الجنــدي و الشيطــان !
أنني أتلاشى كظل ستغيب شمسه ، أجول في ذاكرتي ممسكاً قلمي باحثًا في داخل أعماقي عن ما سأكتبه في طيات مذكرات معاناتي و أوجاعي ، فأنا أشعر بالعزلة تحيط بي لقد هربت نحو قلمي و أوراقي لأكتب كل ما مررت به وما لاقيته من الشقاء و مناكفة العداء .
لا صوت هنا يُرجى أن يسمع سوى صدى كلماتي التي قد استحالت إلى حبراً جف على الورق ، الكتابة المهرب الجيد بدلاً من الصراخ .
هذه الكلمات التي تشبه قصيدة رثاء لرجلاً يحتضر وينشدها و متغنياً بها وهو منهمك في حفر قبره ، وقد اضناه حمل المعول ويكاد أن يلقيه لكنه لا يود أن يستسلم لعمله الاخير .
لم أهرب طوعاً الى القلم فأمر الصراخ قد سلب مني ، أنني محطم مسلوب الارادة ، كشجرة تحاصرها ألهبة النار و ترغب بالهروب و الركض بعيداً ، لكن جذورها تأبى و ترفض ذلك ، ستحترق دون ان تبدي أي جانب من المقاومة ، او كغريق يتشبت في قشه تطفو على سطح البحر الهائج انك ترغب بالنجاة ولكن الأقدار تأبى ،
لقد شاءات الاقدار أن أكون فقيراً يسكن في قرية منعزلة وبعيدة عن المدن تكاد أن تسكنها الاشباح لكنها أشد بؤساً من أن تكون ألاشباح قادره على البقاء و المكوث هنا ، أهل القرية من الطبقة المسحوقة و التي تعامل في أسواق المال في مرتبة أقل من الحيوانات فلا أجل ذلك لم نباع ، فلا قيمة لنا وكم يرغبون بالتخلص منا و سحقنا ، ولكن من يقوم بأمور الخدم أن فقدنا ؟ ومن سيحمي ارض الوطن سوانا نحنُ الجنود الفقراء ؟
كان الفقر و الاوبئة و الأمراض تفتك بالكثير من سكان قريتنا ، أن السبيل الوحيد الذي يجعلنا قادرين بأن نصمد هو أن كلً منا لا يرغب بالموت ويسعى لتمسك بالحياة حتى لايرهق عائلته في تحمل عبء مراسم العزاء و ثمن الكفن .
في لحظات العزاء لا تنسكب الدموع ولا يحزن أكثرنا بل أن البعض تبدو على وجوههم ملامح الغبطة حينما يسيرون في تشييع جثمان أحد الراحلين من الجحيم الى مصير سيكون مجهولاً لكنه لن يكون بمثل هذه البشاعة و الشقاء .
توقف الاباء و الامهات عن أنجاب الاطفال ، البعض منهم برر ذلك بأنه غير قادر على أعالتهم و أطعامهم و الأخرين كانوا أكثر صدقاً نحنُ لن نتحمل فم أخر جائع في منزلنا .
كنا أنا و مجموعه من الأطفال ربما أخر الاجيال التي سوف تنشاء و تنمو هنا ، كنا في عمر الحاديه عشر حتى الخامسه عشر ، الكثير من الصبيان و فتاة وحيدة ، لقد كانت أشبه بقمر تحوم من حوله الكواكب و النجوم .
كان جميع الصبيان مُغرمين أشد الاغرام ، فكل احادثيهم عنها و كل افعالهم لأجلها ، ولا يعود ذلك لكونها الصبية الوحيدة بين مجموعة من الصبيان كالوردة في حقل الصبار ، لقد كانت فائقة الجمال ساحرة العينين محمرت الوجنتين ذات شعر كالحرير ، لقد كانت كالملاك الطاهر و النجم الساطع .
لقد كان الصبيان من حولها كل ماهمت بالخروج من منزلهم كالنحل حول الخلية ، فلم يكن لدي أي فرصة لمحادثتها فهيا ، كنت أكثرهم حباً لها و أقل من يحادثها ، أنني كأب أبكم يرغب بأن يتفوه الى أبنته بأنه يحبها لكن الكلمات تابا أن تخرج و تبقى عالقه في صدره .
كنت أبتسم حينما أراها تفرح تضحك تبتسم و تلهوى و تمرح ، ثم تلوح في خاطري بأن أههً يا حبيبتي كما أتمنى بأن تستمري بعنفوان سعادتكِ ولكن معي وليس معهم .
كم رغبت بأن يدور بيننا حديث عابر ، مجرد كلمات لا معنى لها او هراء لا يهم ، كل ما أتمنى حدوثه هو محادثتها و أن تقع عيني صوب عينيها ، علها تقراء ذلك الحب في تلك النظرة التي سرمقها بها .
كانت صبيه ذكية كنت متاكداً بأنها ستلاحظ ذلك في عيناي ، لكن ماقيمة تلك النظرات فهي تراها على كل الاوجه التي تخاطبها .
و ربما لن أن أنتظر أن ترى تلك النظرة وسوف أنفجر دون أن أشعر بالقاء الكلمات و أفصح عن ذلك الحب الدفين الذي أكنه و أحمله في قلبي لها ، ربما ستنفجر هيا ايضاً لكن بالضحك و تضع يديها على ثغرها الضاحك في محاولة لأخفاها بخجلها ، فقدت أعتادت هذا الامر و تلك الكلمات .
أنني أخشى بأن أكون في عينيها مجرد نسخه مكرره من الأخرين ، مجرد صبي أخر كالبقية ، لا شيء مختلف سوى بعض ملامح الوجه ، جميعكم مكررون .
لن تكترث لكلماتي بقدر تفكيرها لما كل هذا التشابه بينهم ؟
كيف ساحاول تغيير تلك الفكرة التي ستلوح في عقلها حينما أنفجر ملقياً عليها وابل من كلمات الحب و ترديد عبارات الغزل ؟
وما عساي أن أجيبها لو همست قولاً بما تختلف عن أولئك الصبية ؟
أنني نسخه مختلفة بداخلي أنسان رائع ؟ تلك الاجابة المثيرة ، نعم ستكون مثيرة لكن للشفقة و التندر لا الاعجاب .
أنها أشبه بعمود من الانارة يمر به الجميع في ظلمة الليل و لا يتذكرهم في مساء اليوم التالي ، هي كذلك ، يمر بها الجميع لما انا سأكون مختلفاً و ذو ذكرى بين العابرين !
لم يكن من شيء يبعدني عنها سوى والدي الذي كان يرهقني بالعمل ، فالطالما اعتدت الاستماع للكثير من الاوامر و العمل مقابل القليل من الاشياء التي نحلم بها والتي هي للاخرين مجرد أشياء لا غنى عنها .
لقد نشأت تحت وطأة أب متجرد من عاطفته نحوي ، فلم يكن يحمل ذلك الحب الذي يجبل به الآباء أبنائهم ، بل على العكس فالطالما شعرت بأنه يحمل لي الضغينه و البغظاء التي يحملها الفرسان حينما تجمعهم ساحة المعركة .
فهو لم يهتم سوى بأن يشاهدني أعمل تحت لهيب الشمس الحارقة ، ولقد وصل بي الحال من علمي بأنه يحمل الكثير من الضغينة فقد كنت أتوسل للشمس المغيب و أرجوا من الوقت ان يمضي ولم أأمل يوماً بأنه سيشفق على حالي و يرحم ضعفي .
فأعود الى المنزل ملطخاً بالطين و التراب و قد مزق العمل ردائي واحرقت الشمس بأشعتها جسدي ومثقلاً بالهموم التي تكاد تحطم صبي في مثل عمري ، أشتم الفقر و المعاناة التي جعلتني أقضي جل ساعات النهار بين المعول و الفأس .
تستقبلني والدتي بالكلمات التي تتفوه جميع الأمهات ، فهي لا تملك سواها وبيدها رغيف الخبز الذي كانت أثار قضم الفئران بادية عليه والقليل من الحليب .
كان طعاماً لا يمكن رفضه بعد أن تقضي كل الوقت في العمل
وما أن أوشك على الانتهاء من تناول الرغيف حتى يصرخ بي والدي وهو يزمجر .
- أذهب أيها الملعون وأخلد الى فراشك لديك الكثير من الاعمال لتنجزها غداً .
كانت والدتي تحاول أن تثنيه عن فعل ذلك لكنه يصرخ بها .
- لم يكن من المفترض أن يعيش هذا الملعون ، كم تمنيت بأن يموت ولا أشاهده في كل ليلة يكبر أمام عيناي .
لم يكن بالإمكان الهروب من تلك الكلمات حتى محاولاتي اليائسة في اغلاق الباب و حجب الصوت لا تجدي نفعاً فقد كان المنزل صغير المساحة ضيق الحجرات و دبيب النملة يسمع في كل ارجاءه .
تلك الشتائم و اللعنات كانت مجرد بضع كلمات ، لكنها كالرصاص تخترق قلبي و تستقر به .
أستلقي على فراشي بين التفكير بالكره الذي يكنه ألي والدي و بين الحب لمحبوبتي ، وقد كنت القتيل بين تلك الفكرتين .
فكم اتمنى يا حبيبتي أن تحبيني بالقدر الذي يكرهني به والدي ، سأكون سعيداً بذلك .
كانت تلك الفكرة هي السبيل الوحيد لأمحاولاتي البائسة بأن أخفف ألم وقع لعنات والدي و شعوره نحوي .
أنني أستمر بالكذب على قلبي في كل ليلة ، فقد كان يصرخ العقل أكذب على ذلك المسكين ، أذا أراد بأن يكون سعيداً فأخبره بما يحب ، اخبره المزيد من الأكاذيب .
وهل يملك الفقراء مايسعدهم غير الكذب ؟ لا شيء نستمر بالكذب و أن القادم سيكون جميلاً ، نستمر في فعل ذلك دون توقف .
أن الحقيقة الوحيدة التي تتفوه به اللسنتنا بها هيا بأننا سنموت ، حياتنا مسلوبه و وهم لا حقيقة بها سوى الموت ، فكيف لا نكذب .
تمر الايام و الاحوال هي الاحوال ، أيام مكرره كالليل و النهار ، يبزغ قمر و تشرق شمس ، لما لا يخلق وقتاً أخر فقد مللنا و سئمنا من ذلك التكرار السمردي .
لم أنكف طوال هذا العام من العمل الذي لا أحصل على أجراً منه سوى رغيف لأستطيع أكماله سوى تحت شتائم والدي والقليل من ساعات من النوم .
بعد يومين سيحل عيد السنة في قريتنا ، وحين حلوله يتفرغ الجميع للأحتفال فلا أحد يرغب بالعمال و ذلك ماكان يغضب والدي ويجعله يمقته و يزدريه ، لقد كان بالنسبة لي كالراحة بعد عام من الجهد و الشقاء .
كان الجميع في القرية يرتدي أجمل مايمتلكون ، تلك التي تكون أقل تمزقاً عن الأخرى ، من تغطي من الجسد أكثر مما تظهر .
بالطبع لم يكن أهل القرية بنفس الدرجة من الفقر ، لقد كان البعض يمتلكون المال و الدكاكين لكن هولاء لم يصلوا الى الثراء الذي يسمح لهم الأنتقال من هذا الجحيم الى ترف و حياة المدينة الصاخبة ، كان حلم الانتقال يشغل تفكير الجميع هنا ، فقد سئمنا هذه المنازل المهترئه و المحطمه ، الكل يرغب في التغيير لكن تحدث كل الأمور بستثناءه .
قبل يوم العيد يختفي الجميع من القرية و لايخرجون من أجل أن يتخلصوا من من مظاهر البؤس و الانشغال بالأستعداد لليوم الكبير الذي لا يأتي فالعام سوى ليلة .
كانت لدي بعض الاموال التي جنيتها دون علم والدي بها ولا لكان مصيرها بأن يسلبها كما يسلب الصياد الفريسة التي اصطادتها كلاب الصيد ، ذلك المال ابتغيت به شراء بعض الملابس المزركشة لوالدتي لكي تحتفل بالعيد كسائر النساء .
وقد خرجت خفية من حجرتي ابتغاءاً للذهاب إلى دكاكين القرية ، الشوارع في المساء خالية من السائرين و تبصر في ازقة القرية المياه قد اختلطت برائحة الصابون وهي تسيل و تجري في الارض وكان البعض منهم يفعلها تبائهياً لذلك وبمتلاكه للصابون المعطر .
صوت الضحكات تصدح من المنازل وقد كانت ترافقني في كل منزل اخطو بجواره ، تلك السعادة كانت تسعدني و تحزنني بحداً سواء فسعادة الاخرين تسعدك و تحزنك لأنها لم تشملك كما شملتهم .
وقبل ان اصل الى الدكان وجدت الصبية تنظر خفية الى احد الدكاكين و بداخله ذلك الفستان المعلق الذي لن تمسه يداك مالم تحمل ثمنه ، كم كانت عيناها مغدقه بالاحزان وهيا تنطر الى مالا تستطيع إليه سبيلا ، تلك هي المرة الأولى التي أراها بهذا الحزن الذي ينبع من العجز و الضعف وعدم المقدرة .
حينها أدركت بأن لكلً منا جانب من الضعف ، نخفيه عن الأعين و تكتمه القلوب ، لم لتكن أن تنظر الى ذلك الفستان بنفس تلك النظرة لو كانت تعلم بأنني ارمقها بعيناي ولربما مرت بجانبه مرور الرياح على سنابل القمح فهيا تتمايل مهما اشتدت الريح وهذا مالا يجعلها تُكسر
لقد كانت تلك الريح تهب و تحرك شعرها المنسدل و غطاء وجهها الجميل حتى في كومة أحزانه ، ثم انها حركت رأسها إلى الخلف وهي تلتقط انفاسها محاولة شحن قوتها ولكي يعود شعرها الى تموجه و موضعه .
كم كانت الفرصة مهيأة لحديث عابر بيننا بشأن القاسم المشترك الذي بيننا إلا وهو الضعف و العجز ، ولكن من ذا الذي سيرضى بالحديث من أجل هذا الجانب فالعاجز لن يشكو الى عاجز .
كان لدي المال الكافي لشراء لذلك الفستان من المال الذي ادخره لشراء لباس العيد وهو كافي أيضاً لشراء الملابس المزركشة لوالدتي فقد قررت التضحية بمظهري و الإبقاء على ملابسي القديمة ، لم يكن يمنعني عن ذلك قلة الحيلة إنما طريقة العطاء ، ينبغي بأن تحصل على الفستان دون ان يلطخ ذلك من كبريائها .
فكرت فيما تملك ولا أملكه من أجل أن أعقد صفقة بيننا نتساوى بها بالمقدار ، لقد كانت من الطلاب الذين يذهبون الى مقاعد الدراسة وهذا الأمر لم يكن متاحاً لي بسبب تعنت والدي و رغبته بأن اكرس جل وقتي للعمل وتحصيل الأموال .
لذلك أتجهت إليها و هدوء الليل اسمعها وقع خطواتي وهي مقبلة ، اخذت تتفحصني بعينيها ولعلها قد تكون المرة الأولى التي تتفحصني بها فقد كنت من أولئك الذين تكون وجوههم لا تفلت النظر اليها في الزحام .
وكلما اقتربت المسافة التي بيننا تزداد اقدامي تزلزلاً و الكلمات التي صفصفتها و نمقتها لأن اتفوه بها هربت من حنجرتي الى أعماق صدري وسوف تقبغ هناك ولن تخرج أبدا .
لقد كان كلً منا يحملق في الاخر و يتساءل في قرارة نفسه عن ماذا يفكر به الاخر ، لكنني موقن بأن ما ابحرت به بتساولاتي مختلفاً عما يجوب به عقلها ، اننا قريباً جداً ونكاد ان تتلامس اجسادنا ولكننا متباعدين كالمشرق و المغرب و كالارض و السماء .
وحينما دنوت منها حتى لا يكاد ان يمر من بينما الهواء ولم استطع ان انبس ببنت شفة فقد جف حلقي و تسمرت عيناي وفقت من سكرتي و ابتعدت عن طريقها حتى لا ارتطم بها ولعلها الان قد إجابة على تسأولاتها التي طرحتها بشأني ، بأنه مجرد معتوة ولا شيء أكثر من ذلك .
لم استطع حتى ان اعتذر لما احدثته لها من ذعر بدأ على محياها فقد كانت الشمس و العمل طوال العام جعلت مني أظهر بمظهر به الكثير من القسوة و الهيئة التي لا تظهر إلا على العاملين في المناجم و الجنود في وسط جحيم المعارك .
تجاوزتها وادرت لها ظهري وقد كانت هي قبلتي و غايتي لقد تاهت قبلتي ومعها ضاعت غايتي ، واظلمت الدنيا فمن يتجاوز الضياء الى الظلام ؟ انا فعلت ذلك بكل جبن و عجز .
وماذا عسى لساني ان ينطق ؟ لقد كان عاجز ليس للعجز فحسب إنما ما الحديث الذي يدور بين الغرباء الذي يجمعهم الضعف في ازقة القرية ! ماذا بعد التحية التي سوف القيها على مسامعها ؟ ان الذي شل لساني كانت الحكمة و العقل الذي لم يرغب في أن يجعلني أبدو كالمخبول .
أصبحت اعد الخطوات التي اخطوها بعد أن تجاوزتها وقد استبدلت الارقام بالوقائع ، ضعف .. خذلان .. هزيل .. وهن .. فشل..
فإذا بصاحب الدكان قد خرج من دكانه و قد التبس عليه الامر وأخذ يصرخ و يزمجر باعلى صوته.
- اذاً انتم من يسرق من الدكان إيه الملاعين في غفلتي .
ولم يكد يفرغ من تلك الصرخة التي أطلقها حتى استل بيده اليسرى عصا غليضه قد وضعها لهكذا مواقف و اخذ يجري نحونا واردت أن اندفع بالركض مطلقاً ساقي للريح وقد ألقيت عليه نظرة أخيرة قبل ان انخذ ذلك القرار. الذي سينجيني فإذا هي على حالها وقد اصابها الهلع فلم تقوى ساقاها على حملها و انتقعت في محلها .
وماهي سوى لحظات حتى امسك بها وهو عينيه تشتاط غصباً و أخذ يهشها بيده والأخرى رفع بها العصا ويكاد ان يهوى بها على جسدها النحيل ، فأنحلت العقدة من لساني و صحت بأعلى صوتي واخذت الوح بيدي مظهراً النقود و أشير به إليه حتى هدء غضبه حينما رآها ونظر الي بتمعن وكم شعرت بأنه بداخله يشتمني فقد قطعت عليه تلك اللحظة التي كان سيفرغ بها عن غضبه ، الذي حبسه بداخله بحثاً عن اللص ، واذا لم يجده سينفجر كانفجار البركان في من يستطيع أن يضعه في موضع صاحب الجرم ولن يهتم حينها ان كان مجرد ضحية المهم هو ان يفرغ حالة الغضب التي تشتعل في داخله.. أن ذلك هو السبب الذي يجعل الابرياء لاينجون من أفعال لم يرتكبوها ليس ضعف حجتهم أنما حاجة الضحية لأن يغلق أستفهام بحثه عن من أرتكب الجرم.
وسألني وهو يحاول كتم غيضه .
- ما الذي تريد شراءه بهذا المال ؟
- ملابس مزركشة و ذلك الفستان .
لقد نظرت إلي حينها وكانني سلبت منها ما تحب ، وقد كان لازال ممسكاً بها لكي يتبين حقيقتها و ان كانت معي او هي متطفلة و سيكمل غضبه بها ، فما كان مني إلا ان امسكت بيدها و دخلت الى الدكان بكل ثقة حينها أعاد العصا الى مكانها وبدأ بإخراج الملابس المزركشة امامي وقد اخترت الى والدتي اجملهم ، وأشارت إليه بأن يأتي إلي بالفستان واخذته و وضعته بين يديها فلم تكن قادرة على رفضه فهو ينظر اليها في ريبة و شك ، دفعت ثمن ذلك وقد تبقى لدي بعض المال مجرد قد قطع نقدية لم تشكل إلا عب حملها .
بخطوات متسارعة خرجنا من الدكان و عدنا حيثما كنا ، لم تحدثني ولم احدثها ، وقد اخذ كلً منا ينتظر الآخر أن يبدأ بالحديث ، لأن هناك حديث يجب أن يقال ، لكننا اخذنا نحملق في بعضنا البعض .
فإذا اختفى القول لابد أن يظهر الفعل ، فقد رفعت الفستان بيديها وقدمته إلي ظناً منها أن الخجل من طلب إعادة الفستان إلي هو من يردعني عن الحديث ، وأن الحيلة و نجت هيا من بطش صاحب الدكان وحان الآن وقت إعادته إلى صاحبه و شكره على معروفه .
لم تكن لدي كلمات لتقال الرغبة وحدها لم تكن كافية ، أشرت اليها بأن تخفض الفستان فصاحب الدكان لازال يمرقنا بعينيه وتحركت الى ان اسير وهي سارت بجانبي على استحياء .
كنت ابطي المسير و اتصنع ثقل ملابس امي المزركشة حتى يطول لي ان تظل بجانبي ، وقد شغلتني فكرة ماذا يجب ان اقول اذا وصلنا إلى نهاية المنعطف و اختفى الدكان و اعين صاحبه .
لذلك كان يجب ان أبدا فيما انتظرته طويلاً وهو أن أخلق حديثاً بيننا ، ولم تكن هناك فرصة اجمل من هذه الفرصة فهيا تراني بنظرة المنقذ و خلو المكان يدفعني لأن أحدثها .
ودون ان ادرك خرجت الكلمات التي لم افكر في قولها .
- ماذا تتعلمون في المدرسة ؟ القراءة و الكتابة وماذا بعد ؟ اهيا اشياء تستحق جلوسكم لساعات هناك ؟
كم كان من الصعب كبح جماحي عن التوقف عن الحديث فاخذت اسرد الاسئلة المتتالية حتى اتاكد بأنها ستطول هيا في اجابتها .
نظرت في دهشه قبل أن تجيب .
- إننا نتعلم في كل يوم امر مختلف عن ما نتعلمه في اليوم الاخر ، فنحن نقرأ و نكتب و نحسب أيضاً ، فلما انت لا تلتحق بها .
تلك هي المرة الأولى التي اختبر بها بأنني احمل صفة الصدق ، فكل الصفات قبل أن تدعي امتلاكك لها يجب ان يتم اختبارها ، فما عساي اقول لها عن سبب جهلي ؟ فالان الكفة بيننا قد تساوت ، ومعروف انقاذها يتساوى مع حديثها مع جاهل .
- والدي .. أن والدي يرى بأن التعليم مضيعة للوقت و الجهد ، ويجب على الفتى ان يجني المال منذ نعومة أظفاره .
- وانت ماذا ترى ؟ اتظنه حقاً مضيعة للوقت والجهد ؟
اذا قال والدي ان السماء حمراء فيجب علي ان اردد ذلك باقتناع ، لكني سوف اجيبك بما أنه ليس هنا ليستمع الى رأيي ، أني أرى التعليم رغم أني لا احيط به علماً مهم .
- مهم ؟ فحسب !
- نعم اظن ذلك ، فلا اعرف ماذا تتعلمون وفيما سيفيدكم ذلك لكنني أعتقد بأنه مهم .
- حسناً انا لا اعرفك جيداً وهذه المرة الأولى التى نتحدث بها ، ولكني أظن بأنه مهم بالنسبة لك ، فأنت لتو دفعت ثمن جهلك وعدم علمك بالحساب فقد ضاعف صاحب الدكان ثمن الفستان حينما رأى مالك بالرغم من ان السعر مختلف عن ما قد دون عليه .
- احقاً حدث ذلك ؟ ولما لم تخبريني حينها ؟
- ظننت بأنك تعلم ذلك ولكنك كنت تخشى ان تعترض فتطالك العصا ، كنت اظن مابك هو الخوف لا الجهل ، اتود إعادة إليه الان بعد ان علمت ؟
- لا لن اعيده .. فما حدث قد حدث .
- انك فيما حدث سابقاً كنت جاهلاً ولكنك الآن تبدو خائفاً .
- نعم هو كذلك وأن الامر معقد ، فالخوف ليس من صاحب الدكان ولكن لن استطيع العودة الى المنزل وانا احمل المال .
- اذا ماذا ستصنع الان ؟
- سوف اتعلم القراءة والكتابة والحساب ..
- وكيف سيحدث ذلك ؟ اتنوي الالتحاق بالمدرسة !
- ذلك الامر مستحيل الحدوث كأن يظهر النهار و الليل معاً .
- ولكن ذلك يحدث في بعض البلدان البعيدة .
- احقاً ذلك ؟ رباه رباه كم أنا جاهل ، أظن بأنه أهم من ما كنت أعتقد
- نعم هو كذلك .
- اذاً هل لي بأن تعلميني على القراءة فحسب وسوف ادفع لك هذا الفستان مقابلاً لذلك ؟
- وكيف يكون ذلك ؟ أن تعلم امراً ما يحتاج الكثير من الوقت و الجهد ولا يحتاج ان تدخل المدرسة لتدرك ذلك .
- أني مستعد لأن اتعلم فلا أريد أن أبدو بمظهر المغفل بعد الآن ، وسوف اطلب منك إقراضي بعض الكتب وسوف ادفع ثمن ذلك ، انها صفقة رابحة لكلينا .
أخذت الفكرة تجول بعقلها بينما هي تنظر بتمعن الى الفستان الذي كان قبل لحظات من الأن مجرد حلم لن يمكنها امتلاكه ، ثم انها كورته بيديها وحضنته الى صدرها .
- حسناً ، انا موافقه على ذلك ، التعليم مقابل الفستان ، عليك في كل يوم سبت اذا غابت الشمس وحلت عتمة الليل أن تأتي الى منزلنا ، وسوف أجعل شرفة النافذة مفتوحة ، فإذا رأيت نور المصباح فعليك الصعود في خفية الى الشرفة وسأكون حينها بنتظارك ، ولن تمكت لدي طويلاً فعليك ان تكون في كامل تركيزك .
لم اصدق ما سمعته اذناي من هول ما أصابني من السعادة ولكني أخفيت ذلك .
- حسناً ليكن ذلك ، كل سبت حتى انتهي من تعلم القراءة .
أومات هي براسها مواكدة على الموعد و اكملنا المسير، كان الامر غريباً لكنه حدث .
وبينما نحن نسير في ظلمة الليل وهي تحتضن الفستان بكلتا يديها و تجول بعينيها يميناً و شمالاً فقد كانت القرية تمتلى بالسكارى في حلول المساء ، ثم وهله ظهر لنا رجلاً يترنح ذات اليمين وذات الشمال وقد اخافها مظهره ، ولم احمل مشاعر مختلفة عنها الا مشاعر الخجل فقد كان ذلك هو أبي .
وقد اقتربت الي حينما رأت وقد ظنت بأني مخلصها كما فعلت في المرة السابقة ، ولكن انا من كان يحتاج إلى الخلاص في هذه اللحظة ، طلبت منها ان تبتعد واشرت إليها بأنه أبي ، وبالفعل اخذت تخطو خطوات مبتعدة وكنها كانت تفر كما يفر السجين من سوط الجلاد .
وما أن شاهدني والدي حتى امسك بي و تبدل السكون الى ضجيج فاهو يزمجر و يصرخ و يصفع بكل ما أوتي من قوة ، واخذ الملابس التي كنت احملها وطفق يسألني عن كيفية الحصول على المال .
لكن لم اكن قادراً على اجابته فقد كانت تتوالى الصفعات وقد كان ذو جسداً ضخم التكوين عريض المنكبين بينما قد كنت هزيل الجسد نحيل العظم ، فاخذ يحملني و يوقعني على الارض وقد اخذ الملابس من يدي و أصبح يمزقها ارباً اربا .
وقذفها على جسدي الملقى طريحاً غارق بالاحزان و الدماء وقد انسلت من الاعين الدموع ، واصبحت الريح تذرو الملابس و تطير في سماء القرية ، وقد انصرف والدي واكمل طريقه وكان شيئاً لم يكن ، فإذا بي ابصرها واقفة تنظر الي بنظرة تملائها الشفقة و العطف .
ثم أدارت ظهرها وقد فهمت بأني لم أرغب بأن تراني بهذا الضعف ، كحالها حينما وقفت اما ذلك الفستان قبل لحظات ، كانت الكدمات تملى جسدي ولكني لم اشعر بالالمها فقد كنت اراقبها حتى اختفت بين أزقة القرية .
عدت الى المنزل اجر أذيال الخيبة ، كيف لهذا البؤس ان يحدث ، فلو مكثت واقفاً هناك لمدة عام وفي نفس هذا الزمان لم يكن لأبي أن يمر من بين الجميع كما مر في هذه اللحظة ، لقد كان لقاءنا اشبه بنيزكين يسيران منذ نشأة الكون وكلً منهم في فلك يسبح في الفضاء الفسيح ، ليلتقيان متقابلان في نفس المكان و الزمن و يحدث الإنفجار و تتكون نجمه ، لكن انفجاري كأن بسبب قمر .
خرجت بكامل قوتي من أجل شراء الملابس المزركشة لوالدتي فها انا اعود بجسد ممتلى بالكدمات و الجروح و ملابس ممزقة ويظهر بأني مشرد لا ملجأ يأوي إليه سبيلا .
طرقت الباب وقد حاولت جاهداً اخفى ما حدث عن والدتي واخذت بيدي اكفكف دموعي التي انهمرت كالمطر و انفض الغبار والأتربة ، وما أن فتح الباب حتى ركضت نحو والدتي و احتصنتها و اجهشت في البكاء ولم تسال عن سبب ذلك البكاء فتلك الجراح و الكدامات قد اخبرتها .
أستلقيت على فراشي و احدق في سقف حجرتي الخشبي الذي لطالما كنت اخشاه بين الفينة و الآخرى أن يهوى فوق رؤوسنا بعد ان تعلن الجدران بأنها قد سئمت حمله .
وبينما أنا غارق في كومة من الأحزان أنبثق لي وجهها الباسم ، وتذكرت بأنني قد حادثتها بل و أصبح بيننا موعد ، وهذا اكثر من ما كنت أحلم بها ، ولكن لماذا وافقت على ان توافق على تعليمي ؟ اتراها فعلت ذلك لأنها لا تخجل من تكشف حاجة أمام صبي جاهل لا نصيب له من الحياة سوى العمل تحت أشعة الشمس كالالة .
غداً سيكون العيد والكل يحتفل بنهاية العام وكلً منا نهاية عامه تختلف عن الاخر حتى أن كان الزمان هو الزمان ، فهناك من كانت لياليهم أشد شقاء من الاخرين ، وآخرون أكملوا العام دون ان ينقص احد من أفراد العائلة وهذا الأمر وحده يجعل هناك من يغبطهم ، فقد كانت الأمراض تفتك و تحصد الاكثر من الارواح و الكثير من الأجساد التي تسير فوق الأرض اصبحت بنهاية العام كومة من العظام تحت التراب ، البعض كان يشعر بالغيرة من رحيلهم وعندما تتملكهم هذه المشاعر تكثر حالة الانتحار .
غرقت في نوم عميق ولم استيقظ إلا من أشعة الشمس التي يتسلل ضوئها من خلال السقف ، وهذا لا يقلقني بهذا اليوم فلا عمل ينتطرني و مراسم العيد لا تبدأ الا بالمساء وقد اخبرتني والدتي عن سبب ذلك ، فقد كان فيما سبق العيد ينطلق مع صباح اليوم مع إشراقة الشمس ، ولكن بسبب تردي حالة بعض سكان القرية فمن يرتدي ملابس ممزقة لم تكن قادر على الخروج بهذا اليوم فقد كانت في مرمى الأعين ، ولا أحد يرغب بأن يعطف عليه الآخرون بهذا اليوم المقدس وايضاً أن العطف هنا لا يفيد فمن يعطف عليك ليس بالحال القادر على مد يد المساعدة .
لذلك قرر سكان القرية بأن الاحتفال بالعيد يصبح في المساء حتى يتسنى للجميع الحضور ، وهناك أماكن بها الانارة و أخرى مظلمة حتى يكون القرار عادلاً فقد كان هناك من يحب التباهي بما يملك و يعمل طوال العام من أجل أن يظهر بالعيد بمظهر حسن ، وسيكون حديث النساء طوال العام ، ولا يهم إن راوه خلال أيام العام المتبقية بحالة رثة فهذا لا يقلل من مظهره الذي ارتسم بذكراهم بليلة العيد ، فهم يرون بأن هذا من صنيع الفقر و الحياة ولا بأس بذلك .
وما أن فرغت من الاستحمام و لبست اقل ملابسي ضرارً من غيرها ، حتى سمعت قرع الباب فإذا هو يوسف وقد كان صديقي الوحيد في القرية بالرغم من أننا لا نلتقي كثيراً ، ألقينا تحية العيد و غادرنا سوياً ، الناس يخرجون من منازلهم كالطيور وهي تغادر اعشاشها ، وقد زانت هيئتهم و الابتسامات تملى الوجوه ، و أصوات التحية و ترديدها لم يكن ينقطع ، حتى المتنازعين و المتخاصمين فيما بينهما كان هذا اليوم هو السبيل الوحيد لإنهاء هذا الخصام و النزاع .
حتى تشعر من فرط التسامح الذي سكن الافائدة انك لتعجب بأن ترا مجموعة من الكلاب وهي تلهث و تركض خلف قطه ، فتجد الناس ينظرون بتعجب على هذا الفعل المشين و العدواني و الحيواني بهذا اليوم المقدس بالرغم انهم يتخاصمون و يتقاتلون طوال العام ، الإنسان يفعل الشر كما يفعله الحيوان لكن بطريقة اكثر تهذيباً فهو يبطش و يرحم بحد سواء ، فتجده ينادي بالسلام اذا كان مستضعف وان ذلك أصل الانسان ، وحينما يستقوي يبطش بمن تحت وطأة رحمته غير مستذكر الإنسانية في شيء .
كانت الحشود تحط بي التي اجتمعت من كل حدب و صوب ، لكن كان الامر بالنسبة كالاديان تملى ارجاء ارضنا المعمورة فتدعها جميعاً من أجل قبلتك فهيا جنتك ، فكم كنت اتوق لمراها لا لقاءها ، ارغب بمراقبتها اكثر من محادثتها .
ولا داعي أن أسهب في ذكر لما كنت أتمنى ذلك .
كانت القرية بجانبها جبل شاهق قد اعتدت في كل عيد نصعد إليه ، واظل هناك اتمل تفاصيل العيد بينما إعتاد يوسف على استراق النظر و التلصص على النساء فقد كان إرتفاع الجبل يتيح له ذلك ، حتى إنه لا يتمنا من أمنيات الطفولة إلا ان تكون له اجنحة يطير بها فوق كل دار و كل قرية تسكنه امرأه .
أخذنا نراقب حشود الناس من أعلى قمة الجبل بعد ان اضنانا تسلقه وقد أصبحنا نراقب الناس في سكناتهم و حركاتهم والتي بدت من لنا كأمواج البحر وهيا تتلاطم فيما بينها ، كنت اتفحص تلك الامواج كما يتفحص البحار اللؤلؤ في أعماق البحر ، ابحث عنها بين الوجوه و اجول في عيني بين الشوارع و الطرقات ، أين يشع النور فحتماً ستكون هيا هناك .
وبين الجمع و الحشد ابصرتها كما يبصر العمال في المناجم قطعة الألماس بين كومة من التراب ، لقد بدت لي كالحلم فقد كانت في غاية الحسن و البهاء ولم يكن هناك من يضاهيها بالجمال ، فقدت أسرت اعين كل من هم حولها ، حتى الاعمى حينما تمر بجانبه سيدرك بحق انها ذات جمال .
لقد كانت تتحرك كالعاصفة فكل شيء حولها يتبعها ، وكم كانت تزين الفستان الذي بدأ لي بالامس مجرد قطعة من القماش ، صوت الموسيقى الذي يصدح في سماء القرية اضاف لذلك المشهد الكمال المطلق الذي لا يشوبه حتى منظر المنازل المتهالكة من الأعلى و بؤس الحياة في قريتنا .
نظر الي يوسف وانا غارق بالنظر اليها ودنا مني وقد وضع يده حول عنقي وجلس بجانبي وهو يبتسم ابتسامة تدل على مكر الاطفال .
- إلا زلت تهيم حباً بها ؟ انك في كل عيد لا تدع هذه العادة ، فتكون هي محبوتك ولكن في بقية أيام العام تكون ملك الجميع فهيا حديث كل الصبيان في المدرسة ، أتظنها تحب كما تُحب ؟
وقبل ان أجيبه و افضي إليه أستطرد حديثه غير مكترث لاجابتي .
- أظن بأنها لن تحب أحد من صبيان القرية ، فهيا سوف تتزوج رجل ثري او حتى أحد الضباط الشجعان ، ودعني اكون صادقاً معك بأن النساء تحب من يكون على قدر كافي من التعليم وهذا مالا تملكه أنت.
صمت هو و خرس لساني وداهمني حزن جديد الى احزاني القديمة المتهيظه ، فقد كنت أعلم علم اليقين بصدق قوله ، وهذا هو سبب أني لم أرغب خجلاً بالحديث عن سبب رغبتي بأن لا أظهر اليها ، فاعكر صفو يومها بتذكيرها بأن ما ترتديه اليوم سيكون عقابه ان تجالس ذلك الصبي الجاهل الذي لا يعلم الحساب و يعيش كالدواب .
ساعات الليل تمر الكل يحتفل و يفرح بينما استطاع يوسف ببضع كلمات أن يجعلني استفيق من ما انا فيه من احلام عذبة تنعش النفس.
بدأت الشمس تستعد لأن تشرق من خلف قمم الجبال معلنه بداية عام جديد ويوم اخر تعود به الحياة الى حالها المعتاد ، ولم يكن يتحرى و ينتظر شروقها وانتهى العيد سوى والدي ، فعندائذاً سوف أعود إلى العمل دون انقطاع حتى العيد القادم .
وقفت وانا أنظر اليها حتى اشرقة وقد لاحت على عيناي ابتسامة فقد رأيتها وهي تنصرف الى دارها و الشمس اشرقت فوق قمم الجبال ، فاخذت انظر اليهما سوياً .
- لقد كانت محقه فيما قالت ، فالشمس و القمر هاهما يجتمعان .
وماهي سوى لحظات من اشراقة الشمس حتى اختفى الناس من الطرقات ، وصوت اغلاق الابواب الخشبيه يحدث ضجيجاً ، وبعدها عم الصمت الذي يسبق العاصفة ، أن الامر يحدث كما لو انهم أفنوا أعمارهم في التدرب عليه ، فهاهي صوت فتح الابواب وهاهم يخرجون وقد استبدلوا الجديد بالقديم من الثياب .
حتى أنك لا تكاد أن تصدق بأن قبل لحظات معدودة كان هنا احتفال و عيد و غناء و رقص و فرح و مرح ، كل ذلك اصبح عدم ولا وجود له ، فالرقص اصبح عمل و الجديد حل محله القديم و الالات الموسيقيه استحالت الى معاول و فأس .
عندائذاً ودعت يوسف وقد تمنيت له عاماً حافلاً بالسعادة و الكثير من العلم ، وقبل ان اغادر استوقفني .
- لم أعلم ماذا اتمنى لك غير ان تكون سعيداً ، فلم اجد في حياتك شيء يدعوا بأن يجعلني اتمناه لك سوى اشياء لا محسوسة كالسعادة ، لكن بحق اتمنى ان تكون بخير و عافية وهذا بالطبع ما يرغب به العمال و الكادحين .
شكرت له بامتنان و هبط كلً منا بتجاه داره ، وقد اصبحت أجري كثور هائج حتى أبحث عن عمل أقضيه قبل أن يشعر والدي بغيابي فلم يكن جسدي يتحمل عقاباً اخر .
بنتهاء ليلة العيد وقد عادت الحياة الى سابق عهدها ، اخذت أنكب في قضاء و إنجاز الأعمال و تحصيل الأموال و تسليمها الى والدي ، وكنت أعد الأيام التي تفصلني عن ليلة السبت حيث الموعد ، و كلما يمضي الوقت يزداد الشك و يساورني القلق بأنها لن توفي بوعدها ، فأخذت أتساءل ماذا لو أنها قد نسيت ذلك الحديث و الوعد بينما أنا غارق بالتفكير به ؟
أن مايشكل أهمية عظمى لنا مع الأخرين قد لا يشكل لهم سوى عبء أو ربما لا يعلمون بأمره ، كالخادمه التي تعمل في خدمة من تعمل لديهم لسنوات حتى ظنت بأنها جزءاً لا يتجزء من تكوين هذه العائلة فهيا تعد الطعام و تغسل الاطباق و تؤدي كل المهام ولا تظن بأن حياتها تستقيم بدونها ، ولكنها ما أن تزيد الملح بالطعام او تسقط طبق و تحطمه حينها ستنهل عليها الشتائم و اللعنات ، وما أن يتقدم بها السن حتى ستجد ارصفة الشوارع تنتظرها غير عابئين بما قد يحدث لها ، وسوف يبحثون عن من هيا اصغر منها و اكثر نظرة و اشد عملاً .
تحصلت على بعض الأموال التي يضعها الناس في يدي فوق الأجر المتفق عليه و يرجع ذلك إذا شاهدوا إتقان العمل وكرمهم ، ولم يكن هؤلاء إلا قلة ، فلطالما عملت بكل جد ثم أجد صاحب العمل ينقص الأجر المتفق عليه وندخل في مشاجرة بالكلمات وهناك تنتهي الى مصيرين لا ثالث لهما ، فأما أن يعود إلي المال بعد ان تجف الحناجر من الكلمات او تنتهي بلطمي و طردي خالي الوفاض ، حتى أصبحت اميز الوجوه التي ستوفي بوعودها من غيرها ، لكن لا فائدة من ذلك فأن أعمل منتظراً رحمته في إتمام العهد خيراً من البقاء بلا عمل و هذا الأمر كان والدي يمقته و عليه فأني استحق العقاب.
مرت الأيام وهيا لا تختلف فيما بينها سوى بالاسماء ، حتى أتى اليوم الموعود للقاء و عملت حينها في تأدية بعض الأعمال التي لا تتطلب الكثير من المجهود ، وما أن حل المساء حتى تسنى لي الذهاب إلى لقائها ، وقد اظلمت الشوارع و أختفى السائرون من الطرق ، فلما يبقى سوى السكار الذين استغرغوا يومهم بالكامل في لعب القمار ، أخذت اتجنبهم ابتغاءاً إليها ، وكم كانت في هم و غم و أنا اجر الخطى نحوها فقد كنت أخشى بأن تكون الشرفة و النافذة قد اغلقت و يضيع انتظاري هبئاً منثورا ، حتى وصلت الى منزلها وقد كانت المنازل التي بجانبه قد هجرها أصحابها ، وقد حملت لها في حينها قنينه من العصير المنعش .
وقفت أسفل المنزل و تكلفت الكثير حتى أرفع عيناي و أتحقق أن كانت الشرفة مضائه أو تكون معتمة فتظلم دنيتي ، وبالفعل رفعت عيناي و وجدت بأن الشرفة قد أنيرت و الضوء ينبثق انبثاقاً طفيف ، وكأنها توفي بوعدها و تبعدني بحداً سواء .
لقد تركتني في حيرة غارق في ألف سؤالاً و سؤال ، أتراها أستقصدت بأن تترك القرار الأخير لكبرائي ؟ لقد كانت بفعلها ذلك تصارع الضمير بأتمام الوعد و إيفاء العهد .
لم تكن تحتاج أن تكون متعلم لتعلم بشأن هذا الأمر ، أخذت أنظر الى الأمتار القليلة التي تفصلنا ، بضع خطوات لكنها بعيده كألف ميل ، هل أدير ظهري و أستفيق من غفلتي ؟ فقد كان يوسف محق ، فما الجدوى من الأحلام التي لا يمكننا تحقيقها ، كالاخرس الذي يحلم بأن يكون شاعراً يلقي الكلمات فتطرب به الاسمع ، حينها يستحيل الحلم الى كابوس تضيق به النفوس و تدمع منه الأعين .
حينها قررت أن اعود على عقبي ، وحقاً لم أكن أفكر سوى بها ، فلما أجعلها تضيق بي ذرعاً ؟ أن كان أختفاي وكاني شيئاً لم يكن يسعدها كنت سأختفي كما يختفي الظلام في النور .
وضعت قنينة العصير حيثما ما كنت واقفاً في اسفل الشرفة ، حتى يكون كاثبت لها بأنها قد أتمت عهدها ، وما أن هممت بالمغادرة فأذا بها قد فتحت الشرفة و وقعت العين بالعين فأرتبكت أشد الارتباك ، حتى كدت أدعي بأني لم أراها و اكمل ما نويت .
تلعثم اللسان و ضاعت الكلمات ولم انبس ببنت شفة ، واخذ كلً منا ينظر الى الاخر ، حاولت ان اتمحص تلك النظرة و ما تنم عنه ، حينها رفعت يدها نحوي و هي تطلبني بأن أصعد بكل تعجل قبل أن يراني الرائي .
واخذت تلح في طلبها ذلك فلم يكن مني إلا ان استجيب ، كنت كمن فقد صوابه بعد أن نسيت كل ما فكرت به قبل هوينات ، فاخذت التف يميناً و شمالاً فلما يكن هناك سواي و اخذت اتسلق وقد حملت معي القنينة و اشتد ساعدي بامساكها حتى لا تقع ، ولم يكن منزلها بذاك الارتفاع الشاهق ولكن هذه طريقة كان يفعلها بعض سكان القرية في بناء منازلهم فتجدهم يرفعونها عن مستوى الارض حتى لا تمتلى بمياه الأمطار و تتلف كل ما تصل إليه .
تسلقت حتى وصلت وقد فتحت الشرفة وما أن وضعت قدمي في حجرتها حتى أغلقتها خلفها ، كانت حجرتها ممتلئة بالصور التي علقت على الجدران .
وقد اخرجت كل الدفاتر و الاقلام و ألقتها أمامي .
- اجلس و أنظر و ركز فليس لدينا الليل باكماله .
جلست على كرسي قد اعدته مسبقاً و اصبح بيننا طاولة قد وضعت عليها الدفاتر و الأوراق .
حينها سألتها عندما رأيت كل هذه الدفاتر التي كانت ممتلئة بالكلمات التي كنت أجهل قراءتها .
- ما الذي سنتعلم في المرة الأولى ،أرغب بأن أعلم أهم العلوم فما هو ؟
- نتعلم ؟ انت من يتعلم ولهذا أنت هنا .
- وهل هناك فرق ؟
- كالفرق بين السقوط و الطيران .. كلهما في الهواء لكن الفرق في الإتجاه ، فأنت اتجهت الي لتتعلم .
- ولكن من يطير سيسقط حتماً .. وسيجد نفسه مرغماً الى العودة
- الى العودة الى ماذا ؟
- الى ان يتعلم .. اني اجهل الحساب و ان اخط بالقلم و اكتب ولكن الحياة تعلمني كما انتم تتعلمون على مقاعد الدراسة .
- حسناً قد تكون محق ، ولكنك الان أتيت من اجل ان تتعلم لا أن تعلم .
وفتحت الدفتر الاول وقد كتبت به الحروف بجانب بعضها البعض و أصبحت تنطقها مرارا وتكرارا ومن ثم أردد انا من خلفها ، لقد كنت اشبه بالبغبغاء يُردد ما يتلى عليه .
وبعد أن ألقت على مسامعي الحروف جميعها و حرصت على أن نطقها بشكلها السليم ، وضعت بين يدي قلم و بعض الأوراق وطلبت مني أنا اتعلم الكتابة و ان اعيده اليها في السبت المقبل ، اخذته وشكرت لها ذلك و غادرت عن طريق الشرفة بعد ان تاكدت من خلو الشوارع من المارة .
ومن حسن الحظ بأن والدي لم يلحظ غيابي ، واغلقت الباب حجرتي و اشعلت شمعة و اصبحت اردد ماحفظته و اكتب ما تعلمته ، حتى سرقتني الخيال بعد ان تذكرت وجهه المشع كالبدر في إكماله .
لو لم يكن معي هذا الورق و القلم لقلت بأنه حلم كان يروادني ولكن الدفاتر و الاقلام لانحملها من هناك الى هنا ، استغرقت بالتفكير بها و نسيت الكلمات و الأحرف حتى انبثقت أشعة الشمس معلنه قدوم الصباح .
كانت الأيام تمضي ثقيلة وتكاد ان تقف و تكرر نفسها ، فليت كل الايام كالسبت ، تكررت لقاءاتنا و أصبحت انهل من علمها فقد اصبحت أجيد القراءة والكتابة حتى انها اصبحت تمنحني بعض الكتب التي اقراءها تحت ضوء الشمعة في مساء ، لقد تعلمت منها السهر و مرافقة القمر .
لقد كانت تجيبني على كل سؤال ابحث عن اجابته ، لكن هناك سؤال لم أستطع أن أسأله فلم أكن أجرؤ على ذلك ، وأن اسالها عن الصور المعلقة على الجدران ، فقد بدأت لي حينها تسكن في مكان مرموق وبجانبها والدها الذي يقال بأنه توفي اما والدتها فقد كانت تلبس أجمل الثياب .
كم كنت اتوق أن اسالها عن سر قدومهم للعيش في هذه القرية التي حتى الذين ولدوا هنا قد ضاقوا بها ذرعاً و يتوقون الى مغادرتها متى ما سنحت لهم الفرصة .
بينما تتمم ما تحاول أن تعلمني إياه تنظر إلي مستفسره اادركت ماكنت تجهل ؟
كما كانت هذه النظرة قادرة على أرباكي و أصبح سجين حيرتي لوهلة ، فأحتار بين أن اخبرها بالفهم و تعجب لرجاحت عقلي ، او أدعي الجهل و اخسر اعجبها و أكسب الوقت في المكوث و تعود بالصفحات لتبدأ من جديد .
أصبحت الأوقات تمضي بنا كمضي السفن وهي تخترق عباب البحار ، كنت في كل مرة أتي إليها أدفع ثمن الدرس ، كنت أضعه أسفل الطاولة وقد كنت أظن في بأدى الأمر بأن ذلك يعود إلى أن لا يخجل أحدنا من الآخر ، لكنني أدركت بأني كنت انا وحدي من لا يرغب في أن يضع المال بين يديها ، فلما أرغب بأن أعلم ان حقيقة قدومي إليها هو أني ادفع هذا المال ، و ربما ساجد الشرفة ستغلق لو لم أكن امتلكه ، لقد كان المال هو تذكرة العبور إليها .
كنت إحرص على أن اتحدث معها عن كل شيء و أستفسر عن ماهية هذه و ذاك من الاشياء المحسوسة ، ما الماء و ما الورد ؟ ولما لا يعيش الورد بلا ماء ؟ وكل ذلك من أجل أن إمهد للسؤال عن الاشياء التي نشعر بها ، فما هو الحب ؟ وهل يعيش الحبيب بعيداً عن المحبوب ؟
كانت إجابتها قصيرة بضع كلمات لا يمكنك أن تفهم ما ترمي إليه سوى أن تتخلص من عبء السؤال .
كنت اطلب منها أن نطفى اضواء الشموع ونجلس على الشرفة ونفتح قنينة العصير المنعش تحت لفحة من برد المساء و نسيمه ، لكن لم يكن يجري بيننا حديث فقط نشاهد المارة السكارى ، وقد كان يضحكنا ترنحهم و شتائمهم التي يلقونها حينما يصدم احدهم بأحد الجدران ويطلب منه طوال الليل أن يفسح له الطريق ويلقي عليه مواعظ عن آداب الطريق ، وهناك من يأتي ويقف بينهم و يصبح حكماً و قاضياً و يستمع للشاكي ثم يطلب من الجدار أن يتحدث عن سبب عدم إفساحه الطريق .
وإن ذلك شيء لا يصح وعليه أن يتحرك و يبتعد و يصيح المشتكي بعد سماع الحكم من القاضي بأن يحيى العدل والمساواة ويقسم بأنه لو كان ملكاً سيضعه قاضياً له ليحكم بين الناس بالقسط و العدل ، فيعلوا ضجيجهم حتى يقوم صاحب الدار من مهجعه وقد إعتاد على ذلك الأمر ، ويخرج لهم وهو يحمل السوط بيده وما ان يسمعون زمجرته حتى يبدوؤن بالهرب و هم يتساقطون كالدمى ، ويدعي الشاكي بأن العدل والمساواة تظلم دائماً بوجود الفاسدين الذين لا ينصرونها ، اما من اخذ دور القاضي فهو يقف في مكانه بكل ثقة وهو يشاهد هروب من حوله ، وما ان يصل إليه صاحب الدار و السوط بيده حتى يصيح به .
- إياك أن تحاول التمرد على رجل القانون .
ومايكاد أن يكمل جملته حتى يهوى صاحب الدار عليه بالسوط و يصيح هارباً كحال من سبقوه .
وأنهم يعرفون بعضهم البعض و يلتقون من الغد وكأن شيئاً لم يكن ، حتى ان الذي كان به غشاوه من السكر هو من يبادر بالاعتذار بأنه ايقظه من سباته ، ويقبل الاعتذار صاحب الدار و يعتذر هو بدوره عن جلده بالسوط ، وكانت كل القرية تسكر فمن لا يسكر اليوم فيعود ذلك إلا عدم امتلاكه للمال فقد خسره في القمار ، لذلك تجد ان كل سكان القرية يحمل في بيته سوط لطرد السكارى ، وقد ضرب كل سكان القرية بعضهم بعضا .
ولا بد من ذكر ان هناك بعض من يحملون المكر و النذالة يرسلون السكارى الى منازل المتخاصمين فيما بينهما ، فيخرح إليه صاحب الدار وهو يشاهد في سكرته يترنح و يبتهج لذلك فهي هدية قد سيقت إليها ويبدأ بحلده بالسوط حتى يشفي غليله منه ، وفي مرات كثيره يكون هذا الفعل ينهي الخصام أو ربما يكون كالشرارة التي توقد نار الخصام من الشتائم و اللعنات الى محاولة تمزيق الآخر .
أن اللقاءات هي سبيل إلى إنماء الحب ونقله من قبول ثم اعجاب يتبعه حب ، الأمر اشبه بوجود بذره في أرض جرداء لذى يجب عليك المداومة على سقايتها دون انقطاع حتى تنمو و تزهر .
وليست كل بذور الحب تحيى و تعيش فكم من نبتة حينما نمت التهمها تيس يهيم في الأرض ، غير عابئ كم من الجهد و الوقت الذي بذل لتنبثق تلك النبته لتشق الارض و تظهر تحت اشعة الشمس .
أصبحت اعلم ماهي تعلم ، لقد جعلتني من جاهل الى متعلم ، ومن شقي الى سعيد ، وإنارة ظلمه كانت معتمه في داخلي ، كانت جزء استمد منها قوتي ، كالغريق الذي يتمسك بطوق النجاة و يتشبت به طلباً للنجاة .
كبرنا سوياً و جمعتنا ذكريات و لحظات لا تمحى ، تشاركنا الامنيات و الأحلام ، فلقد لطالما سألتها عما ترغب بأن تكون .
- أرغب بأن لا اعيش النصف الاخر من الحياة كما عشت النصف الاخر .
- وماذا في النصف الاخر عن نصفها الاول ؟
- من يرغب ان يظل في الجحيم أن كأن هناك جنه !
- وكيف علمتي بأن هناك في الأفق البعيد جنه ؟
- من كان جزء من الشيء لا يمكن أن ينفصل عنه ، كالابنة التي تقسم للرجل الذي يقف أمامها بأنها ليست ابنته ، وهما يحملان نفس الشامه و العينين الواسعتين ، ان هناك اشياء تعود إلينا مهما حاولنا نكرانها .
لقد قالت ذلك وهي تتطلع الى الصور المعلقة على الجدران ، لقد كانت تتكلم وهي تحمل الكثير من الحنين الى الماضي الذي يظل مجهولاً بالنسبة لي .
- اذاً ماهي جنتك و غايتك ؟
- بأن اكون أكمل الجامعة ، لكن ذلك يبدو محال في الوقت الراهن .
- ولما ذلك ؟ فلا أرى بأن ينقصك العلم و الرغبة وذلك مايهم .
- أن ماينقصني اهم من ذلك .. ينقصني المال الذي من خلاله يمكن الالتحاق بالجامعة .
فقد وضعت الجامعات قانون يمنع من لا يملك المال بأن يلتحق لإكمال الدراسة مهما يمتلك من علم ، ان العلم يوجده و يكتشفه الفقراء ثم يتكسب منه الاغنياء و يحجبوه عنهم فيما بعد .
لقد كان ذلك الأمر يؤورق تفكيرها و يشعل نار السكون التي كانت تنعم بها ، كانت تشكو إلي حالها و احلامها ولم أكن أملك حينها إلا ان اكون منصتاً لقولها ، فكيف يشكوا غريق الى غريق .
ان حياتي ظلت معتاده أعمل لكسب المال طيلة النهار ، وقد كان ذلك المال لم تكن إلا حفنة من النقود ، لذلك تطلعت الى أن اكسب ماهو أكثر من ذلك ، ولم تكن في قريتنا فرصة لحدوث ذلك ، فقررت بأن لابد لي من السفر .
ولم يكن ذلك القرار قد أتى في ليلة و ضحاها ، فقد راودني كثيراً بأن السفر للعمل هو الفرصة الوحيدة لتغير ما انا عليه من حال ، ولم يكن هناك ما يمنعني من تحقيق ذلك فوالدي ربما لو اخبرته بذلك سيهرع الى حجرتي ويقذف الي بما املك من ملابس و يغلق الباب و يواصد المزلاج .
لقد كان هذا القرار من تلك القرارات التي لن تتخذها لو سمعتها من داخل عقل أنسان أخر ، أن القرارات التي تنبع من عقلك بالرغم من الألم الذي يصاحب التفكير بها هي أكثر الآراء صدقاً ولا يجانب فعلها الصواب .
عملت بكل جد في تلك الأيام التي تلت القرار ، من أجل أن اجمع القدر الكافي من المال الذي من خلالها سيكون بستطاعتي السفر ، عملت حتى سالت الدماء من يدي و تصبب العرق من جبيني ، وما أن اكتمل المال الكافي للسفر و إتخاذ الخطوة الأولى نحو المجهول .
حينها قررت أن أفصح عن القرار لها ، وصعدت الى شرفتها كما جرت العادة وقد كان الحزن يرافقني في لحظات صعودي وصوت ينادي من بعيد بأن أمحي تلك الفكرة التي ستبعدك عن من تحب ، لكنه كان بعيد بالقدر الكافي لأن لأ استجيب لندائه .
وجلست مقابلاً لها و لم تنبس هي ببنت شفة ، فقد كانت لاماحه لتدرك أن هناك حديث سافصح عنه ، حينها أستجمعت قواي لاكشف و افصح عن مأهية الأمر .
- لقد أعتزمت بأن أكون كالسهم .. يبتعد ليعود اقوى ، فلا يمكن أن أصنع قدري هنا .
أشاحت عيناها وهي تحاول أن تجد مايقال ، وكانها تردد لو أن كل الاحاديث التي بيننا كانت كرد التحية فحتماً لن تجد صعوبة في البحث عن رد وسوف ينطق بها لسانك قبل ان تصل لعقلك .
- وماذا دعاك لتفكر و تعتزم على هذا القرار ؟ فأنت تعيش و الشمس تشرق و الوقت يمضي و الجميع حولك .
- الشجر يعيش ويفوقنا بالسنين وقدره قد يكون فاس حطاب لتدفئة سيده ، والشمس تشرق لتحرق بلهيبها الحطاب و المستضعفين الذين يكدحون من أجل لقمة العيش ، والوقت يمضي على الجميع كالسيد و الحطاب فالاول يستمتع بوقته والاخر يتعذب تحت وطأة السوط وهو على قدر كبير من الظن بأن عقارب الساعه قد توقفت عن عد الزمن ، والجميع حول الحطاب لكنهم لا يعيرونه أنتباه ، أنه أشبه بالظل الذي يهرع الناس إليه هرباً من لهيب الشمس فلا يعينيهم من تلقف لهيب الشمس و أهداهم هذا الظل .
- أتود أن تكون السيد لا الحطاب ؟
- أود أن يكون الحطاب سيد .
لزمت حينها الصمت وهي تتعجب من ما طرق مسامعها ، ثم انها ابتسمت بكل لطف وقد كانت تلك الابتسامة ذات معنى فقد كانت ابتساماتها لتخفف من حدة وقع كلماتها .
- أن ذلك مُحال ، كا استحالت ان تسطع النجوم بضوئها أمام الشمس ، كل ماهو في هذا الكون يسير بمقدار ، فلن يصبح الحطاب سيد ولن تضي النجوم في النهار .
- لكنها بالرغم من ضئلتها أمام الشمس تتقاسم معها السماء ، وتتقاسم معها نصف اليوم ، وتنال من الاطراء مالا تناله شمس النهار.
- أنك فيما تقول تجهل لما يكون ذلك ، فالشمس لا تهتم لما يعتقده الآخرون بها ، وأن النجوم هيا من تظهر أن غابت شمس النهار ، فلما يظهر السيد حينما يعمل الخادم ؟ أنما يظهر عندما يتم أعداد و تهيئة المكان لسيده ، فلكل منهما مساحته ، فالسيد لا يهبط الى مواضع الخادم ولا الخادم يجرؤ على أن مناكفة سيده .
وانك بذاك الاعتقاد كمن يقف على حافة شاطئ البحر و تصل الأمواج الى اطراف أصابع قدميه ويضنها حينما تلامسها وتعود إلى ادراجها قد تخشى غضبه ، فيدنو من البحر حتى تبتلعه موجه عاتيه .
- ليس عليك أن تخترق عباب البحار بقدميك ، أصنع سفينتك و أرفع اشرعتك وسوف تخضع لك الرياح العاتيه و الامواج الهائجه ، أن الحياة لا يجب أن تعاش بمنطقية ، اليست فكرة الطيران كانت ضرباً من المحال لمن سبقونا ، كنا لنصدق أن تنيناً يحلق في السماء و ينفث النيران ، الم تصبح اليوم طائرة ترمي بشرر لكل هدف من أهداف العداء و تحرق الأرض وما عليها ، ان من الجنوان أن نظل نفكر بمنطق في هذا العالم الذي لانعلم كيف أصبحنا به .
كانت احادثينا تشبه بأن تكون قصائد هجاء بين قبيلتين بينهم ثأر و دماء ، كنا نختلف في كل الأمور ولم يجمع بيننا سوى الزمان و المكان ، حتى في الحب لا اظن بأنها كانت تحبني كما أحبها ، لازلت بنسبة لها ذاك الجاهل الذي لم ينضج بعد ، الذي تعلم الحروف و نطق الكلمات على يديها .
لم تكن تفصح عن تلك الأبهة التي يتسم بها المعلمين في حضرة تلاميذهم ، أو ربما إلامر لا يعدو كونه كبرياء معلم بل أنها كانت من طبقة النبلاء فيما مضى لكن هناك عارض طرأ على تلك الحياة وجعلها تهبط في سلم الطبقات من الناحية المادية ولكنها لازالت تمتلك صفات النبلاء .
فكيف لا تبقى على تلك الصفة وهي ماتنكف تحلم بأن تعود إلى ريعان الطفولة بالرغم انني مدرك بأن ليس في جعبة ذكراها سوى القليل من تلك اللحظات التي عاشتها في زهو و ابهة .
لقد كانت لا تتبدل كحال النخيل الذي ينشاء ولن يستحيل الى نوع اخر من الأشجار ، وبالرغم من ذلك لم تكن تحدثني عن تلك الحياة التي نشأت بها و تتوق الى عودتها ، لم يكن قد طواها النسيان بالرغم من تظاهرها بذلك ، لكن عينيها حينما تنظر الى تلك الصور المعلقة على الحيطان تفضح ما يكنه القلب .
لطالما كنت اخشى أن أبتعد عنها بالقدر الذي كنت أخشاه بأن أقترب منها ، فلم تمحى من ذاكرتي تلك الليلة التي قضيناها سوياً وفي نهار اليوم الذي يليه ، كنت منهمك على قضاء أحد الأعمال التي ستقضى عليها المال الذي أستطيع به أن ألقاءها ، اغبر اشعث وقد أصباغ الغبار لوناً اخر على جسدي فغدوت كجثة أخرت لتو من لحدها ، بل كنت في درجة اقل من اكون جثة فالاموات يغادرون هذه الحياة في اجمل الثياب أما انا فقد كان مايظهر من جسدي يغلب مايخفى كالبحر و اليابسة .
كنت ابني منزلاً لن أسكنه ، اعمر حلماً لطالما أرادت أن أحققه و جعل سكانه من أحب وهم قلة .
صاحب الدار بيده المال يلوح فيها بالهواء كلما أراد شحن همة العمال و تهديد لكل من يصيبه الاعياء ، ويشتم كل من لا يعمل بجهد ويصفه بالمحتال وتزداد الشتائم كلما شارف المنزل على أكتمال بناءه .
ويتعمد ان تكون كلماته اشد من حدة السيف الذي بيد محارب يخوض معركته من أجل ثأر ، لقد أراد بأن يهين كبرياء العمال بأي طريقة من أجل أن يرمي احدهم مافي يديه ويتبادلان الشتائم ثم يغادر العامل فازاً بكبريائه تارك حفنة الأموال التي يلوح بها هذا الأحمق ، لقد كان صاحب الدار يظن بأن ذلك سوف يحدث ، ولكن هذا محال فقد تنازل الجميع عن كبريائهم منذ امداً بعيد ، ذلك الامر تتعلمه مع الفقر ، فالكبرياء هنا لا يوازي رغيف خبز في التنور ، نبحث عن فتات الخبز أما الكبرياء فلن يسمن او يغني من جوع .
لكن لاكون اكثر صدقاً كان هناك من تأثر بهم الكلمات وهم ارق الناس قلوباً و أحساسهم مرهف وهم لا يتحدثون كثيراً ، لقد كانت كلمات صاحب الدار تحدث فيهم وقعاً كبيراً فتجدهم يرتعدون حينما يصوب إليهم سهام كلماته ، ويحاولون جاهدين أحداث ضوضاء في محاولة لا تجدي نفعاً لمنع الكلمات أن تصل الى مسامعهم ، فتجدهم يقرعون في مطارقهم بقوة لم تعهدها ، فيظن صاحب الدار بأنه شحن قواهم بكلماته وهو لا يعلم بأنها حيلة العاجز كعجز السمكة في سنارة الصياد فهيا تحدث زوبعه في صراع لن تكسبه ابداً امام سواعد الصياد و سنارته .
كانت الشمس في كبد السماء و قطرات العرق ما ان تنسل على الجسد وتمر بها نسمة من الريح لتطلف وقع لهيب الشمس حتى تجف قبل أن تسقط من الجسد المنهك ، لقد كل ذلك لقد أعتدت عليها فكانما ولدت وبيدي فاس و وبيدي الآخر معول ، لكن ما لا أنساه في ذلك النهار هو أني حينما التفت إلى الطريق الذي بجانب الدار فأذا بها تقف مع مجموعة من الصبية وكلً منهم يحمل كتبه بين يديه بينما يداي كانت يملها الطين و الغبار ، وقعت عيناي على عيناها وشعرت بأن الزمن قد توقف و النهار استحال الى ليل ، فالظلام حالك وقد كنا اشبه بالفراغ الممتلى بالعدم سوى صوت قرع المطارق و شتائم صاحب الدار وجدت طريقها نحو فريسة وديعة في لحظة ضعف وهيا تنظر الى اقارانها بملابس انيقة و كتب تحمل .
لقد بدأت لي مشدوهه فقد علمت الان مدى فقري و بؤس حالتي ، لقد سقطت من تلميذ الى صبي مثير للشفقة ، فقد علمت بأن الشيء الذي يبقيها تنظر الي باحترام هو مالا املكه ، وكم كنت اعاني كم اجمعه ، لقد كانت عيناي حينها لا تحمل من المعاني سوى انها تريد منها أن تعلم بأن ذاك ما يوصلني اليك فلا تلوميني على قلة حيلتي .
كم تمنيت بأن يسعني أن أمحي تلك النظرة التي رمقتني بها كم أنفض ذرات الغبار عن جسدي ، لم ينبس أحدنا ببنت شفة و أخذ الصبيان يسخرون من هيئتي وهم يغننون بأنهم قد شاهدوا ابن الشيطان واخذوا يحملون الحصاء ، لقد كان امامي تصوب الحصاء ومن خلفي كانت تطعنني الكلمات و في عيناها تمزقت انا .
حتى أخذ يوسف يدفعهم ويطلب منهم ترك المسكين ، ولم أعلم سبب قوله ذلك أتراه كان يستعير من صداقتي وتسبب له حرجاً او أراد ان يستنجد عواطفهم ابتغاءاً لابتعادهم .
لقدت سارت هيا بخطى متسارعة كانها تنوي الهرب وسار الصبيان من خلفها ، لقد اخذت اتتبعها بعيناي حتى أختفت عن ناظري ، فشعرت حينها بأن قدماي لا تحملاني ، وقد دفعني صاحب الدار الى الى الشارع وهو لم ينكف بالقاء الشتائم بأنني لا اعمل ، لم اناقشه في ذلك بل مضيت اسير بملامح جامده وخطى مثقلة اكاد ان اقع مع كل خطوة اخطوها ، شعرت بأني خسرتها ومع خسارتها خسرت كل شيء .
لم أرغب بأن اعود الى المنزل فاجد والدي يستقبلني على عتبة الباب باحثاً عن مال الذي جنيته للمقامرة ، فلن استطيع اسعادك يا ابي في هذه الليلة .
قادتني خطاي الى خارج القرية فلم استفيق من الغشاوة التي المت بي الا وأنا في اعلى الجبل المطل على قريتنا ، كيف لهذا الحياة ان تصبح جحيماً و ناراً تتلظى و تزداد تاججاً كلما كبرنا .
أخذت أفكر بأن هناك شيء تحطم ولا يمكن اصلاحه بعد الان ، وقدري مشاؤوم هاهنا فلم يعد المكان يتسع لي ، أردت أن اهرب فلا اعود لكن ماذا عن قيود الحب التي لن تنتزع و سوف تعيدني إليها حتى أن كنت متباعدين كالمشرق و المغرب .
استلقيت على التراب و تواسدت حصاة و تلحفت السماء شاكراً كل غيمة تمر و تحجب اشعة الشمس ، فما حل المساء إلا وقد افقت من النوم الذي غشاني في مثل هذا المكان المكفهر ولم تعجب لنومي فقد اعتدت على ذلك .
كنت اعلم ان عقاب النهار قد تأجل الى الليل ولم يذهب والدي الى المقامرة وسيقضي الليل بأسره يتسلى بمعاقبتي وشتمي ، ذلك الأمر لم يمنعني من أذهب إلى المنزل فقد كنت اخشى بأن يصيب والدتي الذعر على حالي وإني مدرك بأنها تقف على عتبة الدار بجانب والدي يجمعهم المكان و تفرقهم المشاعر نحوي .
سرت حتى وصلت و وجدتهم كما ظننت ، رواني مطاطا الرأس وقد ارتسم على محياي هالة من الحزن والتراب و الغبار رافقني كالظل في النهار ، ادرك والدي بأني قد عملت فانطلق نحوي وانا القادم إليها واخذ يزمجر باعلى صوته كما اعتاد ان يفعل كلما ظهرت أمامه .
لقد حفظت عن ظهر غيب تلك الكلمات التي تليها اللكمات التي تجعلني اتكور على جسدي النحيل محاولاً بعجز ان احتمي منها ، لكنها محاولات لا تجدي نفعاً كمن يشرب ماء البحر الملح ليقيه الموت عطشاناً .
وما أن اصبح يقف أمامي ولم يعد بحاجة الى ان يصيبني بالكلمات فقد إمكنه الآن أن يحطم هذا الجسد بساعديه ، اخذ يصفعني وهو ويحاول إخراج المال الذي يظن بأني قد خبائته ، لم اكن اصرخ فقد اعتدت على كل شيء .. حتى الألم .
واخذ يمزق ماتبقى من الرداء الذي يغطي جسدي ، حتى وقفت والدتي بيننا وشدتني اليها واخذت تصرخ به أن يتوقف ، وادخلتني الى المنزل تحت حمايتها من الرجل الذي هو من يستحق ان يعاقب لكونه السبب في كوني في هذا العالم من اجل نزوة عابرة ندمنا عليها جميعاً .
لم اغادر حجرتي فقد انتابتني نوبة من الحزن وكلما أردت أن أصرخ بأعلى صوتي لاشتم هذا العالم كنت امسك بيدي و أضعها بفمي واطبق عليها حتى تتساقط قطرات الدم في محجري .
افلت النجوم وحلت فوق دارنا شمس معلنه بداية يوم جديد ، ومعه قررت بأنه لن يكون كالامس فقد اعتزمت الرحيل فلم اعد أطيق العيش هنا .
وكم كنت اتمنى لو كنت نجمه حينما تغادر السماء وتسقط مخلفه خلفها وميض كتحية الوداع ثم تختفي الى الابد فتصبح عدم ، فانا مقيد بحبال المشاعر لكن أذا أردت بأن إلا تنقطع فيجب علي حينائذاً أن أبتعد فتلك الحبال يمزقها القرب .
العمل بالمدينة هو الحل المر من أجل تغير عالمي ، ساقتحم المدينة التي تمثل لنا نحن الفقراء و العمال الجحيم ، فهناك يتم استعبادك كأسير في عرين اعادئه ، الناس هناك يحترمون الكلاب المشردة اكثر من احترامهم للعمال ، القانون لا يحميك فكيف يشكوا حيوان سيده الإنسان ؟
الكثير من رحلوا الى هناك الى العمل عادوا باجساد مشوهه قد مزقها السوط و الكي بالنار ، وكل سيد كان يتفنن في احداث اجداد انواع العقاب على من يعملون تحت امرته ، الحكايات لم التي تحكى و تنسج حول العمل المدينة تجعل الكثيرين يفضلون حياة الفقر و رغد رغيف الخبز على المال الذي قد لا يأتي ، لقد كانت تلك الرحلة للعمل اشبه بالمقامرة ، وقلة هم الذين يقامرون بحياتهم .. السكارى او المجانين .
لا يوجد مايمنعني عن اتخاذ قرار تلك الرحلة ، فأبي سيكون أجمل خبر يُزف إليه فقد تاق كثيراً لأن أبتعد عن حياته التي لا ذنبي لي بها سوى اني إبنه ، وحال والدتي مختلف فقد تذرف الدموع لكنها ستعلم في قرارت نفسها ان لا خلاص لي من هذه الحياة الغارقة بالشقاء سوى هذا السبيل .
اما من كنت سبباً لهذا القرار فقد كانت تشبه الضباب الكثيف الذي تظن بأنك ترا من خلاله لكنك تعجز .
فهل أخبرها بما اعتزمت عليه من قرار ؟ ولما اخبرها فلا اظنها سوف تكترث ، او ربما لن يكون والدي هو السعيد الوحيد لهذا البعد الذي اتخذته .
لم أكن لاتحمل أن ابعثر الى ركام بعد أن تحطمت ، فلن أخبرها لا أرى جفاءها سارحل حاملاً ذكريات جمعتنا بين ركام الاقلام و الورق وتلك الصور التي على جدرانها ، فكم ارتبطت عاطفياً بكل من كان وجهه في تلك الصور ، بل اني تمنيت أن اكون بينهم معلقاً بين برواز من أجل ان يتاح لي مرآءها في كل حين ، حينها لن يختلف في الأمر من شيء فهانا عاجز كما لو كنت بالبرواز ، فأستذكر بأن هناك مايفرق بيننا ويجعلني في مرتبة اعلى و أسمى من ان اشبه نفسي بصورة جامدة لا تتحرك فهانا انا احريك يدي يميناً و شمالاً ، لكن أليست حتى الدماء تتحرك ؟
كان موعد الحافلة التي ستغادر المدينة ستنطلق غداً صباحاً ، كانت تنقل العمل الى الجحيم لذلك لا تجدها تحفل بالكثير من الركاب فالفقر احب للنفوس من الموت الذي يصطاد ويحوم حول كل من يعمل هناك .
ولذلك لم تكن بحاجة الى حجز مسبق بل ربما سيحملك قائد الحافلة على ظهره اذا لم تسعك الحافلة ، فقد كان يحصل من أصحاب الدكاكين في المدينة على اجر كل عامل يأتي به ، فتجده قبل مغادرة القرية باسابيع يطوف بها وهو يصيح باعلى صوت .
- من يبيع الفقر ليبتغي حياة الغنى ، من منكم لم تمس يديه جنيهات الذهب ؟ من منكم يحلم بأن تكون دنياه جناه ؟ اعمل لعام لتكسب مال الخلود الذي لا فقر بعده .
كانت تلك الكلمات تجد الاستهزاء من قبل سكان القرية فهم على درايه بما ينتظر كل من ذهبوا الى هناك ، فتلك المدينة ليست كالموت من يذهب إليه لا يعود ، لقد عاد البعض وهم قلة لكنهم كانوا كالموات بل هم أشد فلم يعودو كما كانوا .
كان الناس حينما يستمعون الى نداءه يجيبوه بان لم يعد هناك مجانين لكي تنطلي عليهم مثل هذه الأكاذيب ، حتى السكارى الذين يصعدون الى الحافلة فتنطلق بهم ويستفيقون من سكرتهم تجدهم يقفزون منها مرتعدين ، فقد قيل إن هناك من أخذه السكر فلم يستفيق الى من سوط سيده عندائذاً غضب واخذ يصرخ به أنه لم يرغب بأن يأتي إلى أن يعمل و يذل ويهان فما كان من سيده إلا أن اطلق عليه النار بحجة العصيان ، تلك القصة يتم تداولها كثيراً ولا اعلم مدى صحتها أو أنها قصة اختلقتها واحتالت بها سيده قد أضناها زوجها بالاسراف بالسكر ، لكن هذه القصة تلقى رواجاً كبيراً .
ولابد أن أذكر بأن هناك من ينتظر الذهاب إلى المدينة بفارغ الصبر ، اولئك الذين لم تعد الحياة تغريهم لأن يكملوها ، أو من تكون عائلته لا تجد حتى فتات الخبز فتجدهم يرسلون من يستطيع ان يعمل من العائلة او تجرى قرعة وتقع على بائس الحظ الذي سيكون طوق النجاه للعائلة ، وبعض العائلات كانت ترسل بناتهم الأجمل فقد كانت هذه فرصة لتكسب مضاع كلما زاددت الفتاة حسن و بهاءاً ، لم يكن مايمنعهم من ان يتجاروا بتلك الاجساد فلا قييم تردعهم لقد اجبرهم الفقر ان يتعروا منها كما اجبرهم على ان يتعروا من الملبس .
الجميع كان يتكسب بالطريقة التي تتاح له ، حتى ان بعض العائلات تحتفل إذا أت الخبر بأن المولد صبيه ، وتجدهم يحتفلون بها كمخلصة لهم من هذه الحياة ، ويرعونها و يزرعون في طفولتها افكار التضحية وانها ولدت من اجل ان تكون كالشمعة التي تحترق لاجل ان تضي حياة الآخرين ، فتجدها لا تعرف من الحياة سوى انها ولدت لأجل هذه الغاية وتنظرها حتى تبين لهم بأنها على قدر كبير من المسؤولية ، وما ان تصل حافلتها الى هناك حتى تدرك ان في الحياة اشياء لم تعرف عنها ، وانها قد وقعت في الفخ فكل الصبية الذين معها قد ولدوا وتم تنشائتهم على هذه الفكرة ، بنفس الكلمات والامثلة الشموع والتضحية ، والبعض كان يتفنن في وسائل الاقناع فيخبروها بأنها أشبه بدين قد أتى لتخليصهم من الجحيم الذي اوقعهم الفقر به ، لقد ادركت كل واحده منهم الكمين الذي اوقعها بها ابويها لكن لا طريقه للعودة عندما تصل الى تلك الحقيقة ، فتجده تقبل على حياة المجون برغبة من الانتقام من والديها وهي لا تعلم بأن سبب كل الاكاذيب التي حيكت لها بأن تصبح بهذه الحالة من الرغبة عندما تدرك ماهية الأمر .
أعتزمت أن احسم الامر واستجمعت قواي لاكشف ما اكنه في صدري من قرار الى والدتي ، وجدتها تحيك الملابس التي تمزقها يد والدي في كل مره تصل الى جسدي ، جلست مقابلاً لها و أخبرتها عن الحياة التي اعيشها والتي هي لا تخفى عليها ولكنه التمهيد الذي يسبق الحديث الذي نجد صعوبة في ايصاله و قوله .
