جلست بجواره وهى تنتقى الكلمات التى ستقتله بها ، تنتقيها جيداً ، ولكنهت لم تعلم أنها ستنساها فور خروج الطلقة الأولى ، أعدَّت لهذه الجلسة كثيراً فيما سبق ، لم تعطِ فرصة للذكريات أن تنجرف فى دماغها هذه المرة ، ولم تسمح لعاطفتها أن تمنعها عن هذه المحادثة التى لا بد منها ، قررت ألا تنظر لعينيه ، حتى لا تتراجع عما عزمت عليه ، ..
- الشاى سيبرد !!
تناول كوب الشاى وأخذ بارتشافه ببطء ، ونظر إليها قائلاً : - خير .. !
انزلت ناظريها للأرض وقالت : كله خير ان شاء الله ..
ابتلعت ريقها ، ثم أخذت رشفة من الشاى ، نظرت إلى عينيه ، فلم تستطع أن تطيل النظر إليهما ، فعادت بناظريها إلى الأرض ، لاحظ هو ذلك فاعتدل فى جلسته وأمسك بيديها ..
- ماذا هناك !!
تحلت ببعض الشجاعة هذه المرة لتقرر الأمر ، لذا عليها أن تتمه .. عليها ان تسحب الزناد ..
- موضوع الإنجاب ..
تغيرت ملامح وجهه ونظر إليها مستفهماً برجاء ، ظناً منه انها تريد الذهاب لطبيب آخر ، واسراف المزيد من المال هباءاً ، ولكنه لم يلبث أن تلقى طلقتها الأولى ..
- يبدو أن الله لم يشأ لنا أن ننجب .. !
نظر إليها ممتعضاً ، لا يريد أن يصدق ذلك الصوت الخافت الذى يقول له أنها تتركه .. ولكن ذلك الصوت تحول إلى صوتها مصاحباً الطلقة التالية ..
- أريد أن اتطلق ..
خرجت دمعة من عينيها الأبيتين ، ما أصعب قول هذه الكلمة ، وما أقسى وقعها عليه ، كانت المقدمة قصيرة جداً ، أقصر مما أعدته ، بل ليس بها شيئاً منه ، هى تحبه كثيراً ، ولكنها لا تريد ان تضحى بأمومتها ، فكان القرار بعد خمسة أعوام من عدم الإنجاب ، بعد خمسة أعوام من التردد على الأطباء ومراكز العقم ، خمسة أعوام من الصبر ، اختزلتها فى تلك اللحظة ، فى تلك الكلمة ، فى تلك الرصاصة التى اخترقت قلبه ، او كما ظنت هى ... ترك يدها واتجه نحو النافذة ببطء ، مرَّت دقيقة صامتة كساعات الليل الأخيرة ، حتى الضجيج بالخارج تم كتمه تأبيداً لهذ القتيل فى لحظات احتضاره ، .. استند بيده اليمنى على زجاج الشباك ناظراً لانعكاس صورتها عليه ، .. كانت تنظر إليه أيضاً ، .. هى من اختارت ذلك ، وهذا حقها ..
- كنت أعلم ان هذا سيحدث عاجلاً ام آجلاً .. لا بأس عزيزتى ، هذا أقل حقوقك ، كامرأة .. لا بأس ..
لم تمنع نفسها من البكاء هذه المرة ، فغادرت الغرفة مسرعة ، هى تعلم جيداً أنه ما من مواساة يمكن ان تقدم فى مثل هذه اللحظات ، ما من عناق يذيل ألمه ، هى اختارت أن تقتله ، وقتلته .. حتى تنجب هى ، .. ما من كلمات ستخفف ضيق صدره ، وما من لومٍ يُلقى عليها أيضاً ، "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" ، ... ذهبت لتنام فى غرفة أخرى هذه الليلة ، ليلتها الأخيرة فى هذا المنزل ، .. هذا المنزل الذى أعداه سوياً ، نظرت إلى قطع الأثاث ، وصور الحائط ، وإلى الجدران والأعمدة ، والستائر والنوافذ ، كانت تنظر إلى كل هذا بعين باكية ، وكأنها تودعها ، كانت بالفعل تودعها ، .. كانت تودع بيتها ، كانت تقتلع نفسها من حاضرها ، كما تُقتلع النبتة من تربتها ، من أجل مستقبل بِيدَ لها أنه أفضل ، أخبروها جميعاً أنها ما زالت شابة ، ولا يجب عليها أن تضيع المزيد من عمرها فى انتظار مولود لن يأتى ، لم تستمع لهم فى الأعوام الأولى ، وظلت صابرة آملة ، ولكن بدأت ترثى لحالها ، بعدما كانت تخبر الجميع أنه اختبار ويجب ان تجتازه بصبر وإيمان ، ... ولكن تأتى تلك اللحظات التى تشعر فيها أنك فى كهف مظلم ، ولا مجال للخروج منه إلا ان تخاطر و تهدم ذلك الكهف ،حينها أمامك مصيران ، إما ان تدفن تحت أنقاض ماضيك ، او أن تجد سبيلاً ما للحياة مرة أخرى ،،، هذا ما فعلته هى ،. خاطرت وهدمته ، وتنتظر ما سيحدث لاحقاً ، لا تعلم متى سيختفى شعورها بالذنب تجاهه ، ولا تعلم كيف ستتمكن من انبات حياة جديدة فى تربة رجل آخر غير الذى عاهدته ، فقط فعلت ما فعلته ، كأنها ألقت بنفسها من الطابق الأخير ، وفى انتظار لحظة السقوط ..
