نقطة وسطر جديد.
اليوم هو أول يوم في صفحة كتابها الجديدة، صحيح أن هذه الجملة مبتذلة بقدر ما استعملت في المسلسلات والافلام المصرية أم السورية أم حتى الأجنبية، وهي نفسها لم تكن تظن يوما أنها حقا ستلجأ إلى استخدامها خارج الكتب والروايات، بل إن تبدأ في استعمالها معبرة عن مرحلة عبرتها إلى التالية لها، أخيرا نجحت في تكرار هذه الجملة لنفسها، كم مر عليها من الوقت؟ إنها لم تعد حتى قادرة على التذكر، اختلطت الأمور عليها بفوضوية سرمدية لا يحدها الكون، كل ما كانت تراه هو كوارث متلاحقة متتابعة ككرة مرقطة بالأسود وثمانِ وأربعين قدما تركلها.
رام الله لم تبدو يوما أسوء في نظرها مثل ما بدت اليوم، طالما قالت أنها واحدة من أسوء المدن على وجه الأرض، اكتظاظ مثير للأعصاب، ازعاج لا ينتهي كي يبدأ، جوٌ كان يفترض به أن يكون باردا رشيقا انقلب لحار بدين، سماء اكتست بالكلاحة بدلا من زرقتها الطبيعية، وأشجار لم يتبقى منها إلا زهيرات تستجدي الرحمة والعطف من ماري الشوارع والأرصفة، تستصرخ البشر حبا بالله أبقوا علي.
لقد باتت المدينة تزداد تشوها مع كل يوم يمر، لقد ولدت فيها وعاشت حياتها كاملة هنا إلا أنها لم تحبها يوما، فلا روح ولا حياة تنبض في شوارع اسمنتية قذرة مزدحمة، ورغم أنها منذ الأزل تقول انها تريد أن تعيش في قراها وسط الخضرة والجبال إلا أنها تدرك حق الإدراك أن ذلك ليس سوى حجة تقولها وتكررها كالبيغاء، فمن سابع المستحيلات أن تتمكن من التأقلم مع مكان آخر، أو مع أشخاص آخرين، فرام الله بقاطنيها الوافدين من أرجاء فلسطين كافة إن صح القول تشكل علبة كعك لا تشبه واحدة أختها، ولا تلقي بالا إليها، ولا يهمها رأسها من قدميها، ورغم أن أهل البلد -كما يطلقون على أنفسهم وهي طبعا من ضمنهم مفتخرة باللقب رغم أنها مجرد دخيلة كما غيرها وان اختلفت الأسباب وتنوعت- يعشقون تمييز أنفسهم عن أهل القرى بكونهم أكثر تحضرا، ولا يدسون أنوفهم فيما لا يعنيهم إلا أن الحقيقة الصارخة هي عكس ذلك تماما وإن كانت أقل حدة من القرى، فأهل رام الله يهوون النميمة ويعشقون انتقاد غيرهم ويتلذذون بمراقبة من حولهم وتقديم تقارير كاملة عن بعضهم البعض، أما لمن تقدم هذه التقارير فهي أيضا تقدم لبعضهم البعض.
في الواقع هي تعيد وتكرر أنها لا تحب رام الله ولكنها عاجزة عن مفارقتها، هل يعود هذا لمزاجها المتقلب؟ في الحق هو عائد لشخصيتها المركبة بطريقة خاطئة، فهي تريد ولا تريد ثم لا تدري أهي فعلا تريد، ولكن الأمر المؤكد لها رغم تناقضها هي أنها تحب وتكره رام الله، فكل شيء لديه وجهين، وشتاء رام الله بلا ريب رائع ومغر لا تقدر على مقاومته، إلا أن الأمر لم يتوقف هنا يوما، فالرغبة اليتيمة المغروسة عميقا داخل جوارحها وهي العثور على عمل دائم لم يجد له يوما مستقرا خارج شوارع رام الله الأربع الرئيسية، رام الله هي قلب فلسطين الاقتصادي! العاصمة المؤقتة لفلسطين!، الكثير من الصفات تطلق على هذه الشوارع والأحياء الصغيرة المزدحمة إلا أنها باتت تدرك في نهاية المطاف أن هذا التمسك لا يبدو أنه سيؤتي ثمره النهائية، أجل رام الله القلب الاقتصادي والسياسي لفلسطين، ولكنه قلب مريض بحاجة لعملية زراعة جديدة علها تبعث الحياة في عروقه المتجمدة والمتيبسة جراء ممارسات صاحبه غير الصحية وغير السوية.
YOU ARE READING
محامية عاطلة عن العمل
Short Storyعندما يكون القانون مجرد غطاء للبطالة الوساطة والمحسوبية تملأ رام الله بأكملها والمحامين لم يعودوا يوما سوى أرقام إضافية في سلم البطالة