير طالما هي سعيدة و سينتظر اليوم الذي سيلتقيان فيه مجددا لكن أناملها الناعمة تسللت إلى شفتيه تمنعه من الكلام , و قالت " عش سعيدا و استمتع بغدك امنح نفسك فرصة جديدة , أحب مجددا أنت تستحق من هي أفضل مني فتاة تحبك و تعتني بك و الأهم أن تكون معك أسرة و تعيشان معا فرحين انسى الماضي و انس حبك لي فقريبا سأصبح ماضيا كذلك . عش لمستقبلك و حقق أحلامك . أنا احبك " كانت أول مرة يسمع كلمة احبك تخرج من شفتيها و هي موجهة له و لكنها ليست كما أرادها فهي كما يرى أول و آخر مرة يسمع فيها هذه الأربعة أحرف منها مسح دموعها التي لم تستطع حبسها أكثر ثم احتضنها و هو يقول " سأعيش سعيدا .... من أجلك " و انسابت دمعته التي ناضل كثيرا وهو يمنعها من الهبوط .

كانت هذه و صيتها له قبل موتها في اخر مرة يزوران فيها هذا المكان , و الكرسي الذي يجلس عليه شاهد على الدموع التي ذرفت من عينيه بعد وفاتها و كيف تحسن و تغير و لكنه لم يستطع نسيانها أبدا فهي جزء منه و لم يتمكن من الوقوع في الحب من بعدها .

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Sep 24, 2017 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

علمني كيف أحبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن