بيـــت الرعـــــــــــــــــب
كان ضوء الصباح لا يزال يحاول الظهور متحديا كتل السحاب ومتسللاً بين أغصان الأشجار وجدران مباني مدينة الملاهي التي بدت كحديقة كبيرة مهجورة في ذلك الوقت من النهار. لا زبائن في هذا الوقت، فقط عامل نظافة يجمع بقايا القمامة التي ألقاها رواد المدينة في اليوم السابق، ورجلان يسيران في نشاط نحو "بيت الرعب" -لعبة القطار الشهيرة التي يدخل راكبها في أماكن مظلمة ويشاهد بعض التماثيل والألعاب المتحركة مع قليل من الأصوات المخيفة والمؤثرات الضوئية.
لعبة تتصف بالسذاجة في نظر الكثيرين، ولكنها مع ذلك من أكثر الألعاب نجاحا في أي مدينة ملاه. لماذا يحبها الأطفال بجنون وينتظرون في طوابير طويلة من أجلها؟ وهل يمكن أن تكون زيارة مدينة الملاهي تامة بدون دخول بيت الرعب أيا ما كان اسمه في تلك المدينة؟ وهل هناك مدينة ملاهي تحترم نفسها لا يوجد بها مكان لإرعاب الزوار؟
استمر الرجلان في السير، حتى وصلا إلى باب اللعبة. فتح الأول الباب بمفتاح معه وقال: هيا بنا، أمامنا عمل طويل في إصلاح تلك الآلة التي طلبونا من أجلها". تثاءب الثاني، واختلط كلامه بصوت التثاؤب وهو يقول: لا أظن ذلك، إن الأمر لن يعدو مجرد تنظيف التراب ووضع بعض الزيت هنا أو هناك، وعلى أقصى تقدير سنجد سلكا مقطوعا أو مصباحا انتهى عمره وينبغي تغييره. كان يمكن أن نأتي متأخرين وننهي عملنا قبل أن تفتح المدينة أبوابها. لا أعرف سر حبك للعمل في الصباح الباكر.
لم يجب الأول، ولكنه أضاء المصباح الكهربائي الذي يحمله وأخذ يبحث في أزرار التحكم الخاصة باللعبة عن زر فتح الإضاءة الداخلية. تلك الإضاءة التي يستخدمها عمال النظافة وفنيو الإصلاح فقط، والتي تكون في العادة مطفأة عندما يدخل القطار حاملا الركاب إلى داخل اللعبة. وهي إضاءة موزعة بإهمال؛ بحيث تعطي للسائر على قدميه في داخل اللعبة شيئا يسيرا من الضوء كي لا يصطدم بالتماثيل وقطع الألعاب المتحركة.
استمر الأول في السير بالداخل بحثا عن اللعبة المعطوبة؛ بينما وقف الثاني عند لوحة الأزرار الكهربائية ليتأكد من أن الكهرباء مقطوعة عن الأجهزة الميكانيكية التي تحرك الألعاب لكي يتمكن رفيقه من فتح اللعبة وتنظيفها والتأكد من وصلاتها الداخلية. بعد خمس دقائق كان الأول قد وجد السلك المقطوع وبدأ في توصيله بشكل صحيح وقد بدا منهمكا في عمله والثاني يراقبه موجها مصباحه الكهربائي إلى داخل اللعبة حيث يعمل الأول ويرى بالكاد من خلال الضوء الضعيف للمصباح الصغير، فالإضاءة الداخلية لبيت الرعب لم تكن تصل جيدا إلى تلك الزاوية.
فجأة صاح الثاني: توقف! لا تلمس الأسلاك بيدك!. نظر الأول بدهشة إليه، وقال: لماذا؟ ألم نقطع التيار الكهربائي عن الألعاب؟ قال الثاني وهو يشير بيده إلى لعبة في آخر الممر قبل الاستدارة التي تقود إلى ممر آخر: يبدو أنهم قاموا بتغيير الأزرار، أو أن هناك خطأ ما؛ فاللعبة التي هناك تعمل. حوّل الأول نظره نحو اللعبة التي كانت تتحرك بالفعل وتقوم بحركات ساذجة؛ خاصة مع وجود الإضاءة. لاشك أن هذه اللعبة تبدو مخيفة في الظلام عندما يكون القطار متحركا، وعندما يستدير بركابه يفاجأون بأنهم وجها لوجه أمامها.
تمثال لساحر يبدو عليه الشر يمسك في يده سيفا رهيبا وعيناه تدوران، ويداه تتحركان والسيف يهتز وكأنه سيسقط على الركاب في أي لحظة. دعابة مرعبة لطيفة إن صح التعبير.
لكن لماذا تعمل هذه اللعبة الآن؟ هناك خطأ في وصلات الكهرباء حتما. أحد العمال قليلي الخبرة قام بتوصيل اللعبة مع نفس كهرباء الإضاءة الداخلية، ربما.. ولكن الرجلين لن يخاطرا بلمس الأسلاك الكهربائية قبل التأكد من أنها معزولة تماما. تنهد الأول وهو يقول: ناولني مفك الاختبار كي أتأكد مرة أخرى من أن الأسلاك التي سأعمل عليها آمنة. ولكن الثاني لم يتحرك بل ظلت عيناه متسمرتين على اللعبة التي كانت تتحرك في بلاهة تدعو للضحك أكثر من الخوف.
هم الأول بالصراخ في وجه زميله لتنبيهه إلى الاهتمام بالعمل؛ ولكن رجفة سرت في بدنه عندما انتبه إلى أن اللعبة موضوعة بشكل غريب، فهي لا تواجه القطار وركابه، بل تواجههما! عقد العامل عينيه في محاولة للفهم، وترك الأسلاك التي في يده وتطلع للعبة في صمت مع زميله. إن خبرتهما في مجال الملاهي لا تزال حديثة؛ فهما مجرد عاملي صيانة، وربما لم يركبا أي قطار رعب من قبل في حياتهما البائسة. ولكن حركة تلك اللعبة كانت مثيرة بالنسبة لهما، لسبب بسيط: إن اللعبة لا تتحرك بشكل ميكانيكي يكرر نفسه، ولكنها تتحرك بحرية تامة، اليدان والسيف يتحركان في كل زاوية ممكنة؛ ولكن القدمين مثبتتان في الأرض أما العينان فقد كانتا مركزتين عليهما بوضوح شديد، تتحركان قليلا ثم تعودان للنظر إليهما.
ابتلع الثاني ريقه وهو يقول: سأنتظرك في الخارج، لا أريد أن أبقى هنا. ولم ينتظر حتى يسمع رد زميله. دون أن أي كلمة التقطا أدواتهما بخوف وعيونهم معلقة باللعبة وكأنهم يخشون أن تسير نحوهم. وقبل أن يغادرا المكان دوت ضحكة رهيبة هزت بيت الرعب كله.. لم ينظر أي منهما خلفه؛ فقد كانا يعرفان مصدر الضحكة.
إنها تلك اللعبة الشيطانية.
* * *
أدخلني رئيس العمال إلى مكتب مدير المدينة، فاستقبلنا بترحاب وأجلسنا. وبدأ رئيس العمال في تقديمي: هذا هو العامل الجديد الذي سيتولى الإشراف على بيت الرعب. اسمه (حسام)، وأعتقد أنه أكفأ من يقوم بهذا العمل، لقد اختبرته بنفسي وقد أصلح اللعبة التي كانت معطلة منذ أربعة أيام. نظر المدير إليّ وقال: جميل جدا، أنت تعرف طبعا المسؤولية التي ستتحملها، بيت الرعب هو أكثر لعبة لها شعبية في المدينة كلها، وأكثر الألعاب استخداما. معظم الآباء لا يحبون أن يروا أطفالهم في ألعاب تدور بسرعة أو ترتفع لأعلى ثم تهبط. يعتقدون أنها خطيرة ويمنعون الأطفال من ركوبها. أما بيت الرعب فهو أكثر لعبة آمنة، وفي نفس الوقت لا تخلو من الإثارة؛ لهذا تعمل هذه اللعبة أكثر من الباقيين، ولهذا أيضا تكثر الأعطال بها، صحيح أنها أعطال بسيطة ولكنها تحتاج عاملا نبيها وسريعا حتى لا يتوقف بيت الرعب، وكلما زاد اللعب زادت الإكراميات التي تحصل عليها من الزوار، وفوق هذا قد قررت أن أعطيك ضعف مرتب العامل السابق. أنت تعرف ما حدث معه أليس كذلك؟
كدت أجيب بأني لا أعرف شيئا، ولكن رئيس العمال سبقني وهو ينظر معاتبا للمدير، وقال: لا أظن أن (حسام) ستهمه هذه الحكايات، فلندعه يبدأ عمله بسلام. قال المدير وهو يوقع على ورقة تعييني: إنها قصص حمقاء تلك التي بدأت أسمعها عن بيت الرعب مؤخرا، بعض العمال فشلوا في إصلاح اللعبة التي أصلحتها أنت؛ فجاءوا وبرروا فشلهم بأن هناك وحشاً مخيفاً كان يطاردهم داخل اللعبة! إن هذا لكلام سخيف، ولا تفسير له إلا أنهم قد أفرطوا في تناول المخدرات الرخيصة.
قال رئيس العمال وهو يضغط على كلماته: أو أنهم يثيرون الشائعات عن مدينتنا حتى تفقد زوارها، ويذهبون لتلك المدينة الجديدة التي فتحت بالقرب منا، لقد قال عامل بيت الرعب السابق نفس الكلام قبل أن يترك العمل، وهو الآن يعمل في تلك المدينة الجديدة، كان في استطاعتنا أن نوقف تعيينه في وظيفته الجديدة؛ ولكنا فضلنا تركه يبحث عن رزقه؛ لكننا لن نسمح لأي شخص آخر أن يكرر هذه الشائعات السخيفة بعد الآن.
لم يكن يهمني في ذلك الوقت إلا معرفة مرتبي وموعد استلام العمل، كانت حاجتي لهذا العمل كبيرة بعد تخرجي من كلية العلوم، وفشلي في الحصول على أي عمل، مررت على كل الأماكن التي أظن أنها قد تطلب تخصصي وتركت أوراقي، ولم يجب أي منها لا بالموافقة ولا حتى بالرفض.
بعد فترة من اليأس قال لي صديق أن هناك إعلانا في مدينة ملاه تطلب عاملا لديه خبرة في "الكهرباء"، ضحك صديقي وقال: أنا أعرف أنك فيزيائي كبير، فقلت أخبرك بهذه الوظيفة. ورغم سخرية الموقف ذهبت وقبلوني يا للعجب!
كانت المدينة في حي لا يبعد كثيرا عن الحي الذي نشأت فيه، ولكني لم أدخلها من قبل. ربما مررت من أمامها مرة وسمعت أصوات الألعاب وضحكات الزوار وصيحات الأطفال والأغاني الصاخبة، وقلت في نفسي إنهم قوم لديهم فراغ كبير في وقتهم، واحتضنت كتاب أسس الفيزياء الكمية وعدت لبيتي ومذاكرتي. ما كان يخطر ببالي أبدا أن يأتي اليوم الذي ألقي فيه كتبي في الدرج وأرتدي ملابسي ثم أذهب للعمل في مدينة الملاهي.
أنا الذي كلما جاءني صديق وزار غرفتي احتار في الصور المعلقة في كل مكان، صور بالأبيض والأسود مكبرة كأنها لنجوم الغناء أو كرة القدم. ينظر إليها الداخل دقائق محاولا معرفة أصحابها وعندما يعجز يسألني: هل هؤلاء مطربون من أمريكا؟ فأضحك وأعرفه بكل واحد منهم: هذه صورة "نيلز بور"، وهذا "هايزنبرج" وهذه "ماري كوري"، وطبعا هذا "أينشتين" في شبابه، وتحته "شرودنجر". غالبا يختلط عليهم هذا الأخير "بأرنولد شوارزنجر" الممثل؛ فانطلق في حماس موضحا الفرق بينهما دون أن يفهمني أحد.
والآن أنا نائم على سريري بعد أن استلمت عملي الجديد في بيت الرعب في الملاهي، أحاول ألا تقع عيني على عين "شرودنجر"، أعطي ظهري للحائط الذي عليه صورة "بور". تواجهني على الناحية الأخرى صورة "زويل"، هو سيفهمني أكثر من الآخرين، وربما يشرح لهم. اعذروني يا أساتذتي، هذا هو العمل الوحيد الذي وجدته. أو للدقة: هذا العمل هو الذي وجدني.
* * *
بجوار بيت الرعب يقع كشك صغير يبيع المرطبات والحلويات، تعرفت على الشاب الذي يعمل به واكتشفت أنه كان يحلم بدخول كلية العلوم ولكنه لم يحصل على المجموع المناسب ولم يدخل الجامعة أصلا، ضحكت وعرفته بنفسي وبوظيفتي العلمية، وأنني أشرف على لعبة بيت الرعب، وأن أبحاثي تدور حول إصلاح الأعطال الفنية لألعاب أطفال. ابتسم وقال بصوت منخفض: لا تسخر من وظيفتك، المسألة أصعب مما تتخيل، هناك أشياء غريبة بدأت تحدث في هذه اللعبة، وما سمعته عنها لا أستطيع أن أخبرك به حتى لا أفقد عملي، عموما أتمنى لك التوفيق. وبعد أن أثار قلقي انطلق يدندن مع الموسيقى التي تنبعث من الكشك.
مر اليوم الأول بسلام، عرفت أني يجب أن أوقف قطار اللعبة كل ساعة لمدة عشرة دقائق حتى تستريح الأجهزة، وفي تلك الدقائق لا أستريح أنا بل أمر على كل اللعب وأتأكد من أن كل شيء على ما يرام، غالبا أجد أشياء سقطت من الزوار فاحتفظ بها حتى يأتي صاحبها بعد قليل ويسألون عنها. هواتف محمولة وولاعات سجائر، وأحيانا قطع حلى لفتيات. في البداية أسأل صاحب الشيء عن صفته ثم أعيده له. لم تحدث أي أعطال، وكان العمل يسيرا، ربما كان أكثر ما أرهقني هو الأشياء التي تضيع من الناس، وأضطر إلى البحث عنها في القطار أو على الأرض، وإذا لم أجده أحاول أن أقنع الشخص أن الشيء الذي ضاع منه ربما يكون في مكان آخر أو ربما يكون سرق مثلا.
في نهاية اليوم أخبر صديقي الجديد عامل الكشك بمشكلة الأشياء الضائعة والمسروقة من الناس، فيقول: عندي لك أغنية تناسبك. أتناول مشروبا غازيا من عنده وهو يضع أسطوانة في مشغل ال "سي دي" وأسمع "أحمد منيب" يغني، أنتهي من الشرب وأمد يدي بثمن المشروب فيرد يدي دون أن يتكلم، ويبدو عليه الاهتمام الشديد عندما تصل الأغنية إلى الجملة التي يريدها، يغني معها بصوت عال مداعبا إياي: وكل شيء بينسرق مني. أضحك وأعود للبيت وقد تعودت على عملي، وألفته من أول يوم كأنني ولدت عاملا في مدينة ملاه، وكأني لم أدرس العلوم، وبدت صور العلماء في غرفتي غريبة عليّ. فكرت لحظة أن أستبدل بها صور "ميكي" و"بطوط"، ربما أفعل هذا في يوم آخر. الآن أنا مرهق بشدة ويجب أن أنام.
* * *
لا أعرف كم مر من الوقت وأنا نائم، أحلم بقطارات وألعاب وموسيقى كشك مدينة الملاهي، فجأة أصبحت الموسيقى عالية وتداخل الحلم مع الحقيقة ووجدت نفسي مستيقظا على صوت هاتفي المحمول. أرد دون أن يكتمل استيقاظي فأسمع صوت مدير العمال قادما من الحلم يقول: نريدك أن تأتي حالا لتفتح بيت الرعب. أقول شيئا في الحلم أيضا دون أن تتحرك شفتاي، يقول المدير وقد بدأ صوته يعلو: هل أنت معي؟ هل سمعت ما قلته لك؟ أهز رأسي بأني سمعت وأصدر صوتا ما من شفتي لا أفهم أنا نفسي معناه. يكرر الرجل كلامه: أحضر مفاتيح بيت الرعب وتعال فورا، خذ سيارة أجرة إن لزم الأمر، أنا هنا في انتظارك، أريدك أمامي بأسرع وقت. مع نهاية كلامه بدأت أستيقظ وأفهم. هذا الرجل يطلبني بعد منتصف الليل كي أفتح بيت الرعب، هل هناك من يريد أن يلعب الآن؟ ما هذا العبث؟ لم نتفق على هذا. أرتدي ملابسي غاضبا، وأقسم أني سأعطيه المفاتيح وأخبره أني لن أستمر في العمل بهذه الطريقة.
وصلت مدينة الملاهي في وقت قياسي، ووجدت الباب مفتوحا والحارس يبدو عليه الضيق أيضا. لاشك أنهم أيقظوه لسبب ما. أسأله ماذا حدث فيقول: "سيدة وقع منها شيء وجاءت تبحث عنه الآن. بحثنا معها في كل مكان ولم يبق غير بيت الرعب، اذهب إلى هناك وستجدهم ينتظرونك.
أدخل إلى قلب المدينة بعد منتصف الليل والظلام مع نسيم الليل يداعبان النوم في عيني، أتمنى أن يكون كل هذا حلما، ولكني أصل إلى بيت الرعب وأجد مدير العمال مع رجل وامرأة وعامل آخر. أفهم بسرعة أن السيدة سقط منها خاتم ثمين، وأنها حررت محضرا في قسم الشرطة. أحد الضباط هناك يعرفها ويعرف مدير العمال فطلب منه سرعة إنهاء الموضوع هذه الليلة. نظرت للسيدة المنهارة والتي كانت تبكي حتى نفدت منها الدموع، وتقول بصوت غير مفهوم: إن الخاتم مهم جدا لها وأن ثمنه ليس غاليا ولكنه هدية من زوجها الذي يقف بجوارها محاولا إقناعها بأنه سيحضر لها أفضل منه، وأن فقدان الخاتم أمر جيد؛ لأنها ستحصل على الخاتم الجديد، فلا ترد عليه وكأنها طفلة تريد لعبتها ولا تريد غيرها.
تعاطفت مع المرأة وأخفيت غضبي من استدعائي بهذه الطريقة، وفتحت بيت الرعب ودخلت مع العامل. بحثنا جيدا في كل مكان ولكننا لم نجد شيئا. بعد ربع ساعة خرج العامل يائسا وسمعته يحاول إقناع المرأة من جديد بأن الخاتم سرق أو ضاع في مكان آخر، وتلكأت أنا بداخل نفق القطار فلم أكن أرغب بالمشاركة في هذا الحديث. تظاهرت بالبحث عن الخاتم؛ بينما كان النوم يبحث عني وجسدي يتحرك بتثاقل وكسل. من جديد اختلط الحلم بالحقيقة عندما سمعت هاتفا يقول: الخاتم في الركن أسفل تمثال الساحرة، كالمسحور توجهت للتمثال ونظرت أسفله والتقطت الخاتم، وفجأة أحسست به في يدي حقيقة وليس حلما؛ فأصابتني رعدة والتفت حولي متسائلا عن مصدر الصوت. لم يكن هناك غيري بالداخل، وكانت أصوات المتحدثين خارج اللعبة تصل إليّ، ولكنها تبتعد حيث يبدو أن المرأة اقتنعت بعدم جدوى الانتظار أكثر من هذا، كان الخاتم في يدي وتنازعت بداخلي رغبة الخروج وإعطائه لها والفضول لمعرفة مصدر الصوت.
دقيقة كاملة من الحيرة مرت وأنا أمسك بالخاتم في يدي وأنظر إلى كل الأركان منتظرا أن يتكرر ذلك الصوت مرة أخرى؛ لكن يبدو أني كنت أتخيل. هناك تفسير علمي لهذا التخيل على كل حال، ربما تكون عيني الناعسة قد وقعت على الخاتم أثناء البحث؛ ولكني لم أنتبه لهذا، وبعد أن ربط عقلي النصف نائم بين صورة الخاتم وبين موقعه أرسل لي هذه الإشارة المتأخرة قليلا في صورة كلام مسموع. هذه الألعاب الدماغية هي آخر ما ينقصني الآن. يجب أن أسرع وأعطي الخاتم للسيدة وأغلق اللعبة وأعود لسريري.
في السرير، تبخر التفسير العلمي وعادت الخيالات والأحلام. كنت أحلم بلعبة من ألعاب بيت الرعب وهي تتكلم وتخبرني عن مكان الخاتم، وأنا أقول لها: إني لا أحب الخواتم ولا أهتم بها. وفجأة تحول الحلم إلى كابوس عندما ظهرت لعبة الساحر ذي الرداء الأسود وهو يحمل سيفه البلاستيكي المطلي بالأصفر ليبدو كأنه مصنوع من المعدن. هوى بسيفه على الخاتم فشطره إلى قطعتين في اللحظة التي استيقظت فيها مفزوعا.
-2-
في اليوم التالي أخبرت فتى الكشك بما حدث واقترحت عليه أن نكتب على اللعبة لافتة تقول: إنه من غير المسموح ركوب قطار بيت الرعب مع أشياء ثمينة، وأننا غير مسئولين عن فقدها، فأخبرني بوجود لوحة تعليمات على باب مدينة الملاهي تنبه بالحفاظ على الأمتعة الشخصية ولكن كل هذا لا فائدة له. لابد من شخص مهمل هنا أو هناك، ولابد أن تساعده في إيجاد ما ضاع منه. هذا التنبيه فقط لإخلاء المسئولية القانونية؛ ولكن المسئولية الإنسانية تظل قائمة. ثم انقلب إلى المزاح قائلا: إن المشكلة ليست في الأشياء الضائعة فهذه يمكن إيجادها؛ المشكلة في الأشياء المسروقة. وأخذ يردد عبارته المفضلة وكل شيء بينسرق مني. فأخرج من جديتي وأقول له: إني لم أر شيئاً يسرق منه أبدا رغم ما يبدو عليه من اللامبالاة؛ بل إن عينيه كعيني صقر إن حاول أحدهم سرقة شيء من الكشك.
لكل شخص أشياؤه الثمينة التي يحافظ عليها، ويبدو أن هذا الشاب ليس لديه أي شيء ثمين في حياته سوى هذا العمل؛ لهذا فهو يستميت من أجل الحفاظ عليه من السرقة. خفضت بصري وأنا أعود لمكاني عند لعبة بيت الرعب، كان لدي أنا أيضا حلم ثمين بأن أكون عالما في الفيزياء ولكني لا أعرف كيف ولا متى سرق مني.
أضيفت إلى مهمتي الرئيسية بتشغيل وصيانة اللعبة مهمة جديدة، أن أنبه كل الراكبين بالحفاظ على متعلقاتهم الثمينة، وأن أنبه هذه الفتاة لكي تغلق حقيبتها جيدا، وهذا الشاب لكي يضع هاتفه في يده ولا يتركه يسقط من جيبه. وأحيانا آخذ منهم الأشياء الثمينة وأبقيها معي حتى يخرجون من اللعبة إذا طلبوا ذلك. بمرور الأيام بدأت أشعر أني أتحول من عامل صيانة وتشغيل -كما هو المسمى الوظيفي- إلى موظف أمانات يحفظ الأشياء الثمينة، ويساعد الذين ضاعت أشياؤهم في العثور عليها وأحيانا تطييب خاطر من سرق منه شيء.
تباعدت المسافة بيني وبين عالم الفيزياء "باول ديراك"، ولم يعد "إنريكو فيرمي" يثير اهتمامي بقنبلته النووية، لا أعرف من هم رموز مهنة موظف الأمانات حتى أضع صورهم على حائط غرفتي مكان هؤلاء العلماء. هل حصل أحد على جائزة نوبل أو أي جائزة لأنه يعمل في تشغيل ألعاب الملاهي؟ أعرف أن هذه أفكار ساذجة وتخريف يحدث لي بسبب انتقالي إلى عالم جديد، ربما يكون هو عالمي الأصلي. تبدو كلية العلوم خارج السياق وأحلام المجهر الإلكتروني وأوهام المعادلات المعقدة غير واقعية. كأني ولدت عامل صيانة ألعاب منذ اللحظة الأولى، وما كانت دراستي إلا انعطافة خاطئة عدت بعدها لما خلقت من أجله.
* * *
اليوم قرر مدير المدينة أن يمر بنفسه على الألعاب ويشاهد الناس ويسمع رأيهم وشكاواهم. كان يقف أمام كل لعبة عدة دقائق يسأل واحداً أو اثنين من الأطفال أو الشباب عما أعجبه وما لم يعجبه، يمزح قليلا معهم، وقد يلتقط صورة مع بعضهم ثم يذهب إلى اللعبة التالية. لم تمر ساعة حتى وجدته أمامي ومعه رئيس العمال ورجل أمن ورجلان لا أعرفهما. أشار إلى بيت الرعب وبدأ يحدّث الرجلين عنه بطريقة أحسست منها أنهما ضيوفه، ربما صحفيان سيكتبان عن المدينة أو شيء من هذا القبيل.
استوقف فتى كان خارجا من قطار بيت الرعب وسأله عن رأيه فقال بحماس: إن هذه ثاني مرة يأتي للمدينة في أقل من أسبوع، وإنه سعيد لأنه وجد وحوشا جديدة في بيت الرعب! لم يفهم مدير المدينة ماذا يعني الفتى بالوحوش الجديدة؛ إذ لم تكن هناك أية ألعاب جديدة تم تركيبها في أي مكان في المدينة؛ لكنه أهمل هذه الملاحظة ونظر إلى الضيفين بنظرة معناها ألم أقل لكما، الناس تحب مديتنا وتأتي كثيرا.
مرت بجواره طفلة كانت أيضا خارجة من لعبة القطار؛ ولكن الإحباط كان واضحا على ملامحها الصغيرة. أمسك بيدها وسألها بلغة طفولية: وأنت لماذا لا يبدو عليك الحماس؟ ألم تعجبك اللعبة؟ هزت كتفيها الصغيرين وقالت: لقد ذهبت لبيت الرعب في هذا الصباح وكان هناك التمساح الكبير وقد أعجبني شكله لأنها أول مرة أشاهد تمساحا. ولما دخلت الآن مرة أخرى وجدت التمساح قد ذهب، هل تعرف متى يكون التمساح موجودا؟.
كان يضحك ولا يعرف ماذا يقول لها، حاول أن يشرح لها أن الألعاب لا تتحرك، وأن هذا التمساح هو بالتأكيد في مكانه دائما وكل يوم. وأنها ربما لم تره لأنها كانت تنظر في الجهة الأخرى مثلا. ثم فكر أنه ربما يكون ذلك التمساح أصيب بعطل منعه من الحركة فعلا فقال لها: وربما يكون التمساح يستريح قليلا، إذا جئت مرة أخرى غداً ستجدينه بكل تأكيد.
قبل أن يترك منطقة بيت الرعب، قرر أن يسأل شابا ناضجا عن رأيه لكي يستمع إلى شيء من الكلام العاقل. اختار شابا يبدو هادئا ورزينا وأخبره أنه مدير المدينة ويريد أن يعرف إذا كان لديه أي ملاحظة على بيت الرعب. قال الشاب: بصراحة هذه أجمل لعبة هنا، وأنا متعجب من التكنولوجيا الحديثة التي لديكم، لقد كانت الوحوش تتحرك كأنها حقيقية، لكني لم أفهم كيف كان التنين الأخضر في بداية اللعبة منذ عشرة دقائق، ولما دخلت مرة أخرى مع أخي الصغير وجدنا التنين قد انتقل إلى مكان آخر بعد تمثال الرجل ذي الأربع أياد، وقد كان قبله بكثير. كيف تقومون بهذه الخدع؟.
بدت الحيرة على وجه المدير وهو يعرف جيدا أن قطع الألعاب مثبتة في أماكنها ولا يمكن أن يحركها أحد بهذه السرعة. نظر في عين الشاب محاولا معرفة إن كان جادا فيما يقول. الطفلة قالت إن التمساح اختفى، والشاب يقول التنين يتحرك، وهناك لغط كثير يدور حول بيت الرعب منذ فترة. لا يمكن أن يكون هناك تنين أخضر يلعب بحرية داخل نفق قطار بيت الرعب أو تمساح حي يتنقل بين أركان مدينة الملاهي.
نفض الأفكار الساذجة عن عقله وهو يقول لنفسه إن التنين حيوان خيالي أصلا، ولكنه قرر أن يركب لعبة قطار بيت الرعب بنفسه حتى يشاهد هذا التنين المزعوم. بدت الدهشة على وجه رئيس العمال الذي لم ير مديره يجرب أي لعبة بنفسه قط. دائما هناك شخصية المدير الجاد الحازم الذي لا يهز هيبته بركوب ألعاب الأطفال، حتى إن كانت تأتيه رغبة قوية بعض الأوقات لتجربة لعبة مثيرة؛ إلا أنه يقاومها حفاظا على هيبة استغرق بناؤها سنوات وسنوات.
كنت أسمع الحوار وأنا أقف بجوارهم دون أن ينتبه لي أحد، وعندما قرر المدير أن يجرب اللعبة التفتوا لي كلهم وكأني ظهرت فجأة عندما أصبح لي دور يحتاجونه. قال مدير المدينة بعبارة حاسمة سأركب القطار التالي مع صديقي هذا وأشار للشاب الذي كان يسأل عن التنين ا?خضر. وددت أن أتدخل وأقول لهم إنه لا يوجد تنين أخضر أصلا بين الألعاب؛ ولكني أحسست أن هذا سيكون تصرفا سخيفا. فلأترك الرجل يكتشف بنفسه هذه الحقيقة. ركب المدير بجوار الشاب في آخر كرسي في القطار. الذي امتلأ بالركاب، ووقف بقية الرجال بجواري منتظرين خروج القطار من بيت الرعب.
* * *
في أول دخول القطار إلى النفق، أشار الفتى بحماس إلى اليمين وقال: هنا كان التنين واقفا في أول مرة، وبعد مسافة كبيرة قال بحيرة: وهنا كان يقف في المرة الثانية، لكني لا أعرف أين ذهب الآن!. اكتشف المدير أنه باع هيبته بمقابل رخيص جدا، هذا الشاب أحمق بلا شك. لم يرد عليه وقد بدأ وجهه يحمر من الغيظ، لم يخدعه أحد بهذه السهولة من قبل. منذ بدأ تكوين مشروع مدينته والجميع يتآمر عليه، ودائما ينجو من حيلهم ببراعة شديدة حتى جاء هذا الشاب الغبي وهزأ به هكذا.
أما الشاب نفسه فقد انكمش في مكانه داخل القطار وأغلق فمه في خجل شديد، لم يكن كلامه مقنعا لطفل، ولكنه كان واثقا من وجود لعبة تشبه التنين، وأن أخاه الصغير أعجب بها أيضا. التفت بعينه يمينا ويسارا منتظرا أن يخرج القطار من النفق في أي لحظة حتى تنتهي لحظات الخجل هذه وربما يبحث عن كلمات يعتذر بها للرجل بعد ذلك والأفضل أن يرحل مع أخيه دون أن يقول شيئا.
وفجأة ظهر التنين الأخضر قبل نهاية النفق بقليل، صاح الشاب منتصرا: هذا هو، لقد تغير مكانه مرة أخرى! تعالت صيحات ركاب القطار مستمتعين بالتنين الصغير الذي يخرج من فمه لهبا حقيقيا صغيرا، ولكنه كاف لإضاءة ظلام النفق، وتتراقص الشعلة الخارجة من فمه لتحرك خيالات التماثيل الأخرى في رعب لذيذ. كان الشاب يبتسم فرحا؛ أما المدير فقد فقدَ القدرة على النطق عندما رأي التنين. إنه لا يصدق أن تمثال التنين هذا يتحرك ولكن ما أثار رعبه هو شعلة النار التي يمكن أن تحدث كارثة في مكان مغلق كهذا. إن أبسط معايير السلامة تمنع وجود مثل هذه اللعبة، وهو متأكد أنه لم يوقع على ورقة لتركيب لعبة يخرج منها لهب حقيقي.
قال لنفسه: إن هذا اللهب هو خدعة متقنة بشكل ما، لا يمكن أن يكون حقيقيا أبدا. بعد ثوان تجاوز القطار لعبة التنين التي انطفأت شعلتها وأظلم المكان مرة أخرى. التفت مدير المدينة للخلف بجسده كله متأملا التنين وهو يبتعد للوراء وكذلك فعل الشاب وهو متحمس بشدة. ورغم الظلام التام استطاع الشاب أن يرى التنين وهو يقوم بأعجب فعل يمكن أن يتصوره، لقد رفع يده وحك بها أنفه! عقد المدير حاجبيه في اهتمام وهو يسمع صرخة رعب قادمة من شفتي الشاب: إنه يحك أنفه!. وفي أقل من لحظة أنزل التنين يده إلى جواره وعاد كما كان. لكن المدير كان قد لمح هذه الحركة السريعة مع إضاءة مباغتة للعبة أخرى.
قال الشاب: لقد فهمت، هذا التنين هو شخص يرتدي زي تنين إذن، ولهذا هو يتحرك من مكان لآخر، ولهذا يحك أنفه. خدعة جيدة يا سيدي. هذه فعلا أفضل مدينة ملاه زرتها في حياتي. ابتسم المدير مجاملا ونزل من القطار عندما توقف تاركا الصحفيان يتحدثان مع الشاب، وتوجه نحوي قائلا: أوقف هذه اللعبة فورا. لن يدخل أحد بيت الرعب اليوم.
* * *
توقفت اللعبة لأسبوع كامل. وتلقيت أوامر مباشرة من المدير بعمل خاص في هذا الأسبوع. طلب مني قائمة بكل الألعاب والتماثيل الموجودة داخل نفق بيت الرعب بالترتيب الذي يراه الداخل من أول النفق. ثم بعد ذلك أركب القطار وحدي ثلاث مرات كل يوم وأتأكد مرة أخرى من القطع وترتيبها!
