أعلن ستافوس فانو, محامى آش, بصوت ثقيل مختقاً الصمت المشحون بالتوتر, فيما فيما هو يرمق بقلق الرجل المتجهم, الطويل القامة, القوى البنية الذى يجلس قابلته على المكتب "هذه الوصية غير عادلة ابداً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تاريخ توسع الشركة و نجاحها."
لم ينطق آشرون ديميتراكوس, المليونير اليونانى مؤسس شركة (دى تى الكبرى للصناعة) و المعروف باسم آش بين المقربين منه, بنبت شفة. لم يكن يثق بقدرته على الفولاذية على التحكم باعصابه إلا ان هذه القدرة خانته اليوم. لقد وثق بوالده انجيلو , بقدر ما يمكن له ان يثق بأحد ما, اى ليس كثيراً, إنما لم يخطر له ابداً ان الرجل العجوز يمكن ان يهدد الشركة التى بناها آش بجهده الخاص بهذه القنبلة التى شكلتها وصيته الأخيرة . إذا لم يتزوج آش خلال عام واحد, فسيخسر نصف الشركة و سترث زوجة أبيه و اولادها هذه الحصة, علماً بأن وصية والده منحتها الكثير. هذا لا يُعقل, إنه لطلب غير عادل يتناقض مع الضمير و النعايير الاخلاقية العالية التى ظن آش ان العجوز يتمسك بها. برهن ما حدث انك لا تستطيع ان تثق بأحد و كأن آش يحتاج إلى برهان و دليل, كما اثبت ان المقربين منك هم أقدر الناس على طعنك في ظهرك في لحظة لا تتوقعها.
أكد آش من بين شفتيه المطبقتين "دى تى شركتى."
فعارضه سنافوس بصوت أجش : إنما ليس على الورق للأسف. لم تجعل والدك ينقل اسهمه لك على الورق, على الرغم من انها الشركة التى بنيتها انت, و لا نقاش في هذا."
لم يجبه آش. و قطب حاجبيه فوق عينيه الداكنتين و الباردتين بروموشهما الطويلة جداً وراح يتأمل المشهد الشامل لمدينة لندن التى يشرف عليها مكتبه فيما بدت ملامحه الوسيمة جداً والنحيلة متحفظة و كتوترة للغاية.
و عندما تكلم في نهاية الامر قال "إن الطعن بالوصية امام المحاكم سيتطلب وقتاً طويلاً و يُضعف كثيراً فدرة الشركة على العمل."
اقترح المحامى بضحكة خافتة ساخرة: "إختيار زوجة لك هو الحل الأقل ضرراً بالتأكيد. هذا كل ما تحتاج لأن تفعله كى تعيد الأمور إلى نصبها."
فأجابه آش من بين اسنانه المطبقة, و قد اطلق العنان للحظات لطباعه الحادة فيما هو يفكر في المرأة المشوشة تماماً التى توقع منه والده المضلل أن يختارها للعب هذا الدور "كان ابى يعلم اننى لا انوى الزواج ابداً. و لهذا السبب تحديدا فعل فعلته هذه. لا اريد زوجة ولا اريد اولاداً. لا اريد لأىّ من هذا ان يفسد حياتى!"
تنحنح ستافوس فانو و نظر إلى رب عمله نظرة مشوشة وراح يقيمه. لم يسبق له ان رأى آشرون ديميتراكوس غاضباً او لعل الأصلح أنه لم يره يُظهر اى شعور. فالمليونير, رئيس شركة دى تى, بارد كـ الثلج, بل لعله أشد برودة منه إذا ما صدقنا النساء العديدات اللواتى تخلى عنهن في قصص غرامه القصيرة. كانت تصرفاته الباردة و المنطقية, و تحفظه و انعدام الشعور الإنسانى لديه مضرب مثل بين من عرفوه. و تقول الشائعات إنه طلب من إحدى مساعداته, التى شعرت بآلام المخاض أثناء اجتماع عقده, ان تبقى حتى انتهاء الاجتماع.
علق المحامى بحذر, و هو يفكر في زوجته التى قالت إنها ستصاب بالإغماء إن رأت وجه آشرون حتى في صورة "أعذرنى على بلادة ذهنى لكنى أرى ان النساء سيقفن صف كى يتزوجن بك. و التحدى يكمن في اختيار زوجة وليس في العثور على واحدة."
اطبق آش شفتيه في رد حاد على هذا الكلام, رغم انه ادرك ان الرجل اليونانى القصير القامة يحاول ان يقدم يد العون. كان يعلم انه يكفى ان يشير بإصبعه ليحصل على زوجة بسرعة و سهولة كما يحصل على اى امرأة لفراشه. و كان يدرك تماما ما يجعل المسألة بهذه السهولة: فالمال يشكل عاملاً جاذباً. فهو يملك اسطولاً من الطائرات الخاصة و مجموعة من المنازلحول العالم, فضلاً عن الخدم الذين يبقون دوماً على اهبة الاستعداد لخدمته و خدمة ضيوفه. و هو يدفع جيداً لقاء الخدمات الجيدة. كما كان عشيقاً كريماً لكنه يتخلص من المرأة بقسوة و سرعة كلما رأى علامات الطمع و السعي خلف المال أكثر و أكثر قبل ان يلاحظ الجسد الجميل ما جعل الجنس أقل مما يرغب على جدول اعماله. فهو يحتاج الجنس كما يحتاج الهواء ليتنفس و لم يستطيع ان يفهم لِمَ يجد الطمع و النفاق اللذين يترافقان معه منفرين للغاية. يبدو أن اثراً من الحساسية المفرطة التى يكرهها مدفون في مكان ما في اعماقه, و راسخ بحيث يعجز عن اقتلاعه من جذوره.
و لعل الأسوأ هو أن آشرون عرف السبب الكامن خلف الوصية, و لم يسعه سوى ان يتعجب عن عدم قدرة والده على ان يفهم أنه يعتبر المرأة التى يحاول أن يدفعه نحوها بغيضة. قبل ستة اشهر من وفاة الرجل العجوز, حصلت مشادة عنيفة في منزل والدهـ, فتجنب آشرون زيارة المنزل منذ ذاك الحين مما شكل إسفينا إضافياً دُق في نعش عروس المستقبل. حاول أن يناقش المشكلة مع زوجة أبيه لكن أياً منهما لم يكن مستعداً للاستماع للمنطق و لغة العقل, لا سيما والدهـ الذى أثرت فيه قدرة السيدة على التمثيل ليقرر ان الشابة التى رباها منذ الطفولة ستشكل الزوجة المثالية لأبنه الوحيد.
و عاد المحامى يقترح بعفوية "يمكنك طبعاً ان تتجاهل الوصية بكل بساطة و تشترى حصة زوجة ابيك في الشركة."
رمق آش الرجل الذى يكبرهـ سناً بنظرة تهكميه و اجاب "لن ادفع ثمن ما هو حق لىّ. شكرك على وقتك."
فهم ستافوس إشارة آش فهب واقفاً على عجل ليغادر بعد أن قرر أن يُطلع زملاءه على الوضع فوراً بغية وضع خطة عمل "سنجد أفضل الأدمغة في المؤسسة لإيجاد حل لهذه المعضلة."
اطبق آش أسنانه فبدا فكه قاسياً و كأنه صخرة منحوتة, و أومأ برأسه على الرغم من أنه لم يكن يأمل كثيراً في إيجاد خطة إنقاذية. فقد علّمته التجارب أن والده ما كان ليتصرف من دون أن يلجأ إلى مستشار قانونى ليطلب نصيحته وما كان ليضع شرطاً ملزماً كهذا في وصيته لولا ثقته بأنه غير قابل للنقض.
زوجة! أثارت هذه الفكرة اشمئزازه. علم منذ صغره أنه لن يتزوج يوماً و لن يكون اباً لطفل ما. فهو لم يرث جينات الرعاية و الاهتمام و المحبة, و لم يرغب يوماً ان يكبر أحدهم على صورته و مثاله أو ان يكمل طريقه كما لم يشأ أن يورث طفلاً ما الجانب المظلم من شخصيته, هذا الجانب الذى لطالما حبسه في داخله و دفنه في اعماقه. في الواقع, هو لا يحب الأطفال حتى, و إحتكاكه المحدود بهم أكد قناعته بأنهم يسببون الإزعاج و الضجيج و أن التعامل معهم صعب للغاية. لِمَ قد يرغب أى عاقل بشئ لابد من رعايته على مدى اربع و عشرين ساعة في اليوم, شئ يحرمك النوم لـ ليالٍ؟ و لِمَ قد يرغب أى رجل بامرأة واحدة فقط في سريره؟ المرأة نفسها, ليلة تلو الأخرى, و أسبوع بعد الآخر. و ارتعد آش حين تراءت له صورة هذا القيد الجنسي.
ثمة قرار عليه ان يتخذه, فقرر ان يتصرف سريعاً قبل أن يشيع خبر هذه الوصية السخيفة في سوق الاعمال و يلحق الضرر بالشركة التى تتمحور حياته حولها.كررت عاملة الاستقبال الرشيقة و الباردة كلامها "ما من احد يقابل السيد ديميتراكوس من دون موعد و علم مسبقين. إن لم تغادرى يا آنسة غلوفر فسأضطر لاستدعاء الأمن كى يخرجوكِ من المبنى."
ما كان من تابى إلا أن ارتمت بجسدها النحيل على الآريكة الوثيرة في قاعة الأستقبال فيما جلس قبالتها رجل يكبرها سناً, يتفحص وثائق اخرجها من حقيبته و يتحدث بلغة اجنبية على هاتفه الخلوى. كانت تعلم ان مظهرها مزرِ إلا أن هذا لم يؤثر على ثقتها في نفسها زهرة منسية في هذا المحيط الفخم منتديات ليلاس, فهى لم تنم جيداً منذ بعض الوقت و لم تعد تملك ملابس لائقة كما أنها يائسة. وحدهـ اليأس التام جعلها تقصد شركة دى تى لتطلب مقابلة ذاك الرجل الذى رفض باختصار ان يتحمل مسؤولية الطفلة التى احبتها تابى بكل جوارحها. إن آشرون ديميتراكوس حيوان أنانى و متعجرف و ما قرأته عن علاقاته النسائية في إحدى المجلات التى تنشر الفضائح لم يحسن رأيها فيه. هذا الرجل الذى يملك مالاً لا يُحصى أدار ظهره لأمبر من دون أن يُبدى أىّ رغبة في لقاء تابى بصفتها وصية عليها معه او من دون أن يسأل عن وضع الفتاة الصغيرة.
استدعت عاملة الاستقبال رجال الأمن بنبرة واضحة و رنانة تهدف دون شك إلى إخافة تابى قبل وصول الحراس. انقبض وجهها الصغير لكنها لازمت مكانها و قد توتر جسدها النحيل فيما هى تحاول التفكير سريعاً بمقاربة أخرى لأن خطة اقتحام مكتب آش لم تكن تسير جيداً. لكن لم يكن أمامها خيار, على الرغم من أنها أدركت أن الوضع خطير للغاية بما أن هذه الشخصية القاسية الفؤاد أصبحت املها الوحيد.
تدخل القدر حين لم تكن تتوقع هذا و اضاعت لحظة في التحديق حين رأت الرجل طويل القامة الذى اعتادت أن تراه في المجلات يقطع ردهة الاستقبال و في إثره بعض الرجال الذين يرتدون بزات رسمية. هبت تابى واقفة و ركضت خلفه و هى تنادى بـ اسمه الذى وجدت صعوبة في لفظه "سيد ديميتراكوس! سيد ديميتراكوس!"
ما إن توقف الرجل طويل القامة و القوى عند المصعد وراح ينظر إليها بعدم تصديق, حتى وصل رجال الأمن مسرعين و هم يتلعثمون بالاعتذارات للرجل الذى يقف قبالتها!
"أنا تابى غلوفر, الوصية الثانية على أمبير!
راحت تابى تشرح له بعجلة فيما امسك الرجلان اللذان برفقته بذراعيها فجأة و أبعداها خطوة عنه. و تابعت تقول "يجب أن اتحدث إليك.... حاولت أن آخذ موعداً لكنى لم أستطيع رغم أنه من المهم للغاية أن اتحدث إليك قبل نهاية الأسبوع!"
خطر لـ آش بـ استياء أنه لابد من تعزيز الحراسة و الآمن إذا ما سُمح ل امرأة مجنونة أن تستوقفه في مبناه الخاص. ارتدت المرأة الشابة سترة باليه و سروالاً واسعاً و حذاء رياضياً فيما ربطت شعرها الفاتح اللون إل الخلف و لم تتكبد عناء وضع اى مساحيق تجميل على وجهها الشاحب. بدت صغيرة و نحيلة اى انها ليست من النوع الذى يجذبه او يلفت انتباهه.... لكن ما إن جزم بذلك حتى لاحظ عينيها الملفتتين بلونهما الازرق الذى يتدرج ليحاكى البنفسجى و اللتين تطغيان على ملامحها الأخرى الصغيرة.
و أضافت تابى لاهثة "أرجوك! لا يمكن ان تكون بهذه الأنانية... لا يمكن لأحد أن يكون كذلك! والد أمبير كان فرداً في اسرتك..."
فاجابها آش بنبرة جافة "ليس لدى عائلة." و أضاف متوجها إلى رجال الآمن الذين حلوا محل مرافقيه في اعتقال تابى رغم انها لم تبدى أى نقاومة "رافقوها إلى الخارج و احرصوا على ألا يتكرر هذا الامر."
أخذها سلوكه على حين غرة فهو لم يمنحها خمس دقائق من وقته كما بدا جلياً انه لم يعرف حتى اسم آمبير, فألتزمت تابى الصمت للحظات, لكنها سرعان ما استعادت قدرتها على الكلام و انهالت عليه بالشتائم, مستخدمة عبارات لم تتلفظ بها قط من قبل. التمعت عيناه بعدائية غاضبة صدمتها للحظة إذ ما اكتشفت ان الواجهة الباردة التى يختبأ خلفها تخفى اعماقاً مظلمة.
و تدخل صوت آخر "سيد ديميتراكوس...؟"
أدارت تابى رأسها لتتفاجأ برؤية الرجل الذى رأته من قبل يجلس إلى جانبها في قاعة الانتظار.
اندفع ستافوس فانو إلى منتديات ليلاس الأمام ليُذكر آشرون ديميتراكوس بصوت هادئ يدل على الاحترام "الطفلة.... هل تذكر طلب الوصاية من قريبك الذى توفى و الذى رفضته قبل أشهر؟"
تحركت ذكرى غير مترابطة في مكان ما من عقل آش مما جعله يقطب حاجبيه و يسأل "ماذا عنها؟"
صرخت تابى في وجهه و قد استفزها ألا يقوم بأى رد فعل و ألا يبالى بمصير أمبير و ما لهذا السلوك من تبعات على الفتاة "أيها السافل الأنانى! سألجأ إلى الصحافة.... أنت لا تستحق سوى هذا. كل هذا المال المكدس و لا تحسن استخدامه للخير!"
"أصمتى! اصمتى!" نهرها آش باليونانية و من ثم بالإنكليزية.
فأجابته غير متأثرة و قد انتفضت فيها روح المقاومة التى جعلتها تتجاوز سنوات من الخسارة و خيبات الأمل و قوّت عزيمتها "ومن سيجعلنى اصمت, أنت و جيشك الجرار؟"
التفت آشرون إلى محاميه ليسأله و كأنها غير موجودة "ما الذى تريده؟"
رد ستافوس بنبرة حملت تلميحاً خفياً "اقترح ان نناقش هذا في مكتبك."
شعر آش بصبره ينفد. قبل ثلاثة ايام فقط, عاد من جنازة والده و لم يتمكن من أن يحزن على الرجل المسن الذى تةفى فجأة جراء أزمة قلبية إذ غرق في مشاكل أسبوع يثير الإحباط. آخر ما يحتاجه هو مشكلة إضافية بشأن طفل لم يلتقطه قط ولا يأبه لأمره. تروى فالتينوس, نعم, لقد تذكر الآن هذا القريب الذى لم يلتقيه أبداً و الذى توفى فجأة محاولاً ترك طفلته تحت رعاية آش. إنه تصرّف مجنون لا يمكن تفسيره! هذا ما خطر لـ آشرون و هو يتذكر الحوار المقتضب الذى دار بينه و بين ستافوس قبل أشهر. إنه رجل عازب, من دون أسرة, و دائم السفر, فكيف يمكن لأحد على وجه الأرض ان يفترض انه قادر على التعامل مع طفلة يتيمة؟
لجأت تابى إلى الكذب بشجاعة في محاولة منها لبناء جسر من التواصل بينهما و دفعه للاستماع إليها "أنا آسفة لأنى شتمتك. ما كان علىّ أن افعل هذا..."
فأجاب آش بصوت جليدى أشبه بالفحيح "كلامك كتلة من القذارة. اتركوها. يمكنكم أن ترافقوها إلى الخارج عندما أنتهى منها."
صرّت تابى على اسنانها, و رتبت سترتها ثم مررت يديها بتردد على فخذيها. تأمل آش بسرعة وجها البيضاوى الشكل, و تركز اهتمامه على فمها الزهرى الجميل فيما تراءت له صوراً عن استخدامات افضل من الشتائم لهذا الفم. شعور الإثارة الذى تملكه زاد من عصبيته و من سوء مزاجه, و ذكره بأن وقت طويل مر منذ استسلم آخر مرة لرغباته. و أدرك أنه في حالة سيئة للغاية إن كان يتفاعل مع امرأة جاهلة كهذه.
اضاف بنفور بارد "سأمنحك خمس دقائق من وقتى الثمين."
فردت تابى بنبرة ساخرة "خمس دقائق فيما حياة الطفلة و سعادتها على كف عفريت؟ يا لكرمك!"
اجتاحت آشرون موجة من الضغينة لأنه لم يعتد مثل هذا السلوك الفظ, لا سيما من النساء "أنت وقحة بقدر ما أنت فظة و سوقية الألفاظ."
"لقد اوصلنى هذا إلى بابك, أليس كذلك؟ لم يوصلنى التهذيب إلى أى مكان."
و راحت تابى تفكر في الاتصالات الهاتفية العديدة التى اجرتها لتحصل على موعد إنما من دون جدوى. هل يهمها فعلا إذا ما نعتها هذا المتكبر المدلل الذى يملك ثروة طائلة بالفظة و السوقية؟ إلا ان عقلها كان يؤنبها على مقاربتها العدائية و البعيدة كل البعد عن التصرف الحكيم المناسب لهذه الظروف. ليتها تستطيع ان تتجاوز الواجهة الجليدية التى يضعها آشرون ديميتراكوس بينه و بين العالم, فهو قادر على مساعدة أمبير في حين أنها لا تستطيع ذلك. فالشئون الاجتماعية ترى أنها لا تُعتبر وصية مناسبة على أمبير لأنها عزباء و لا تملك المال كما لا تملك بيتاً مناسباً.
استعجلها آشرون بعد أن اغلق باب مكتبه "هيا تكلمى!"
"أحتاج مساعدتك كى تبقى أمبير تحت رعايتى. أنا الأم الوحيدة التى عرفتها و هى متعلقة بىّ, تخطط الشئون الاجتماعية لأخذها يوم الجمعة و وضعها في مركز حضانة حتى يتم تبنيها.
تدخل ستافوس فانو, محامى آشرون, قائلاً بصوت متعقل كما لو انه يتوقع منها ان تكون مستعدة لتسليم الطفلة التى تحبها "أليس هذا افضل حل في ظل الظروف الراهنة؟ اتذكر انك عزباء و تعيشين بفضل الإعانات الاجتماعية و ستشكل الطفلة عبئاً كبيراً عليك..."
شعر آشرون بالدم يتجمد في عروقه ما أن سمع عبارة (مركز حضانة) إلا ان الشخصين الموجودين معه في المكتب لم يلاحظا ردّ فعله. إنه سر دفين, فلا احد يعلم أن آش أمضى سنوات من عمره في الحضانة, بالرغم من أن امه كانت واحدة أثرى الوريثات في تاريخ اليونان, فأنتقل من منزل إلى آخر, و من عائلة إلى أخرى, و أختبر الرعاية الصادقة و اللامبالاة كما عرف القسوة المفرطة و حتى الاستغلال. و لم ينس يوماً هذه التجربة.
اعترضت تابى و رمقت وجه آشرون بنظرة تعكس الجرح الذى لحق بكبريائها "لم اعش على الإعانات منذ أن توفيت صونيا, والدة أمبير. اعتنيت بـ صونيا حتى لحظة وفاتها و لهذا السبب لم استطيع ان اعمل. اسمع! أنا لست فتاة استغلالية. قبل عام, كنت املك انا و صونيا عملنا الخاص الذى بقى مزدهراً حتى وفاة تروى و إصابتها هى بالمرض. و خسرت مع خسارتهما كل شئ. أمبير هى اهم ما لدى في عالمى, لكن و على الرغم من أن تروى اختارنى كـ أحد الوصيين عليها, إلا أن ما من روابط دم تجمعنى بها بما يحدّ من حقى في المطالبة بحضانتها بحكم القانون."
استفهم آش بنبرة جافة "لِمَ جئتِ إلىّ؟"
فتحت تابى عينيها و قد أثار موقفه اعصابها رغماً عنها "لطالما اعتبرك تروى شخصاً رائعاً....."
توتر آش, مذكرا نفسه بأن كل ما قالته لا يعني, إلا ان فكرة إرسال طفلة بريئة إلى مركز حضانة اثار الكثير من ردود الأفعال المتنوعة و القوية في داخله, ردود افعال ناجمة عن ذكرياته الخاصة.
"لكنى لم ألتقِ تروى ابداً."
"حاول ان يقابلك لأن والدته أولمبيا كانت تهتم بشئون والدتك بحسب ما اخبرنى."
و فجأة, قطب آشحاجبيه السوداوين المستقيمين فيما عاودته الذكريات القديمة. تذكر جيداً أولمبيا كاروليس التى عملت لدى والدته. لم يُدرك عندما أُثيرت مسألة الوصاية أن تروى هو ابن أولمبيا لأنه عرفها باسمها قبل الزواج فقط, على الرغم من أنه عاد بذاكرته إلى حدّ أنه تذكر بشكل ضبابى أنها كانت حاملاً عندما تركت عملها لدى والدته. هذا الولد هو تروى على الأرجح.
قالت له تابى بإيجاز "كان تروى تواقاً لإيجاد عمل هنا في لندن إذ كنت مثله الأعلى في الأعمال."
كرر آش بسخرية "كنت...... ماذا؟"
و تدخل ستافوس فانو قائلاً بثقة بعد ان شعر أنه قادر على التعامل مع هذه المسألة بسهولة أكبر من تعامله مع تلك الوصية التى تتطلب الكثير من البحث و الجهد لإيجاد مخرج مناسب لها "الإطراء الكاذب لن يُجدة نفعاً و لن يحسن الوضع."
عارضته تابى بحدة و غضب و هى تركز انتباهها مجدداً على آش "ما قلته لم يكن إطراء و لا كذباً. أنها الحقيقة. كان تروى معجباً جداً بإنجازاتك المهنية حتى انه درس و نال الشهادة نفسها مثلك. كما انه لطالما اعتبرك رئيس اسرته مما يفسر اختياره لك كوصى على ابنته."
عندئذ همس آش بنبرة ساخرة, فيما نظراته تتأملها و تزيد من توترها "و انا بسذاجتى المعروفة ظننت انه اختارنى لأنى غنى."صرخت تابى في وجهه بغضب عارم و قد التهبت عيناها البنفسجيتان بمشاعر متقدة "أنت شخص بغيض و ملئ بالحقد و الكراهية! كان تروى رجلاً رائعاً. هل تظن فعلاً انه كان يدرك انه سيموت في حادث سير في سن الرابعة و العشرين؟ أو ان زوجته ستُصاب بجلطة بعد ساعات من إنجابها طفلتهما؟ ما كان تروى ليأخذ قرشاً لم يكسبه بعرق جبينه من اى شخص كان."
ذكرها منتقداً "لكن هذا الرجل ترك ارملته و ابنته من دون مال."
"لم يكن يعمل فيما كانت صونيا تكسب ما يكفى من المال بفضل عملها. لم يكن أياً منهما يتوقع بالطب انهما سيموتان بعد عام من كتابة الوصية.
"لكن من العدل ان يسمينى وصياً على ابنته من دون ان يناقش المسألة معى. كان عليه ان يطلب الإذن منى اولاً فهذا هو التصرف الطبيعى."
لم تعلق تابى على كلامه بل التزمت الصمت. أقرّت في داخلها أنه محق لكنها رفضت ان تعترف بذلك.
و عاود تافو ستافوس التدخل و قد اربكه مستوى العدائية بين رب عمله الذى لا يفقد عادة رباطة جأشه و زائرته الغريبة الأطوار
"ربما يمكنك ان تخبرينا كيف يمكن للسيد ديميتراكوس برأيك ان يساعدك كى نتجنب إضاعة المزيد من الوقت؟"
"اريد ان اطلب من السيد ديميتراكوس ان يدعم رغبتى في تبنى أمبير ."
فسأل المحامى على الفور "لكن هل هذا هدف واقعى يا آنسة غلوفر؟ فـ أنتِ لا تملكين منزلاً أو مالاً أو حتى شريك حياة. و خبرتى مع مصلحة الشؤون الاجتماعية و قضايا الوصاية على الأطفال تقول إنك تحتاجين كحدّ أدنى إلى حياة مستقرة لتعتبرى مرشحة مناسبة لتبنى طفلة."
إتخذت تابى موقفاً دفاعياً و سألته بحدة "ما علاقة أن يكون لدىّ شريك حياة بهذا؟ كان لدىّ العام الفائت ما يكفى من الانشغالات لأضيع وقتى في البحث عن رجل......"
قاطعها آشرون من دون تردد "و يُعتبر العثور على رجل تحدياً مع اسلوبك في التعاطى."
فتحت تابى فمها الشهوانى و اطبقته بغضب ثم دنت خطوة من الثرى اليونانى لتقول بحنق "أتتهمنى بأننى قليلة التهذيب و بأنى لا احسن التصرف؟ و ماذا عنك أنت؟"
تأمل ستافوس هذيين الشخصين الراشدين اللذين يقفان قابلته, يتشاجران و يتبادلان الشتائم تماماً كولديه المراهقين ثم اشاح ينظره عنهما قبل أن يسأل "آنسة غلوفر؟ وجود شريك في حياتك سيشكل فرقاً كبيراً في طلبك. إن تربية طفل في أيامنا هذه مليئة بالتحديات و من المعروف أن وجود الوالدين يجعل الأمر أكثر سهولة."
ردت تابى بحدة "من المؤسف ان العثور على شريك بين ليلة و ضحاها ليس بالامر السهل !"
تمنت لو يفكر هذا الرجل البائس في شئ آخر غير وضع العراقيل أمام سعيها لتبنى أمبير. أليس لديها ما يكفيها من هموم؟ لمعت فكرة غريبة في عقل ستافوس فنقل نظره إلى آشرون متوجها إليه بالحديث باللغة اليونانية "أتعلم, يمكنكما ان تساعدا بعضكما البعض..."
عبس آش و سأله "كيف هذا؟"
"هى تحتاج إلى حياة مستقرة و شريك كى تنال الوصاية على الطفلة.... و أنت تحتاج زوجة. و مع بعض التنازلات من كلا الجهتين و التفاوض القانونى الجدى, يمكن لكل منكما ان يحصل على ما يريد ولا حاجة لأن يعرف أحد غيركما الحقيقة."
لطالما كان آشرون سريعاً في تلقف الفرصة و في امتصاص الصدمات لكنه بقى لثوانٍ مذهولاً, لا يُصدق ان ستافوس تفوه بهذا الكلام, أو حتى تجرأ على ان يقترح مثل هذه الفكرة المجنونة. رمق تابى غلوفر و عيوبها الظاهرة بنظرة إزدراء ثم قطب حاجبيه قبل ان يقول لمحاميه بنبرة تُعبّر عن الشك "هل جننت؟ إنها فتاة بذيئة اللسان, عديمة التهذيب!"
فأجابه الرجل الأكبر سناً على الفور "لديك المال الكافى لتنظيفها و تظهر معها امام الناس. أنا اتحدث عن زوجة تدفع لها لتكون زوجتك, و ليس عن زوجة عادية. إذا تزوجتما فستنتهى مشاكلك المتعلقة بملكية الشركة كلها..."
في الصمت المتوتر, ركز آشرون على المشكلة الوحيدة الضخمة التى لن تزول في هذه الخطة و هى تابى غلوفر. لم تثر مسألة الزوجة وحدها ذعره, بل كان يفكر في ما عرفه عن تروى فالتينوس و امه المرحومة اولمبيا مما جعل ضميره يؤنبه.
"لا استطيع ان اتزوجها, فهى لا تعجبنى...."
"و هل ينبغى ان تعجبك؟ ما خطر لىّ أن هذا من المتطلبات الأساسية كى تفى بشرط قانونى لحماية شركتك. لديك الكثير من الممنازل. أنا واثق من أنك تستطيع ان تضعها في واحد منها فلا تلاحظ حتى وجودها."
منتديات ليلاس
فاجأ آشرون محاميه حين قال بحزم "في هذه اللحظة, يجب ان ينصب اهتمامى على الطفلة. أريد أن اطمئن عليها و على وضعها. لقد تجاهلت مسؤولياتى و اهملتها."
و فيما رمق ستافوس آش بنظرة قلقة بعد انحرافه المفاجئ و البعيد كل البعد عن شخصيته نحو الاهتمام بوضع الطفلة, شبكت تابى ذراعيها على صدرها في إحباط و حدقت في الرجلين بعينين تقدحان شرراً و قالت "إذا ما استمريتما في تبادل الحديث بلغة اجنبية و بالتصرف كما لو انى غير موجودة...."
همس آش بصوت ناعم "ليتك لم تكونى هنا."
كورت تابى قبضتيها و قالت "أراهن ان قلة من النساء ضربنك في صغرك!"
تحدتها العينان السوداوان اللامعتان فيما ارتسمت على وجهه القوى النحيل ابتسامة مفاجئة "لم تجرؤ واحدة...."
ذكرت تابى نفسها بـ أمبير, و اعتصرت قلبها لمجرد التفكير في الطفلة التى تحب. لقد جاءت تطلب مساعدته من اجل مصلحة أمبير و حاجات أمبير اهم من أى اعتبارات اخرى, و اهم من شعورها نحو هذا الرجل البغيض. نزلت عليها ابتسامته المذهلة كـ طوفان من المياه الباردة. كان وسيما بشكل لا يُصدق, إلى حد يقطع الألنفاس و آلمها أن يجد ردود افعالها مسلية. في الواقع, لم تكن تابى يوما واهمة بشأن قدرتها على إثارة رغبات الرجالكـ امرأة. و على الرغم من أنها اقامت العديد من الصداقات مع شبان في مثل سنها إلا أنها لم تخرج مع الكثير من الرجال و حاولت صونيا ذات مرة أن تلفت انتباهها إلى انها قد تكون سليطة اللسان و مستقلة جداً و ميالة إلى النقد إلى حد لا يجذب الرجل العادى.
سارع ستافوس إلى التدخل قبل ان يحتدم الصراع بين الأثنين "أتريد ان ترى الطفلة؟"
فجأة ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه تابى اشبه بأشعة الشمس المتلألئة فراح آشرون يتأملها بشكل مركز, مطيلاً النظر إلى ملامحها الناعمة, مدركاً أنه قد يجد امرأة تحت هذه الواجهة من حب القتال. لطالما احب النساء اللواتى يفضن أنوثة, انوثة فعلية. اما هذه المرأة فغير ناضجة و غير مصقولة و هى ايضاً الوصية على حفيدة اولمبيا كما ذكر نفسه بعناد, مكافحا كى يركز على العنصر الأهم في المعادلة كلها. و العنصر الأهم هو الطفلة أمبير. أطلق في سرّه شتيمة لأنه لم يكتشف العلاقة من قبل, و لعن كرهه الفطرى للارتباط بأى شئ آخر عدا عمله. لم يكن لديه اقارب, أو علاقات حب أو حتى مسسؤوليات خارج إطار شركته و هذا ما يحبه في حياته, إنما ليس على حساب الحد الأدنى من اللياقة و الأصول. و تبقى ذكرياته عن اولمبيا التى طالما كانت لطيفة و ودودة مع الصبى الذى اعتبره الآخرون مزعجاً و مصدراً للمتاعب, من الذكريات الجميلة التى احتفظ بها من طفولته.
أكد آشرون "نعم. أريد ان أرى الطفلة في اسرع وقت ممكن."
أمالت تابى رأسها و قد أخذها هذا التغيير في موقفه على حين غرى "ما الذى جعلك تغيير رأيك؟"
آخذ آشرون نفساً عميقاً و قد تملكه الغضب لأول مرة من نظام الحماية و الدعم المتقن الذى اقامه من حوله إذ يحرص الأشخاص الذين يعملون لحسابه على ألا يشغلوا باله بأى تفاصيل من شأنها ان تلهيه عن العمل "كان علىّ أن اتحقق شخصياً من وضعها عندما علمت بشأن الوصاية, لكنى سأهتم بذلك الآن. و اعلمى جيداً يا آنسة غلوفر أنى لن ادعم طلبك لتبنى الطفلة ما لم اقتنع بأنك الشخص المناسب لرعايتها. اشكرك على مساعدتك يا ستافوس, إنما ليس على الاقتراح الأخير...."
التقت العينان الداكنتان الساخرتان بنظرة المحامى العابسة قبل ان يردف "أخشى ان تلك الفكرة تنتمى إلى عالم الأحلام."
أنت تقرأ
أكثر من حلم أقل من حب روايات عبير للكاتبة لين غراهام
Romanceتابى كلوفر, الفتاة العنيدة و السليطة اللسان مستعدة ان تفعل اى شئ كى تجعل البليونير اليونانى آشرون ديميتراكوس يدعم طلبها لتبنى ابنة قريبه الصغيرة, لكن آخر ما تتوقعه هو عرض الزواج! لم يكن امامها من خيار سوى القبول.... حتى لو لم يتوقف الثرى المتعجرف عن...