الفصل الرابع

5.9K 133 3
                                    

ظل "شيز" مسمرا فى مكانه . لقد سمع جيدا ولكنه لم يستطع أن يصدق ما يسمعه ، ومع ذلك فإن وميض الخوف الذى لمحه فى عينيها ربما كان من الإثارة لو كانت بيده حرية الاختيار ، لتوقف فى مكانه ... ولكن الأوان فات .. 
بدأ توتره يتصاعد وعضلات تؤلمه ، وسرت رجفة غريبة فى ساقيه وهى تجدحه بإمعان ، قال لها – وهو غاضب منها - :
- ارتدى هذا القميص يا آنسة :
ولكنها عارضته ، وهزت رأسها علامة النفى فى مظهر طفل مفزوع وليس امرأة تريد أن تغويه . أمسك "شيز" بغطاء السرير وغطاها به وسألته – وقد لمعت الدموع فى عينيها - :
- ألا أعجبك ؟ ألاأثير اعجابك ؟ هل أنا نحيفة للغاية ؟
- ولكن ، لا يا "آنى" . أنت جيدة جدا ... ربما نحيفة بعض الشئ ولكن ليست هذه هى المشكلة .
شم رائحة شعرها المبتل وبشرتها النضرة ، أراد "شيز" أن يتراجع بعيدا عنها بعد أن غطاها بغطاء السرير ولكن الأوان فات . سألها وصوته جاف من الانفعال :
- هل تريدين حقا أن تساعدينى فى ترتيب المؤونى وأنت شبه عارية يا "آنى ويلز" ؟ هل فكرت جيدا فى العواقب ؟ وهل هذا حقا ما تريدينه ؟
همهمت "آنى" وهى تحاول الالتصاق به وكانها تبحث عن حنانه وتعاطفه :
- نعم .. نعم هذا هو ما أريده .
لاحظ "شيز" فى عينيها نظرات الانبهار ، همهمت ببضع كلمات لا معنى لها واغمضت عينيها وأوشكت أن تنهار . أمسك بها حتى لا تسقط وسألها فى قلق :
- "آنى" ؟ ماذا هناك ؟
تأوهت وساعدها على الوقوف على قدميها ، إنه يتذكر ردود أفعال النساء العديدات ، بل إنه أحيانا تلقى الصفعات عندما حاول مغازلة بعضهن ولكن لم يحدث أبدا أن أغمى على امرأة بين ذراعيه . ما الذى يحدث لهذه المرأة ؟ إن وجهها شاحب لدرجة مقلقة ، كرر عليها السؤال :
- ما الذى يجرى يا "آنى" ؟
- لا شئ ... إنه تفاعل كيميائى للدماء .. إنه إنخفاض فى نسبة الجلوكوز .. لأننى جائعة .
لم يشك فى كلماتها . ولكنه لم يقتنع بمسألة إغمائها ولديه الطريقة للتأكد سألها :
- هل تستطيعين ان تظلى واقفة ؟
فتحت عينيها الواسعتين الزرقاوين الحالمتين وهزت رأسها بالموافقة ولكنه ما إن تركها حتى انهارت ، إذن هى لا تغشه ولم تخدعه ، مدت ذراعها نحوه وبدت هشة ومنهكة تماما وقد تراخت عضلاتها مثل عروسة قديمة أهملتها طفلة بعد أن ملتها .
الغريب والمثير للدهشة حقا أن رقة تقاطيعها فضلا عن طبيعتها الغريبة قد أثرت فيه تماما وقلبت كيانه رأسا على عقب . فجأة قال بصوت منخفض وقاس :
- اوه يا انسة "آنى" ! من أين اتت تلك العاطفة التى ستتسبب فى هلاكنا معا نحن الاثنان ؟
بعد ذلك ركع بجوارها ثم حملها إلى السرير.
- انت بحاجة إلى أكل كسرة من الخبز يا آنسة ! منذ متى تناولت وجبة طعام يمكن أن تسمى وجبة حقا ؟
ولكن "آنى" لم تكن لديها القوة لتجيب على سؤاله ، إنها بصعوبة تحاول أن تبقى عينيها مفتوحتين ، وبالتالى لم يكن هناك أى أمل فى أن تحقق خطتها لإغوائه ... إذن لقد جاء اليوم المحتوم ! قال لها :
- هذا قميص جديد وليس أمامك سوى أن ترتديه بعد أن تستردى بعض قواك .
رأت فى عينيه أن عدم الثقة والريبة قد حل محلهما شئ ما يمكن ان تصفه بأنه حنان ... لقد بدا أكثر ودا وصداقة .
قالت بصوت مخنوق :
- "شيز" ! "شيز" ! انا اسفة .. لم اكن أدرى أننى سأسبب لك كل هذه المشاكل .
اجتاحتها رغبة حارقة فى أن تبكى وفى الحال أغمضت عينيها ثانية. بعد لحظات أحضر "شيز" طبقين وشريحة خبز . نهضت فى خطوات غير ثابتة ، وراقبت فى ارتياح القميص التى كانت ترتديه ، والذى اعطاه لها "شيز" ... كان طويلا لدرجة أنه يصلح كثوب قصير وقد وصلت حوافه حتى ركبتيها تقريبا ، سألته وهى تجلس أمامه "
- ما هذا ؟
- هذا "كورندييف" محفوظ .. اسف ليس عندى اكثر من ذلك . ولم أكن واسع الخيال عندما احضرت المؤونة .
قالت "آنى" ....... وهى تهجم على الطعام :
- ولكن هذه وليمة حقا !
وعندما قضت على ما فى طبقها رفعت عينيها ، ورات "شيز" لم يمس طعامه الموجود أمامه ، كان ينظر إليها فى عدم تصديق وانبهار .
سألته :
- ألست جائعا ؟
كان كل رده أن ناولها طبقه . وبينما كانت "آنى" تفترس نصيبه من الطعام أحست بأن عينيه لم يرفعهما عنها . وواتتها فكرة ان الأخوات الصالحات فى الدير لم يكن ليرضين عن سلوكها لو رأينها ... ولكن ليس عندها وقت تضيعه امام الطعام . غن الحياة الزوجية شئ رائع حقا ! سألها :
- هل أكلت كفايتك ؟
دهشت "آنى" من نبرة صوته ، واستشفت من ذلك أنه يقول لها كلمات حب بصوته الحنون الرجالى ، وان اقتصر غزله على الاهتمام بالتأكد من أنها شبعت من الطعام . إنها تحس الان بأنه يسيطر عليها بحنانه ، إنه يمتلكها كلية ! قالت له وهى تجول بنظراتها على عضلات صدره البارزة وذراعيه المفتولين :
- إننى أعتبرك مليحا ومثيرا 
قالت فى نفسها : إنه كان من الواجب عليها أن تحمر خجلا لجراتها فى الحديث إليه عن رجولته ، ولكن ما فعلته هو أمر طبيعى أمام رجل فى مثلا ملاحته ورجولته وقوته . ربما كان هذا ما يجب أن تفعله المرأة التى تريد إغواء الرجل ، ولكنها وقد لاحظت قوته البدنية لم تعد ترغب فى رفع عينيها عنه حتى لو حاولت ، وقد بهرتها قوة عضلاته ولون بشرته الذهبية .
أخذ قلبها يدق بلا انتظام وهى لا تدرى ما هو السبب بالضبط ، لقد تربت وسط الهنود الحمر وتعودت على رؤية أجساد الرجال شبه العارية والتى عادة ما كانت قوية ومتينة ، وإذا كان "شيز" مليحا فإنه مثلهم . وهى حقيقة لا يمكن أن تنكرها .
سالها "شيز" مرة ثانية وقد شعر بالتسلية وهو يراها تلتهمه بعينيها :
- هل أنت متأكدة من أنك أكلت جيدا ؟ إننى عندما رأيتك تلتهمين كمية مضاعفة من الطعام خشيت ان تهجمى على وتلتهمينى أيضا .
أحمر وجه "آنى" خجلا وقالت فى رقة :
- ما الذى تقصده يا "شيز بودين" ... هل تحاول مغازلتى ؟
منذ التقى بها وهو لا يكف عن مغاولتها فى محاولة لتعويض السنوات الخمس الضائعة . أجابها بصوت مخنوق يحمل الكثير من المعانى :
- أعتقد أننا تجاوزنا مرحلة الغزل .
تساءل أى رجل قوى يمكنه أن يقاوم امرأة تجلس أمامه ولا ترتدى سوى قميصه الخشن ؟ سألته فى عصبية :
- هل اجتزنا مرحلة الغزل ؟ إذت اين نحن الآن ؟
- لست أدرى ... ربما انتقلنا من الكلام إلى الفعل ؟
- من الكلام إلى الفعل ؟
جدحته لحظة لا تتجاوز ثوانى ثم ارتفعت كتفاها وهى تتنفس بصعوبة ... سألته :
- ماذا تقصد أن تقول بالضبط ؟
- هل تريدين معرفة الحقيقة ؟
ترددت لحظة ثم أومأت برأسها موافقة ، فقال :
- منذ جلست أمامى وأنا لا أكف عن التفكير بك .