اما هو ... فى حقيقة الأمر لم يكن يشعر بشئ إطلاقاً ، بل كان يفكر أن هذا الأمر واجب الحدوث ، كى يتحرر ، كما يُبتر ذراع أحدهم ، سيعيش مفتقداً لها طوال عمره ، ولكنه سيعيش ، متخلصاً من هذا الألم الذى حاوطه طوال هذه الأعوام ، تنفس الصعداء ، أغمض عينيه للحظات ، كان يبدو عليه التماسك ، ولكن إذا اطلت النظر إلى عينيه ، ستشعر بذلك الحزن العميق ، الذى سرعان ما يختفى فور خروج كلمة واحدة من فاه ، عانى كثيراً حتى يصل إلى هذه الدرجة من التماسك ، لم يكن هكذا قط ، فراق حيوان أليف كان يقتله فى الماضى ، فما بال فراقها هى ، تنفس الصعداء مرة أخرى ، وأخذ يفكر بعمق ، عمق يخيفك لو استمعت إلى صوت عقله ، كان يخرُج من كل مصيبة تحدث له برغبة فى الاستمرار أكثر ، من خلال هذا العمق المخيف ، تراودت الكثير من الأفكار فى دماغه ، حتى تزاحمت ، فاصبح يتمتم ببعضها بصوت عالى ، "أحب العزلة" ... "سأسافر إلى فرنسا" .. " كانت تكره الكلاب ، ربما سأحقق حلمى واتبنى كلباً الآن" ... "لطالما احببت العزلة" ... "سأسافر إلى المانيا" .. "المانيا مدهشة" .... "لم تعجبها فكرة التبنى ، سأتبنى طفلاً " ... كان مركزا نظره على شجرة ما بالخارج سرحاً ، حتى لاحظ فى انعكاس صورته حبيبات العرق تتساقط من جبينه ، .. ادرك أنه ليس بخير ،،... تحرك ببطء وألقى بنفسه على السرير ، شعر بارتفاع حرارة جسده ، نزع ملابسه ،، كل ملابسه ،، أصبح عارياً الروح والجسد الآن ، خانته عيناه ، شعر أنه خالٍ تماماً ، أين ذلك التماسك !! .. أين ذهب !! .. الآن يسمع صوت خفقان قلبه ، يتسارع ... ويتسارع ، وازدادت انفاسه بشدة .. فانطلقت منه صرخة مدوية ، أخرج فيها كل ما تلقاه من طلقات نارية ، ليس منها فقط ، بل أخرج كل ذلك الألم المختزن فى صدره منذ أعوام .... أخرجه فى تلك الصرخة ... التى استغرقت زمن وصولها من الغرفة المجاورة ، نظرت إليه ... لم تره هكذا من قبل .. اعتادت عليه قوياً ، .. لم تره حانقاً دامعاً العينين هكذا أبداً ،، تسمرت فى مكانها أمام جسده العارى ، اعتدل وأخذ فى استعادة نفسه ، وهى ما زالت غير مستعدة للقيام بأى شئ ، كان هذا اللقاء بين أعينهما طويلاً ، طويلاً جداً .. تحدثا من خلاله كثيراً ، .. حركات عيناه صوبها تخبرها بأنه لا يريدها أن ترحل ، كل دمعة كانت تخرج من عينيه حاملة ذكرى ما .. هى تتذكرها جيداً ، .. شعرت باليأس يعتريه فى كل خلية من جسده ، .. قالت فى نفسها ،، "ماذا فعلت!! " .. وقف منتصباً .. نظرت إليه برجاء أن يهدأ .. انطلق نحوها واحتضنها ... ضمها إلى جسده العارى بقوة ، .. وأخذ يبكى كالأطفال على كتفها ، لم تتمالك الأخرى نفسها وامسكت بوجهه بين يديها ونظرت بحزن إلى عينيه الباكيتين ... وعادت تلقى بنفسها بين ذراعيه ... دام هذا العناق طويلاً ، خوفاً منه ألا يحظى به مرة أخرى ، ورغبة منها فى توديعه ، .. ولكن كلاهما يعلمان أن الأمر انتهى ، انتهى حين القت بطلقتها الأولى ، وقتلت به نفسها هى قبل أن تقتله بها ، انتهى حين هدأ انينه ، وبدأ فى تقبل الأمر وجمع شتات نفسه ، ولكن العناق ما زال مستمراً ، عليهما أن يطيلا الأمر بقدر كافٍ ، فإن لقائهما التالى لن يحتوى على أى عناق ، أو قد لا يكون هناك لقاء آخر يجلسان فيه وجهاً لوجه .. فقط نظرات منه ترسل نداء استغاثة ،، ونظرات منها تخبره أنها آسفة ، ويعبر كل منهما فى طريقه ، منشغلاً بما لديه من أمور ، فاقداً للذة أى شئ .. مفتقداً لعناق آخر .... فقط عناق آخر .