المنبـوذ !

82 5 3
                                    

ما أن جلبوا لي الورقة لأكتب و أدون التعهد بتحملي مسؤولية الخروج وما يترتب عليها من أضرار قد تلحق بي ، حتى شعرت بأنهم يحاولون أذلالي و أخباري بأنني قد بتُ عاجزاً حتى عن الكتابة و التوقيع وأخذت القلم بشمالي محاولاً وساعياً لبذل جهدي ليستقيم القلم بيدي ويكتب بضع كلمات تكون مفرداتً و جمل ، لقد كان الخط مبعثراً كا كومة من حطام قرية متبعثر مر بها طوفان ، بل حتى أنني كنت أقراء لهم ما أكتبه حتى لا يصعب عليهم فهمهم و يطلبون مني أعادة ما كتبت ، قد تبدو أشياء سهل و بسيطة حتى لصبيان لكن ليس لرجل فقد كل شيء في لحظات قصيرة من حياة مليئة بالبؤس ، وحينما أتت لحظة التوقيع تحركت وماجت الذكريات الحزينة فقد كان أخر تعهد و توقيع بيدي اليمنى كان أن أقسم بحماية جنودي و أن أغادر كالجندي الأخير من ساحة المعركة ، الأن أوقع بلا يدي ولا جنودي ولم أوفي بقسمي و عهدي ، وقعت و أغلق التعهد و طلب مني المغادرة ، لأن مريضاً أخر سوف يأتي لأخذ سريري ، في تلك اللحظة تمنيت تمزيق التعهد وطلب المغادرة ولكن الأمر قد مضى ، وسبب تفكيري بذلك بأنني كنت أخشى مشاهدة أعين الناس حينما تبصرني وهي تلاحقني وترمقني وقد أعتادوا رؤيتي بهيئة الكاملة ، ما الكلام الذي سيقال ؟ كيف سأخبرهم بأنني قد فقدت جنودي و وظيفتي ؟ هل وصلت الأخبار التي تتحدث عن هروبي ؟ كان الأمر أشبه برجل ملك و أستولى على كل شيء لكنهُ قد كبر ونسي كل شيء فأصبح يهيم مكباً على وجهه في طرقات المدينة كسكيراً ثمل و أخذ أبنائهُ ماله ونهبت زوجته املاكه و أصبحت تعاشر و ترافق صديقه وتهبُ من ماله الذي قد نهبته ، وفي لحظة عابرة وهو يتسكع كعادته يعود اليه عقله و تسترد ذاكرته فلا يصدق بأنهُ قد أرغمه التقدم بالسن على نسيان عائلته أبنائه الابرياء و زوجته الفاتنة و صديقة الذي رافقه طيلة عمره ، فتغمره البهجة وتحيط به السعادة فيركض هاماً الى قصره ، وحينما يصل يجد بأن ذكراه قد محي وأبنائه قد تفرقوا و نهبوه و زوجته التي أقسمت بأن القبر هو السبيل الوحيد لأخذها من القصر الذي هو به و صديقة الذي تشارك معه كل شيء وتعاهدا بأن يبقى كلً منهما سنداً للأخر ، يجدهما في شرفة القصر يتبادلان القبلات الماجنة والضحكات العالية وهما غارقين في النعم التي هو من أحاطهم بها ، وفي تلك اللحظة التي يعي بها ذلك وبأن عجلة الحياة تسير ولا تكترث لمن يتوقف عن الركض معها وتسعى لسحقه وتركه خلفها مذلولاً معان وحيداً كسير يصرخ ويبكي و يدعي للاله بأن يعيد له تلك النعمة ، ليست نعمة القصور و الأموال أنما نعمة النسيان ، لكنه ما أن يخفض يديه بعد رجائه للاله حتى يصعد الى أعلى القصر ويلقي بنفسه على الأرض فيسقط صريعاً قتيلاً ، سيقال مجنون أو مسناً خرف فقد ذاكرته ثم عقله ، ولم يعلموا بأنه كان بنعمة وسعيداً بدونها وما أن عادت اليه حتى هرب منها الى جنة الموت .
أنني لا أعي ما أقول فلما أقارن حياتي بحياة ذلك المسن الغني ، لقد عاش سعيداً طيل حياته حتى في لحظاته البائسة والحزينة وهو يصعد الى أعلى القصر كان يبدو في غاية السعادة بالنسبة للجحيم الذي أحط بي واصابني من كل جانب .
هممت بالتحرك وغادرت المستشفى بجسداً قد نقص و حباً قد أندثر ، وقد سطع ضوء الشمس في عيناي حينما أطليت على القرية وسكانها الذين كانوا يعيشون ذلك اليوم كعادتهم بالعمل الدأوب و الكدح شعرت أن عجلة الزمن قد سارت وتركتني خلفها وحيداً ، بخطى ثقيلة أجرها بالأنكسار و رأساً مطاطأ لا يرغب الإ بالنظر في موضع قدميه وقد حاولت جاهداً أخفى يدي عن الأعين ، لكن كيف لنا أن نخفي من لا وجود له ؟ هذا محال .
شعرت بالهمسات و الكلمات تلاحقني لقد أنتشر خبر و أشاعة هروبي الى هنا لقد أنتشرت كالضوء في الظلام ، فلا حديث حولي سوى عن جبني و هربي ، تشارعت الخطوات حتى أنتي أصبحت أعدو كالمجنون لقد أختل توازني مرات و مرات ولكني في كل مرة أنهض مسرعاً و أطلق ساقي للريح حتى لا أستمع لتلك الكلمات و الأكاذيب ، ومن فرط سرعتي و أنشغلي بالهرب وجدت نفسي تحت شرفتها التي كنت أحادثها منها و أخطفها من ضحيج العالم و بؤسه الى الجنة التي كُنت أظن بأنها سعيدة بها ، لقد رغبت بأن أشكو ألي منها فهي المذنب و الحكم و القاضي و المتهم ، أدركت بأن لأحد يسندني في تلك اللحظات ، أصبحت أسير غير مكترث لما يقال حولي وليس لأنني أصبت بداء التلبد بل لأنني غرقت و أنجرفت في ضجيجاً و سيل من الذكريات و الأفكار التي أمتلئت بعقلي .
وصلت ألى منزلنا المعتق والذي كانت أحلامي و أوهامي تخبرني بأنني سأحوله الى قصراً فسيح ، ها أنا أقف أمامه ولا أعلم هل سيقبلني كما كان فالسابق أم بأنه سوف يلفضني كحال الجميع ، طرقت الباب فأذا بصوت أبي يصرخ في وسط صمت الأنتظار وقد بدأ لي بصوته متعباً .
- ها قد عاد الملعون كما أخبرتكم ، لقد مات الجميع وهو عاد ليكمل تدمر كل من هم حوله ألم أخبركم بأنهُ ملعون منذُ أن ولد .
لقد كانت والدتي في تلك اللحظات تحاول أسترضاه وأخباره بالهدوء حتى لا تصلني تلك الكلمات فأذهب دون عودة ، لكن هذا لن يحدث فلا مهرب لدي يا والدتي لقد تقطعت كل السبل بأبنك فحتى قرار الهرب دون عودة لم يعد يتملكه .
فتحت والدتي الباب ولم نتحدث أحتضنتني فحسب حينما شاهدت يدي وذراعي قد فقدا بالكامل ، لقد بكت بكاءاً مريراً وأصبحت تلقي بالكلمات التي تنم عن حزنها لحالي ، أدخلتني و أخبرتني بأن والدي لايبدو بخير وهو يرقد على فراش المرض ، وطلبت مني بأن لا أحادثه وأن أذهب الى غرفتي بدلاً من األقاء التحية و أن أتطمن على الحال التي هو بها ، فعلت كما أمرتني لعلمي بأنهُ ستزداد أوجاعه حينما يرأني ، فهو لم يتقبلني في طفولتي ولا في قوتي والأن حينما أصبحت ضعيفاً سوف يزداد بزدرائي و كرهي .
أستلقيت على فرأشيء في غرفتي التي أمتلئت بالغبار في لحظات غيابي ،  لم أستطع أن أهرب بعيناي الى النوم ، أردت بأن أصرخ بأن على كل شيء أن يتوقف فانا أضعف من أرتطم بتلك المشاكل التي حدثت .
في تلك البرهة من الزمن سمعت والدتي تصرخ و تستغيث و والدي بدأ بالسعال ، خرجت مسرعاً لأتبين مايحدث فأذا بي أرى والدي على فراش الموت يلفظ أنفاسه الأخيرة وقد أزرق وجهه وبدأ شاحباً ، ومن أبصرني في تلك اللحظات من لحظات الرحيل أصبح يتمتم بكلمات عدة ، أقتربت منه لأستمع لما يقول ، فأذا به يقول لي .
- أبتعد عن أبني و أمك أرجوك لاتفسد حياتهما كما أفسدت حياتي بقدومك ، أنني كنت أعلم بأنك ملعون منذُ الوهلة الاولى التي رأيتك بها ، وها أنت تفسد و تدمر حياة كل من أحبوك و ثقوا بك .