ورغم أن هذا أسخف طلب سمعته في حياتي؛ لكنه على الأقل عمل سهل. أركب القطار وأتأكد من كل لعبة، ثم أجلس بجوار صديقي نتحدث عدة ساعات، ثم أركب مرة أخرى وهكذا. بدأت أتحسر على الساعات التي قضيتها في مكتبة الكلية أقرأ عن علاقة الرياضيات بالفيزياء وأسجل المعادلات المثيرة في كراساتي. كل هذا لا قيمة له الآن، المهم هو تسجيل تلك الألعاب وترتيبها وإرسال تقرير علمي لمدير المدينة. ربما ينشره المدير في مجلة عالمية للأبحاث فيما بعد، لا شك أنه بحث مهم فقد أثبت فيه أن ألعاب بيت الرعب عددها كذا وأنها لا تزيد ولا تنقص ولا تتحرك من تلقاء نفسها.
بعد أن اطمأن المدير لنتيجة البحث الذي أجريته، قال لي: اليوم تجرب قطار بيت الرعب للمرة الأخيرة وغداً نفتحه مرة أخرى للزوار. يكفينا كل هذه الخسائر. الغريب أنه نسي موضوع التنين تماما رغم أني قدمت له قائمة بالألعاب الموجودة ولم يكن فيها أي تنين.
ركبت القطار وقام عامل الكشك بتشغيله وبدأ التحرك. أسجل القطع التي أراها كالمعتاد: البومة الكبيرة، الرأس ذو الثلاثة عيون، الكاو بوي الأعمى الذي يحمل مسدسين ويطلق بعشوائية، ثلاثة خفافيش رمادية..
لحظة واحدة، لم تكن هناك أية خفافيش في اللعبة طوال الأيام السابقة! هذه الخفافيش حقيقية إذن وقد دخلت إلى اللعبة ظنا منها أنها كهف مهجور. أنهيت جولتي بالقطار، ثم دخلت على قدمي مرة أخرى لكي أطرد هذه الخفافيش. كنت أحمل مصباحي الكهربائي وأبحث عنها، لابد أنها طارت لمكان آخر. وصلت إلى منتصف القطار عندما رأيتهم معلقين بإحدى الألعاب. بدأت أفكر في طريقة لطردهم خارج القطار؛ ولكني سمعت صوت خطوات من خلفي. استدرت فجأة فوجدت دبا صغيرا يقترب مني بهدوء، من الجهة الأخرى كان تنين أخضر يتحرك نحوي أيضا ثم جاء تمساح يزحف وفئران وعنكبوت وكائنات أخرى غريبة لا أعرف لها اسما.
أصبحت محاصرا تماما في هذا المكان المظلم ومصباحي الكهربائي لا يكفي لإضاءة كل الاتجاهات كي أرى عشرات العيون التي تنظر إليّ. وقفت مذهولا لا أعرف ماذا ينبغي أن أفعل. لن يسمع أحد صراخي وأنا في وسط النفق، ولن أستطيع اختراق هذه الأجساد كلها وأجري في أي ناحية. أنا تحت سيطرتهم تماما فليأكلوني لو أرادوا؛ لكن ليفعلوا هذا بسرعة قبل أن تنهار أعصابي.
-3-
بدأ التنين الصغير بالكلام. هل يمكن أن يتكلم تنين؟ وهل يوجد أصلا تنين في الحقيقة؟ وما هذا المكان المرعب الذي أنا فيه؟ لم أفهم ما قاله لأني لم أسمعه جيدا، وجدت نفسي أقول أشياء مثل "أريد أن أخرج من هنا، دعوني أذهب، لا تؤذوني.." وهو يرد عليّ وأنا لا أفهم. كل ما أريده هو أن يفسحوا لي الطريق كي أخرج من هنا.
أشار الدب إلى التنين لكي يسكت واقترب هو مني وبدأ يتكلم. هذا أفضل قليلا، أن تتكلم مع دب هو أمر أيسر قليلا من الحديث مع كائن خرافي. قال الدب: لا تخف. تمنيت أن أفعل كما يقول، ولكن كان ذلك مستحيلا في هذه الظروف.
أحضروا لي كرسيا لا أعرف من أين، ووجدت نفسي أسقط عليه دون أن أشعر. جلسوا حولي كلهم في حلقة كبيرة؛ بينما طارت الخفافيش من موقعها السابق لتحط في مكان آخر أمامي. الدب هو الوحيد الذي ظل واقفا. نظرت إليه مستفهما عما يدور هنا فقال: طبعا أنت مندهش لما تراه، ولكننا نعرف أنك ستتغلب على دهشتك وخوفك، سأشرح لك كل شيء، نحن مجموعة من الكائنات التي لا يعرفها البشر، وكل ما لا تعرفونه فهو بالنسبة لكم عفريت أو جني أو نحو ذلك، لنقل إننا من العفاريت المسالمة التي تتصور في أشكال مختلفة، كنا نعيش في هذا المكان قبل إنشاء مدينة الملاهي ثم رحلنا في أصقاع الأرض، بعد مئات السنين من الدوران هنا وهناك اكتشفنا أن راحتنا لن تكون إلا في هذا المكان، فعدنا مرة أخرى لكي نموت هنا، فقد كبرنا كلنا واقترب أجلنا، عدنا فوجدنا الحي قد امتلأ بالبشر ولم يعد لنا مكان نعيش فيه، قضينا سنة كاملة ندرس المنطقة حتى اهتدينا إلى أن أنسب مكان لنا هو هذا النفق الذي تسمونه بيت الرعب، قررنا أن نقيم فيه ما تبقى لنا من العمر؛ فهنا يمكن أن نختفي وسط الألعاب، ولن يشك فينا أحد، وأيضا سنساعد في تسلية زوار النفق ببعض الخدع والألعاب، كان كل شيء على ما يرام حتى جاء هو.
كان يريدني أن أسأله بالطبع "من هو"؛ ولكني لم أستطع أن أفتح فمي من الرهبة؛ فتكفل التنين بالإجابة عن السؤال المفترض: هناك في كل مكان الجيد والسيء، وفي جنسنا كان هو أسوأ المخلوقات على الإطلاق. قال الدب مؤَمّنا على كلامه: نعم هو كالمجرمين في عالمكم، كأشد المجرمين شرا وأكثرهم خبثا.. إنه الكرونوثيف. أو بِلُغَتكم سارق الوقت، الكرونوثيف هو مخلوق مثلنا لكنه يحيا عمرا أطول إذا سرق عمر الآخرين، وله في ذلك حِيَل كثيرة كلها محرمة علينا، ولا نقترب منها؛ بينما هو لا يتورع عن التهام الأعمار طوال الوقت وخاصة أعمار البشر.
سألت بفضول بعد أن هدأ خوفي منهم قليلا: وكيف يسرق أعمار البشر؟ يقتلهم وهم صغار مثلا؟
قال التنين شارحاً: لا، هو لا يقتل، ليس لأنه لا يقدر على ذلك؛ ولكن لأن الموت هو ضياع الوقت، هو يسرق الأوقات من الأحياء، يتغذى على كل ثانية يمصها من أي إنسان، إذا نظرت في ساعتك ورأيتها تشير للخامسة وبعد قليل نظرت إليها فوجدتها في السادسة وقلت لنفسك إن الوقت يمر بسرعة، أو إذا اختلط عليك الأمر ولم تعرف هل اليوم هو الثلاثاء أم الأربعاء ووجدت أنه الأربعاء، فاعلم أن الكرونوثيف قد سرق منك ساعة أو يوما!.
قال الدب: كل الأوقات الضائعة تذهب إلى كرونوثيف، لا يوجد شيء يضيع في الحقيقة، ما يضيع يمكن أن تجده مرة أخرى إذا بحثت عنه، المشكلة في الأوقات المسروقة التي التهمها كرونوثيف، هذه لن تعود. ولا يوجد مكان أفضل من مدينة ملاه كي يقيم فيها الكرونوثيف، هنا تسهل سرقة أوقات الآخرين الذين جاءوا بأقدامهم ليستمعوا بوقتهم، معظمهم لا يلاحظ أن وقته يسرق منه، ولا يميز بين أن يستمتع هو بالوقت وبين أن يستمتع به الكرونوثيف الذي يحب أوقات الشباب وصغار السن بشكل خاص.
قال التنين: وقد جاء هذا الكرونوثيف إلى بيت الرعب واتخذه مقرا له، في البداية لم نتكلم معه، وتظاهرنا بأنه غير موجود، طوال اليوم هو يدور في مدينة الملاهي يتغذى على الأوقات المسروقة ثم يعود في المساء لبيت الرعب؛ لكنه لم يكن ينام مثلنا، كان يتسلى بإزعاجنا ومضايقتنا، وفي الأيام الأخيرة أخبرنا أنه أعجب بهذا المكان وبخيراته الكثيرة من الأوقات التي لا تجد من يلتهمها، وطلب منا أن نعمل معه في سرقة الأوقات لحسابه أو يطردنا من هنا!.
قال الدب وهو يجلس مهموما: لا داعي لهذا الكلام، نحن لن نسرق كما يريد الكرونوثيف، وهذا الإنسان لن يستطيع أن يساعدنا بشيء، لم يكن ينبغي أن نتحدث إليه يا تنين، هو عاجز مثلنا؛ بل ربما أكثر منا، دعوه يذهب.
نظر إليّ الجميع نظرة استجداء لكي أقول إني سأساعدهم، ونظرت أنا إليهم نفس النظرة كي يتركوني أذهب في سلام قبل أن يأتي هذا الكرونوثيف أو أفقد وعيي من الرعب في هذا المكان المخيف والمخلوقات الغريبة التي تجلس حولي.
بعد أن أدركوا أني لن أقوم بدور البطولة المفترض، أفسحوا لي الطريق في صمت، فقمت مسرعا. قال التنين: تستطيع أن تساعدنا لو أخبرت كبيرنا عما يحدث، ربما يفعل شيئا من أجلنا، خذ هذا عنوانه، قل له إنك جئت من بيت الرعب، واحك له كل شيء. أعطاني ورقة فيها عنوان فيلا في المعادي! وتراجعوا جميعا إلى داخل النفق هامسين لبعضهم: الكرونوثيف قادم، اختفوا جميعا!.
وضعت الورقة في جيبي وجريت نحو باب النفق؛ لكني تعثرت في سلك كهربائي وسقطت على الأرض، وعندما أردت القيام مرة أخرى رأيته يتشكل. كأن شخصا يمسك ريشة ويرسم على الهواء باللون الأسود تمثال الساحر بعيونه الكبيرة وردائه الأسود ولحيته ذات اللون الأحمر. كان التمثال يكتمل وهو يتحرك داخل النفق إلى المكان الذي يقف فيه، وعندما شاهدني تجمد مكانه. مررت بجواره بسرعة متجنبا النظر إليه كان السيف يلمع في يده، ورغم أني أعلم أنه سيف ضعيف من البلاستيك؛ إلا أني خفت بشده عندما اكتمل ظهور السيف في يده من الفراغ كما ظهر هو نفسه. سمعته يصيح بصوت مبحوح: إياك أن تذهب إلى ذلك العجوز، إنهم يخدعونك، لا أحد يستطيع القضاء على الكرونوثيف، وإذا حاول أي أحد فإنه يموت، لا تذهب، لا تذهب إن كنت خائفا على عمرك.
* * *