•١•

100 18 13
                                    

حلَّ الصباحُ وَدَاعبت نسماتُ الصيفِ أغصانَ الأشجارِ، أصبحت الساعةُ الخامسة فاستيقظت حوراءُ على صوتِ والدتها الحنون، نهضتْ بنشاطٍ وهتفت: «اليوم هوَ اليومُ المنشودُ»، ثمَّ ذهبتْ لتستعدَّ ليومها.

تنهدتْ بابتسامةٍ وخرجتْ لحديقةِ منزلها فداعبَت أشعةُ الشمسِ عينيها ممّا ملأها تفاؤلًا وسعادةً. 

دلفتْ إلى غرفتها فنظرتْ للمرآة ورأت انعكاسَها، رأتْ شابةً في منتصفِ العشريناتِ بشعرٍ فاحمٍ وبشرةٍ قمحيةٍ لفحتها الشمس وعينينِ بندقيتينِ مع أنفٍ طويلٍ.

«أنتِ جميلة» قالتها بابتسامةٍ وسرحت بذاكرتها إلى يومها الأولِ في المدرسةِ.

كانَ يومها الأولُ صعبًا، فقد كانتْ طالبةً جديدةً في بلدٍ جديدٍ عليها -وهو سوريا- فصارَ الخوفُ رفيقها، جلستْ على كرسيٍّ في الخلفِ ممّا أَشعر الآخرينَ أنها غريبةُ الأطوارِ. دخلتْ المعلمةُ بابتسامةٍ تحييهم، ثم بدأ الدرس.

 مرَّت دقائقُ ثم دخل المديرُ مع طالبٍ قائلًا: «هذا بشار، لقد تأخرَ اليوم لكن لا مشكلة»، ارتسمت البسمة على وجوهِ الجميعِ فهتفوا: «لماذا تأخرتَ يا بشار؟ لقد ظننا أنك لن تأتي»، ما أشعرها بالغرابةِ وحيرها؛ كيفَ يعرفونهُ؟

قالتِ المعلمةُ: «أهلًا بشار، أريدكَ أن تكونَ متفوقًا كإخوتكَ أو أحسن»، فأجابها: «لن أخيبَ ظنّكِ يا معلمتي»، ثم جلسَ على كرسيهِ وأكملوا الدرس

لفتَ انتباهها أنَّه كانَ يعرفُ كلَّ الإجاباتِ الصحيحة، وبعدَ الدرسِ خرجَ التلاميذُ إلى ساحةِ المدرسةِ ما عداها، فاقترب منها بشار محييًا فردتْ التحية بخجلٍ. سألها: «أنتِ جديدةٌ، أليس كذلك؟» فأجابت: «أجل، لقد جئتُ من العراق، كيفَ علمتَ؟».

فقال: «أنا أعرفُ جميعَ أبناءِ منطقتي، فحزرتُ ذلك»، ابتسمتْ قائلةًّ: «الجميعُ يعرفكَ، حتى المعلمين» فأجابها: «نعم، فلديَّ أربعُة إخوةٍ درسوا هنا». 

قالت بحياءٍ: «أنت ذكي كنتَ تعرفُ الإجابةَ فورًا» .

عندئذٍ فاجأها بقولهِ: «وأنتِ أيضًا كنت تعرفينَ الإجاباتِ، لقد رأيتكِ».

 أجابته بخجلٍ: «هذا صحيح، لكنني أتمنى أن أصبحَ مثلكَ».

 قال منفعلًا: «هذا خطأ بل يجبُ أن تصبحي أفضلَ مني، عديني بذلك».

 صدمتها كلماته تلكَ فأجابت بعفويةٍ: «أعدكَ».

هذا كل ما تبقى لها من ذكرياتهِ معها، قالتْ بصوتِ حزينٍ: «أينَ أنتَ الآن؟ أأصبحتُ أفضلَ منكَ أم أنكَ ما زلتَ الأفضل؟ أما زلتَ على قيدِ الحياةِ أم قتلكَ صاروخُ سقطَ على منزلكم؟».

 تنهدتْ بحزنٍ ثمَّ رشتْ ماءَ الوردِ على وجهها فكان زينتها بعدَ ابتسامتها. 

«هيا غيري ثيابكِ»، قالتها والدتها بسعادةٍ فاليوم ترى صغيرتها تصبحُ طبيبةً. أخرجت ثيابها وضمتها إلى صدرها وهمست: «سأرتدي هذهِ الثيابَ التي أهدتها لي خالتي يومَ دخولي الكليةَ». ثم ارتدتْ ملابسها، أخرجتْ ساعتها المفضلةَ التي أهداها إياها خالها في عيد مولدها. 

بعدئذٍ جلست على طاولةِ الطعامِ لتتناول فطورها مع عائلتها وأخذتْ تذكرُ المراتِ التي جلستْ فيها على هذه الطاولةِ... فمرّةً جلست عليها في جوٍ عائلي سعيدٍ، ومرةً جلستْ عليها والجو مشحونٌ بالمشاكل والاضطرابات، وأخرى جلست عليها بمفردها بينما الكلُّ مشغول، وكم من مرةٍ جلستْ عليها مع شمعةٍ لتقرأَ بنورِها الخافت لأنَّ التيارَ الكهربائي كان مقطوعًا ولديها امتحانٌ.

تنهدت فهذبت إلى غرفتها، رشتْ قليلًا من العطرِ الهادئِ وجهزت حقيبتها النسائيةَ الصغيرةَ ثم أخرجت حذاءها الأبيضَ ذا الكعبِ الصغيرِ، لاحت في ذاكرتها صورٌ لها عندما ارتدت الكعب أول مرةٍ، فضحكت وقالت: «من يصدِّقُ أنني لم أكن أستطيعُ السيرَ به؟ لقد كنتُ أفقدُ توازني بعد خطوتينِ». ارتدت حذاءها ولبست حجابها ثم أردفت: «أينَ كلُّ الذين رفضوا ارتدائي الحجابِ في سنِّ التاسعةِ؟».

 ثم أكملت وهي تتذكرهم: «لطالما قالوا لي لا ترتدي الحجابَ، ليسَ لأنني طفلةٌ بل لأني لستُ جميلةً، فكيفَ سيصبحُ شكلي بالحجابِ؟ ليتهم يرونني كيفَ أصبحتُ أجملَ؛ بل ووفقني اللهُ بارتدائي الحجابَ».

_________________________________

ذكرى لا تزولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن