لا أدري كيف وجدت نفسي في عصر غير عصري، أسافرت عبر الزمن ؟ لا أدري المهم عشت بعض الأوقات في المملكة الرومانية بعدما كنت أتجول بين بقايا آثارهم بتيبازة.. كانت لحظات خرافية أسطورية.. كنت أمشي في ممر ضيق يؤدي إلى ساحة دائرية تحيطها أشجار الزيتون.. و فجأة أحسست بيد على كتفي استدرت و صدمت حقا.. ظننت نفسي في حلم سأستيقظ منه.. كانت فتاة ترتدي فستانا من الحرير مزين بقماش الساتان الأبيض.. و شعرها الأسود مسدول على كتفيها.. كانت عادية و لكنها كانت تشبهني كثيرا بل لأقل كانت أنا.. و كأننا قطرة ماء انقسمت..و قد بدت هي كذلك مندهشة و غير مصدقة..قالت بصوت يشبه صوتي:"ماذا تفعلين هنا؟" لم أجد الجواب أأقول لها أنني سافرت عبر الزمن.. و قبل أن أجد الجواب المناسب، أمسكت بيدي و قالت:"اتبعيني" أطعتها بلا تفكير و اعتليت معها حصانها وراحت تقطع الغابات بسرعة حتى وصلنا إلى مبنى صغير و كان يبدو أن صانعه لم يكن محترفا في مهنته و علمت فيما بعد أنها هي من بنته، دخلت فتبعتها و كان المبنى الصغير من الداخل جميل و مرتب و أنيق.. كرسي مصنوع من الحطب, و بساط أحمر ناعم و طاولة صغيرة عليها قارورة ماء جميلة الشكل و أمامها كأس صغير و بجانبها صحن دائري مزخرف عليه فواكه مختلفة.. قالت لي" من أنت؟ أتدرين أنت تشبهينني كثيرا، هل أنت ذاتي؟" قلت و أنا مندهشة من كلامها:"ذاتك؟" قالت:"من أين جئت؟" قلت بشيء من التردد:"سافرت عبر الزمن" ضحكت:"كنت أعلم أنك ذاتي الأخرى".. حتى أنا كنت أعلم أو بالأحرى كنت أشك في ذلك.. قالت:"أنت في خطر هنا يجب أن لا يعرف أحد بوجودك".. نعم فأنا لست في عصري و لا أعرف أحد هنا.. و سمعتها تقول:" أنا اسمي ريسا و أنت؟" أجبتها و قد أعجبني اسمها:"أنا رميساء"
اقتربت من صندوق موضوع في آخر الغرفة و أخرجت فستانا أبيض مع إيشارب طويل و قدمته لي وقالت:"ارتدي هذه الثياب حتى لا يشك في أمرك أحد" أجبتها:"حسنا" بعدما أكملت ارتداء ذلك الفستان سألتها:
" أتعيشين هنا في هذا المكان؟"
قالت:" لا و لكن عندما أكون في حاجة للإنفراد بنفسي آتي إلى هنا" ثم أردفت و هي تنظر إلي: " أتودين مرافقتي و التجول قليلا" أجبتها: " بكل سرور يسعدني ذلك"
أخذتني إلى المدرج، كان خاليا إلا من بعض الحراس.... قالت و هي تشير إلى تلك المدرجات: " لو أتيت إلى هنا في نهاية الأسبوع لوجدت المكان عامرا بالناس يشجعون و يصرخون " قلت: " إنه نوع من أنواع المسارح"
و عندما استأنفنا المشي لمحت بنيانا يشبه القصر ، كان جميلا يطل على البحر بني على جبل سألتها وأنا أشير إليه: " لمن ذلك القصر" أجابت مبتسمة "تلك كنيسة و ليس قصر، إنها بازليكا القديسة سالسا ، أتريدين الذهاب إلى هناك؟ " أجبت و كنت متشوقة لذلك: " أجل إذا لا يوجد خطر في ذلك" أجابتني: " لا تقلقي فمثل هذه الأماكن لا توجد فيها حراسة كثيرة "
مشينا في طريق ضيق و شاهق.. تعبت كثيرا و لكن ريسا لم تتعب فقد كانت معتادة على ذلك.. وصلنا وقبل أن ندخل سألتني: " هل أنت مسيحية؟" أجبتها: " لا أنا مسلمة"
رأيت التساؤل يعلو ملامحها فقلت لها: " دين سماوي أتى بعد المسيحية"
قالت:"حسنا تعالي و لكن لا تحدثي أي صوت لا أريد أن تسمعنا الأخوات الراهبات و إلا فستكشفن أمرنا"
كان المكان رائعا جدرانه بالفسيفساء، و المنظر المطل على البحر ملهم و كأنها جنه على الأرض..
أكملنا تجوالنا حتى صب الليل علينا ظلامه و بان نور القمر، في تلك اللحظة شعرت بالخوف لأول مرة منذ وجودي في هذا المكان.. سألتها و أنا أرتجف من البرد: " إلى أين سنذهب الآن"
قالت:" اتبعيني"
و اتبعتها باستسلام، اعتلينا الجواد مرة أخرى و مضى بنا مسرعا بين الغابات الكثيفة.. اوقفته أمام مبنى كبير لم أستطع رؤيته بسبب الظلام فسألتها:
"أين نحن؟"
" ستعرفين بعد قليل هيا بنا و لا تحدثي أي صوت"
استجبت لرغبتها و اتبعتها خلف المبنى بهدوء شديد.. دخلنا من باب ضيق، همست قائلة: " هنا أعيش؟" قلت باستغراب و دهشة: " أأنت صاحبة هذا القصر؟" قالت و هي تكمل طريقها: " بل أبي" قلت: "إذن أنت ابنة الملك" أجابت مبتسمة:" اجل"
أدخلتني إحدى الغرف و قالت: " حسنا لدي خطة، سأقدمك إلى أبي و أمي على أنك ذاتي و سأخبره أن الأخت الراهبة قد أخبرتني عنك و أنك مبعوثة إلي من السماء كهدية لأنني تقية و هكذا و أبي لن يشك في الأمر لأنه رجل متمسك و متدين و أظن الأمر سيغبطه كثيرا"
ابتسمت و قلت لها: "أتؤمنين بذلك حقا؟"
أجابت: " لا و لكن أبي يؤمن بذلك" ثم أردفت قائلة: " هيا تعالي سنجده في مجلس الشاي"
دخلنا مجلس الشاي و قبل أن تبدأ في الحديث رأيتها تنحني كالأميرات أمام آباءهن ثم قالت:
" أبي أريد أن أحدثك"
كان رجلا في الأربعين من عمره نظر إلي مندهشا مستغربا من الشبه بيني و بين ابنته و قال و هو يشير إلي:" من تكون؟"
"سأحدثك في المجلس يا أبي"
و كما كانت تظن ريسا لقد صدقها والدها بسذاجة و فرح و رحب بي.. أخذتني هي لجناحها و قد كان جميلا جدا.. قدمت لي شراب التوت اللذيذ... تقاسمت معها سريرها الذي كان يكفي شخصين لكبر حجمه.. و قبل أن أغفو قلت لها: " سعدت بلقائك ريسا" سمعتها تجيبني " و أنا أكثر"
استيقظت على ضجيج مزعج.. أين أنا؟ أين ريسا؟
تعرفت على مكان تواجدي.. إنني في السيارة مع أمي و أبي.. آه لقد انتهت الرحلة.. كم أشتاق إلى ريسا و إلى تيبازة الرومانية.. ابتسمت مازال مذاق عصير التوت في فمي.. تحسست عنقي.. حتى الإيشارب مازال هنا.. كانت رحلة لن تنسى و ستبقى سر بيني و بين ريسا، ترى ماذا تفعل هي الآن؟
تمت