لقد أراد قول الكثير لكن صوته أختفى و لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يمقتني ، أغلقت عيناه بيدي فأذا بوالدتي قد دوت صرختها وعلت صيحتها وهي تندم حظها الشؤما ، أحتضنت والدي وقبلت جبينه ، لقد أحببته كأبي ولا شيء أعظم من ذاك الحُب الذي كنت أكنهُ أليه .
وفي لحظات تجمع سكان القرية حول منزلنا الذي أفجعتهم تلك الصرخة من قبل والدتي ، فأنتشر خبر وفاة والدي بقدومي فأصبح الجميع ينظر ألي كقاتل والده والذي بافعلها التي ارتكبها فلم يستحملها والده أقدم على الأنتحار ، بل أن الأمر لم يقف على ذلك فقد أصبح يحكى بالقرية بأن والدي حينما نهرني و عاتبني لهربي بسبب جبني لم أتمالك أعصابي و وضعت يدي حول عنقه وقبضت عليها بشدة حتى فارق الحياة ، تلك القصص كانت تحكى في مرى ومسمع مني فلم يخجل أصحابها من قولها في وجودي منتهزياً ضعفي وقلة حيلتي ، لقد كانت تحدث تلك الأشياء عندما كنا نسير بجثة والدي لدفنها بالمقبرة ، كنت أرتجف حينما كنت أحمل والدي فهذه المرة الوحيدة التي نبقى متقاربين دون أن يشتمني او يوبخني ، تمنيت بأن يتوقف دائماً عن فعل ذلك لكن ليس بهذه الطريقة بأن يرحل الى الأبد ، كما أردت بأن يعود ولا يتوقف عن كل الأمور التي كان يفعلها بي ، بل أني سأقدم حياتي مقابل عودته وسوف أختفي الى الأبد ، لكن ليس كل مانرغب بحدوثه يحدث .
جرت مراسم الدفن بحضور أهل القرية و والدتي .
عدت الى المنزل بنتظار أفواج من المعزين الذين سوف يأتون لتقديم العزاء ، ذهبت الى الدولاب الذي تراكم الغبار على ابوابه ، وحينما فتحته و رغبت في أن أرتدي رداءاً لستقبل المعزين وجدت كل الملابس قد حيكت و خيطت لرجلاً ذا جسداً كامل ، أرتديث ثوباً ممشوقاً بالسواد كامل الأطراف لرجلاً ناقص الأطراف .
وفي لحظات أكتض و أمتلىء المنزل بالحشود القادمة لمراسم العزاء ، وكل من تطى قدمه المنزل يحملق بصره نحو مكان يدي الخاوية فيصبحوا مرتاباً محتاراً كيف يصافح ذاك الرجل الذي أعتدنا أن يمد يده مبادراً بالتحية والسلام ، فينكف عن البحلقه في موضع يدي ويشاهد كيف يفعل من هم سبقوه بالتحية بهذا المازق وكيف يصافح من ليس لهُ يداً يمنى ، البعض منهم أحتضنني حتى يتلافى تحية اليدين وأخرون أستبدلوا اليمنى باليسرى فأمسكوها وصافحوه بحرارة وكان شيئاً لم يكن ، ومن بين الجموع و الوفود التي قدمت من القرية وطأة أقدام منزلنا يوسف الذي ما أن رأني بتلك الصورة الناقصة حتى توقف وأبتسم أبتسامة صفراء تلم عن الفرح الذي بداخله حينما رأني خاسر و ناقص بلا نجاح أو جسداً كامل ، تقدم نحوي وأبتسامته تزداد غير مكترث لمراسم العزاء وحاول جاهداً أظهارها ولم يرغب في أخفائها ، وما أن وصل ألي و وقعت عيناه على عيناي حتى أمسك بيده بطرف ثوبي المُتدلي الخاوي في مكان يدي وأصبح يصافحه ويبتسم ، لقد كان يحاول أخباري بأني قد بُت من العدم ، ثم أنه شد ردائي بشده حتى كدت بأن أسقط ولكن لحسن حظي بأنني سيطرت على أتزاني وتحرك من أمامي وجالس مقابلاً لي ينظر نحوي بأعتزاز ، لقد ظل لساعات على تلك الهيئة و الأستمتاع بمشاهدتي وقد غلبني الحزن وقهرتني الحياة حتى أنتهت مراسم العزاء وغادر الجميع وكان أخر المغادرين .