وجد مسرة بالغة وهو يرى وجهها يحمر خجلا ، إنه يتصور تماما المشهد الذى جرى بينهما منذ خمس سنوات بعد زواجهما الإجبارى .. بدأ يفقد رأسه ولكن الذى كان يذهله فعلا من رد فعله أمامها هو فقدانه التام لارادته الصلبة .
إنه لم يكن فى العادة يجد أى صعوبة فى السيطرة على نفسه أمام النساء . وكان أثناء عمله فى المهام السرية الخاصة بوزارة الدفاع الامريكية يقضى أوقاتا طويلة دون مغامرات عاطفية ، لأنه كان يرى أنها تحمل المشاكل أكثر من المتعة ولكنه معها يجد نفسه عاجزا عن كبح جماحه ، سالته فى دهشة :
- انت تفكر فى وأنا جالسة هنا أمامك ؟
- إننى أفكر فى أشياء يمكن ان تحملك إلى السماء يا "آنى" ... فى مباهج يمكن ان تجعلك تموتين ببطء .
- اموت وأنا امامك بجوار المائدة ؟
رفعت يدها إلى جبينها وكانها تحاول ان تتخيل ما الذى يقصده بكلامه الغامض .
أخذ "شيز" يتفحصها ببطء وامعان ثم قال :
- إن الأمر غريب تماما مثل كلامى فلا تهتمى .
اخذت تنظر فى عينيه مباشرة ، ولكنها وجدت صعوبة فى العثور على كلمات تقولها :
- لا ... بل نعم . ان الامر غريب فعلا .
وجدها ضعيفة وهشة . اجتاحته مشاعر الحنان التى لم يسبق أن أحسها مع أية امرأة أخرى ، ولكن الذى أدهشه جدا كثرة نزواتها وتقلبات مزاجها ، الامر الذى جعل الغضب والانداش يتصارعان بداخله .
تململ فى مكانه ثم ركل المقعد المجاور له ، نظرت إليه فى قلق وقد اتسعت عيناها ...
لاشك أن كلامه المبهم جعلها تشعر بالصدمة ، بل ربما بالخوف . ولكنه تساءل عما يمكن أن يكون قد أرسل إليه هذه الفتاة حتى تثير الاضطراب فى حياته ؟
اعاد المقعد إلى وضعه بعد ان شعر بالاشمئزاز من نفسه لهذا الانفعال الذى لا معنى له ... متى شعر بالغضب من نفسه لما فعله مع المقعد وغاضب منها لأنها جعلته فى هذه الحالة .
اللعنة عليها ... إنها على إستعداد للتضحية بأى شئ ، هل هذا لأنها تريد الحصول على الجنسية الامريكية كما تقول ؟ سألته :
- ولكن ما الذى فعلته ؟ أليس هناك ما هو أفضل أن تفعله بدلا من العراك مع الاثاث ؟
اتجه نحو الباب .. انه فى حاجة إلى الهواء ... ثم هناك العمل الذى يجب أن يقوم به بدلا من هذه التصرفات الطائشة .... ولكن لم يكن أمامه سوى أن يلوم نفسه .. ان كل ذلك بسبب غلطته ومعرفته هذه الحقيقة لم تخفف من ثورة غضبه .
استدار ... ثم تسمر فى مكانه أمام الألم والعذاب اللذين قرأهما فى عينيها . فجأة فهم ، فهم أنه من الضرورى عندها أن تبقى على قيد الحياة وسط الظروف القاسية التى تحيط بها ... لقد صرعت ، وإذا كانت قد انهزمت فانها لم تكف عن المقاومة ... لقد اثبتت أنها تتمتع بمقاومة رهيبة تثير الاعجاب ، لقد كانت قوية ... إنها أقوى منه بمراحل .
ولكن لماذا تنظر إليه بهذه الطريقة ؟ يا إلهى ! إنه الامل ، رغم كل شئ فانها مستمرة فى ان تضع املها عليه .
وفجأة فهم ما يجب عليه أن يفعله ... ولكنه أمر شديد القسوة بدرجة لا تصدق . لابد أن يميت تلك العاطفة والمشاعر التى يقرؤها فى عينيها ، وإلا فلن يستطيع أن يتحرر من خناقها . قال وهو يحاول ان يضفى القسوة على صوته :
- ليس عندى سوى أمر واحد أقوله لك يا "آنى" . لست الفارس ذا الجواد الأبيض الذى تحلمين به بعينيك الجميلتين الزرقاوين ، ولست اعمى لدرجة لا تجعلنى لا أرى الاشياء التى تنتظرينها منى ، ولكنى لست الرجل الذى يمكن أن يمنحك ما تريدين ، لست البطل الذى تحلمين به ، ويجب عليك أن تعرفى ذلك . انا سيئ التربية والخلق وينقصنى السلوك الحسن خاصة مع النساء . عندما أرغب فى شئ فاننى احصل عليه ن لذلك لا تطلبى منى الكثير ، فانك يمكن أن تصابى بخيبة الامل.
امتلأ فم "آنى" بمرارة العلقم وهى تنصت اليه وتجدحه . كيف تصور انها اعتبرته الفارس ذا الجواد الابيض الذى جاء ليسعدها وينقذها ؟ ثم من أين تولدت لديه تلك الرغبة فى ايلامها وجرحها ؟ لقد احست بالحنق على نفسها ! لأنها ظنته قويا ورقيقا فى آن واحد .
إن هذا المدعو "شيز بودين" لا يمكن أبدا أن يكون رجل أحلامها ، ان روحه سوداء مثل عينيه .
ادار لها ظهره ، ان القوة الهائلة التى تنبعث من كتفيه القويتين كافية لأن تهزم أكثر الناس عنادا ، ولكن "آنى" لا يمكن أن تسمح لنفسها بأن تتاثر بذلك ، ثم ليس عندها ما يمكن ان تخسره.
قالت فجأة :
- سأرحل ... أليس هذا ما ترغبه ؟
- لا يا "آنى" ... ليس هذا ما أريده ، أريد أولا أن ازيل غموض المشكلة الخاصة بالحالة الاجتماعية ، وحتى يتم ذلك أريد منك أن تفعلى تماما ما اقوله لك .
- ماذا يعنى هذا ؟
- انا وانت لم يخلق كل منا للاخر ، ولكنك تستطيعين البقاء هنا الى ان يظهر كل من "جيوف" و "جونى" ز
سألته فى دهشة :
- تقصد مساعديك ؟ هل تحدثت معهما ؟
- لم أنجح فى العثور عليهما ، ولكنى تركت رسالة وسياتيان .
- وماذا لو أكدا قصتى ؟
- وقتها سافكر . ومن الان وحتى يتم ذلك ستبقين فى ركنك وتهتمين بشؤونك الخاصة ولا تتحدثى بشكل خاص مع اى شخص . ولو عرف الناس اننى اقوم بايواء امرأة فان ذلك سيكون مجالا للاشاعات والاقاويل ، وانا لا اريد اية حكايات حول هذا الموضوع .
فكرت "آنى" فى انعدام فرصة ان تلتقى باحد . فهما معزولان تماما ولكنها كانت متمسكة بمعرفة لماذا هو متشبث هكذا بحماية خصوصيته ، فسالته عن ذلك ، فاجابها – بنظرة سوداء جعلت فرائصها ترتعد - :
- الم تسمعى جيدا ما قلته ؟ اننى لا اريد منك أن تتدخلى فى غير امورك الخاصة .
لقد سبق لها وراته وهو فى حالة نشاط وقوة فى امريكا الوسطى . لقد صرع رجلا دون ان يطرف له رمش ، ومن الواضح أنه لن يتردد فى استخدام هذا الاسلوب اذا اقتضت الضرورة لذلك .
قالت له :
- حسنا جد . كما تريد .
* * *
ان "شيز بودين" من النوع الذى ينفذ كلامه ، انه رجل فاسد الخلق حقا ! ما إن فتحت فمها حتى سد عليها طريق الكلام ، ان مسكله المهين جعلها تخرج عن شعورها ، ولكنه فى نفس الوقت ساعدها على ان تعرف قيمة الامور الحقيقية ، وان تعطى لكل شئ قيمتع وأبعاده الحقيقية .
ذكرها ذلك بانها عرفت ما هو اسوأ من ذلك فى كوستاريكا ، لقد كان الموت والياس حظها اليومى . واذا ما قارنت أخلاق "شيز" السيئة فهى افضل من الحياة فى الدير .
وجدت "آنى" ملجأها وتسليتها فى مصاحبة "شادو" الكلب الاسكتلندى ، وجدت متعة فى تصور ذكريات "شيز بودين" ، وتصور كيف يمكنها أن تحول هذه الدار الكئيبة الى بيت لطيف لو تركها تفعل ، ولكن انتظارا لذلك فان مزاج "بودين" الدموى اذا كان يساوى ثقله ذهبا فانه سيصبح ثريا بعمق وثقل سوداويته ، واذا حدث ومات من سواد روحه بانه يسعد "آنى" ان تدفنه بيديها !

زواج بالقــوة ) للكاتبة فلورنس كامبل  حيث تعيش القصص. اكتشف الآن