وحينما أصبحت وحيداً أستذكرت شريط ذكراي مع والدي أملاً في أن أجد ذكرى تجمعنا ونحنُ سعداء وتكن عزاءاً لمصابي الجلل والكرب العظيم ، لكن لذكرى تجمعنا بتلك الهيئة ، ذلك الأمر جعل الأمر أكثر حزناً و الالماً ، لم أرغب بأن يسطر الحزن ويعتم الحياة فقد أصبحت لدي مسؤولية رعاية والدتي وأخي الصغير ، لذا حاولت جاهداً أن أقف على قدمي و أخبر والدتي بأن الدنيا لن تقف لحزننا وأن الغد ربما سيكون أجمل من يومنا هذا ، أن الموت ليس مخيفاً فكلنا سنمضي لتلك النهاية ، أن المُخيف هو أن نبقى بذكرى ملعونه تطارد أسمنا كلما ذكر ، لقد كان والدي رجلاً صالح بالرغم أنني لم اتحدث معه قط لكنني أعلم في قرارت نفسي ذلك .
لقد كان ذلك الحديث بسيطاً لكنهُ جعلني أبكي بكاءاً مريراً فأنني أواسي والدتي التي كانت وصية أبي الأخيرة بأن لا أقترب منها لأنني ملعون .
تلك الوصية ستكتب لي الشقاء طيلة حياتي فالأب ألقى كلمته ورغب ببعدي دون عودة و والدتي وأخي ليس لهما أحد يقف بجانبهما سواي ، لقد تمنيت بأن والدي قد مات دون أن أدركه وأستمع لتلك الكلمات ، ليس لأنهُ يرأني ملعون فذاك الأمر قد أعتدت ذلك منذُ طفولتي ، أن الأمر هو أنني كنت أخرج هرباً من منزلنا في اللحظات التي تكن السعادة قد غمرتنا حينما أستذكر حديثه الأخير وأن أبتعد عنهما ، حتى أنني في بعض الليالي أبيت في العرى و على سفوح الجبال وحيداً أرثي حالي حتى تشرق شمس الغد و أعود الى القرية فتلاحقني الأعين و الأبصار و ترسل الي الكلمات كالرصاص .
- ها قد أتى الجبان الذي قتل والده بالعار حينما فر من أرض المعركة .
لقد أصبح الجميع ينبذني حينما يرأني أهيم في شوارع القرية ، لم يعد أحد يرغب برؤيتي ولا النظر الي حتى أن بعض أصحاب الدكاكين في القرية أصبحوا يرفضون بأن أشتري أو حتى أن أدخل تلك الدكاكين التي يمتلكونها ، كنت أظن بأن سبب أقدامهم على هذا الفعل هي الأحاديث التي قد أنتشرت عن هربي و أنني قد أرتكبت الجريمة الكبرى و أزهقت روح والدي الطاهره ، وفي أحد المرات التي قد أصابتني الحاجة لدخول أحد الدكاكين أستقبلني صاحب الدكان وقد دفعني بيده التي وضعها على صدري الى الخارج وصاح مردداً .
- أبتعد من هنا ولا تدعى يوسف يرأك تشتري من دكاني فقد حذرنا بأن لا نفعل ذلك و أخبرنا بأنك لا تمتلك يداً تستطيع حتى بها أن تحمل ما تاخذه من هنا و ربما أنك سوف تعتاد على لو أننا نعملك بلطف على أن تشتري اليوم وغداً تتسؤل بيدك .
لقد كان ذلك الحديث الذي ألقاءه يوسف على جميع التجار هنا ، فعلمت و أدركت بأن سبب ذلك هو أمر يوسف لهم بذلك فقد أصبح من كبار التجار في القرية و يتحكم بالجميع هنا فقد وقعت سطوته على كل تجار القرية و أصحاب الدكاكين .
لم أرد على صاحب الدكان فقد تجمع الجميع حولنا وهم يرمقوني بنظرة تحمل الحقد الممزوجه بالقليل من الشفقة ، غادرت وعدت الى المنزل معتكفاً في غرفتي لا أرغب في مغادرتها ، ولم تكن الرغبة بمحض ارادتي فقد تم أجباري على ذلك ، فكل ما رغبت بالخروج من غرفتي التي كانت أشبة بصومعة عابد لايفارقها أستذكر الأذلال الذي سيواجهني حينما تطى قدمي خارج منزلي ، فأستعيذ من ذاك القرار الطائش و أنهمك في الأنعزال عن هذا العالم ، غارقاً في ذكرى حبيبه و فراق أب و موت أصدقائي ونقصان جسد و شرف قد تلطخ بالعار .

الجندي الذي وأجه الشيطـان !حيث تعيش القصص. اكتشف الآن