اخبرتها بأن من هم في سني قريبون من ان ينتهوا من الدراسة وسوف يجدون الوظائف في انتظارهم بينما انا سأكون في نفس الموضع بعد سنوات ، اعمل طوال النهار ليتحصل والدي على تلك النقود ويبددها في جلسات القمار .
واسهبت في الحديث دون ان استطيع ان انظر الى عيناها فقد كنت اعلم بانها تذرف الدموع وصمتها عن مقاطعتي يدل على انها تدرك بأن هذا الحل الوحيد لتنجوا وتكون حياتك بالرغم من مرارته من حل ، فالدواء اتى بطعم العلقم ، فوجدتها قد رمت ما بيدها لتحتضني وهو قد غرقت في عبرتها ، واخذت تردد .
- ان لم اكن معك فأنا حتماً خلفك ادعوا لك دوماً ، ولو كنت أجهل ما تمر به ما سمحت لنفسي ان أقف بعجز أمام هذا القرار .
لقد ظللنا على هذه الحالة لساعات وهي تخبرني ما علي أن افعله وما علي أن اتجنبه ، ثم إننا نهضنا الى وضع الملابس التي ساحملها في حقيبة قد نفضنا عنها الغبار و استسمحنا من العناكب بأننا بحاجة الى مسكنها التي نسجت خيوطها في ارجاءها .
مر اليوم بطوله وقد قضيته مع والدتي ، واخرجت بعض النقود التي كانت بحوزتها واخبرتني بان احتفظ بها و ان اعطي والدي جزاءاً منها حتى لا يفسد هذه الليلة .
وما أن عاد إلى المنزل كما جرت العادة منتظراً عودتي ليحصل على مافي جعبتي من الأموال التي اضناني جمعها طوال النهار ، هذه المرة الأولى منذ امداً بعيد التي يعود وأكون انا من ينتظره ، تفاجأ حينما رآني بالداخل وقد رام على معاقبتي عندما رأى بأن الملابس لم تتسخ بالغبار و لا السواعد اشقائها الاعياء ، اندفعت إليه واعطيته المال الذي يكفيه لان يسهر الليل بأسره ، ومعها اخبرتها بأني سارحل الى العمل في المدينة .
اخذ ينظر الى الملابس القليلة التي كومت داخل الحقيبة وأدرك بأن الامر حق لا مجال لشك به ، كم كنت في وهم حينما ظننت بأنه سيندفع نحوي و يوبخني على اني سأبتعد وبأنه لا يتوق العيش من دوني ، قل ذلك حتى لو كان كذباً ساصدقه ، لا تقصص تلك الكذبة من أجلي بل من أجل القمار ، لكنه كان يكرهني اكثر مما يحب القمار ، لقد سر لذلك فها هيا المرة الأولى التى أراه سعيداً بها ، لقد احرز نصراً لافكاره فلطالما رأى بأن الشراسة هي التي تجعل الابناء يذهبون إلى المدينة من أجل العمل لا تربيته على حب العائلة و التضحية من أجلها ، كل ما اجتهد في قوله هو أن شدد على أن ارسل له المال وان أظل اعمل في احقر الاعمال فهيا تدخل المال الوفير ، كان هذا الحديث الاول بيننا حتى اني نسيت بأنه يحفظ الكلمات التي لا يحتاجها في الشتائم ، ثم ادار ظهره وهو غارق في لذة سعادته فالليلة ليس بحاجة ان يسكر ، لقد تخلص من عبء ثقيل كان اشبه بسجين لازم زنزانته لسنوات يسمع تلاحم المفتاح في قفل زنزانته وصوت الحارس يخبره بنقضى سجنه .
قد كانت والدتي مجهده طوال النهار ولم تكن في حال تسمح لها بأن تظل ساهره الاعين في هذه الليلة ، اخذت الحقيبة واخبرتها بأني ساغادر الآن لتوديع الاصدقاء ، لقد ودعتني وداعاً لا يحدث الا بين الام و ابنها مهما عظم الحب .
وغادرت وهيا ترمقني باعينها التي فاضت بها الدموع حتى اختفيت عنها تحت جنح الظلام وبين ازقة القرية ، لم يكن هناك من اودعه سوى يوسف ، أتجهت اليه وقد وجدته يلهو كعادته مع بعض الصبيان .
تحت ضوء مصباح يخفت تدريجياً حتى تكاد ان تحل العتمة ثم يعود إلى حاله ، كانت ظلالهم تكبر و تصغر و اصواتهم و ضجيجهم يملى المكان ، كم كنت احلم فيما سبق بأن اكون معهم ، اني اعرفهم اشد المعرفة احفظ اسمائهم و صفاتهم عن ظهر قلب فقد اعتدت أن اراقبهم في ما مضى .
كنت صديقهم الذي لا يعلموا بوجوده كنت اضحك اذا ضحكوا حتى لو تصل كلماتهم التي اضحكتهم الى طرق اذاني ، كنت اشاركهم في كل شيء إلا بأن اكون معهم ، لكن ما ان يحل النهار و يروني في الطرقات اعمل بذلك الوجه المكفهر حتى اتلقى الطعنات من اولئك الرفاق لذلك كانوا اصدقاء الليل جاحدين النهار ، لم اكرهم فانا لم اعرف الحقد يوماً ، حتى ان والدي كلما صفعني و راني في اليوم الذي يليه ابتسم له يصفني بالمهرج .
لم اكن لشوهة تلك الصورة التي رسمتها في ذهني عن هولاء الأصدقاء في الليل ، ودعت يوسف وانا اقف بعيداً في الظلام وما اقساه من وداع ، ثم انصرفت و اختفت الاصوات و اصبحت اسير في الطرقات انظر الى النجوم و اتسال اهناك في المدينة ساراى نفس هذه النجوم ؟ أيطلع القمر ليكن مروحاً للفقراء وخاصاً بهم او انهم يخرج للاغنياء ايضاً ، وهل يروه بنفس الاحساس الذي نراه به ؟ فنحن نحب السماء لاننا لانملك ما نحبه على الارض اما هم فلما ترفع رواسهم و اعناقهم الى الاعلى فقد اعتادوا بأن كل شيء تحت تصرفهم ، لم اتعلم ذلك في الورق ولكنها اشياء يتعلمها عقلك من تلقاء نفسه .
اخذ في المسير حتى وجدتني أقف أمام منزلها و تحت بقعة الضوء الساطعة من تلك الشرفة ، لم اعلم ما قادني الى هنا ، فقد أنشغلت في التفكير بالنجوم فلما ساقتني الى القمر ؟
تسمرت في مكاني كمسماراً لا يزاح ، اقادني الحنين أو بأنه العرفان بالجميل وأن اشكرها لما بذلته من اجلي ، يالا هذا العذر الذي يختلقه القلب حينما يحب ، هناك من يسحبني لان اعود والقلب مندفعاً يكاد يزيح عظام الصدر ليطرق شرفتها ، الأن اعرف شعور والدي حينما يقامر فأما الخسارة او الربح التقدم او العودة .
لقد كنت أضعف من أن اتخذ قراراً فيما احترت به ، كنت أشبه ورقة سقطت من أيام الخريف فلم تعد تشكل أهمية للشجرة وكل ماستفعله هو أن تخرج ذلك الصوت حينما تطائها الاقدام .
اردت ان اصرخ بكلمات الوداع كتلك الورقة قبل أن اذهب إلى حتفي لكني لم أكن بنفس قوتها ، فكرت كثيراً في الاسباب التي تجعلني اودعها و اطلب منها أن تنتظرني حينما أصنع قدري ، فيردعني ذلك السؤال ماذا لو اغلقت الشرفة حينما تراك حينها لن يكون للحياة أي معنى ستقتلني بلا سلاح وبلا دماء او شهود سيعيش الجسد لكن بلا رغبة و روح .
لم يكن في طريق سواي ولا لظن من يمر من هناك بأني تمثال قد شيد لفرط ماكنت به من السكون الى العجز ، كم تمنيت أن يمر السكارى من تحت شرفتها فقد كنت تحرص على مشاهدتهم وهم يترنحون وكانت متعتها التي لا تضاهيها متعة ، كنت سارى وجهها المشرق للمرة الاخيرة حينما تطل براسها من الشرفة و يتموج شعرها الحريري مع كل نسمة هواء منعشة .
يقال بأن الإنسان اذا فكر في امراً ما سيتحصل عليه ، الان استطيع بأن أوكد لكم بأنه محض افتراء لا صحة له ، فأنا لم أفكر في سواها و ها انا راحل كغريب مر بها كفصل من فصول العام صاحبها ثم انتهى زمانه وسيخلفه فصلاً اخر يجتث جذور ورود ربيعه ، لم يتبقى سوى ساعة على موعد إنطلاق الحافلة في رحلة بلا وداع وحتماً ستكون بلا لقاء ، لم أجرؤ على أن أدير ظهري مودعاً فكل ما أتجهت أتجهت إليها كبوصلة لا تعرف الى الشمال .
الساعة تحولت إلى دقائق فلم يبقى في الوقت وقت ، صوت منبه الحافلة بدأ يضج في أزقة المدينة انه الصوت الاكثر رهبة في قريتنا ، وتكاد تسمع في صوت المنازل المتهالكه كلمات التضرع من من كان قدرهم أرسال أحدهم على متنها ، لقد كانت هذه المشاهد هي الفصل بين الفقر و الغنى فهناك من يولد ليضحي بلا حول ولا قوة وأخر يولد ليظن بأن هناك من ولدوا لخدمته و طاعته كالكلب الذي يربض ليتسليته كالعجل الذي يطعمه ، لم نكن سواسيه معهم بل كنا في نفس الصف مع هذه المخلوقات التي ولدت و ستعيش لغيرها .
تسلل الخوف الي فأنسلت دمعه ارتجفت قدماي و أصبت بالعجز في بقعة ضوء شرفتها ، لقد كانت تحمل طوق النجاه لكن من سيهتم بأن ينقذ حشرة ؟
في تلك اللحظة التي بدأ كل شيء يمر سريعاً و أصبحت أرى الناس هموا بالخروج يركضون على عجل من أجل توديع المغادرين ، لقد حاولوا بكل ما أوتوا من قوة كبح جماح لحظة الضعف تلك لكن متى اراد الفقراء شيء وحصلوا عليه ؟
عندائذاً بكل ضعف شعور صحت بأعلى صوت بأسمها ، حتى أن الصمت عم ارجاء القرية لثواني متسألين عن ماهية الأمر ثم عادت كل شيء كما كان فهم يتفهمون بأنه مسكين يطلق صرخة الوداع الاخيرة ، لقد أستمع اليها الجميع فلما عساها لم تخرج من شرفتها بعد ؟
انا ظمآن فاسقيني عامليني كما ستعاملين الغرباء لكن دعيني المتس و احارب المجهول و الشقاء بوجهك المنير ، فانا ظمان فلا تمنعي عني مائك الرقراق .
مزمار الحافلة ينطلق وهو النتبيه الأخير فلا تبخلي علي و جودي علي بلقياك لو بضع من الثواني أستمد منها سعدي و اقوي بها نفسي للعيش بقية سنين عمري .
كانت مرارة الدموع التي أنسلت وداعبت شفتاي تزيد من لوعتي ، أدركت بأنها لن تخرج ابداً وأن الذي بيننا قد تحطم و تلاشى كالدخان الصاعد الى السماء فلن يقع ابداً .
غادرت بقعة الضوء الى ظلاماً دامس نحو حتفي فمن سيعيش بلا غاية ؟
أحلامي تبخرت حتى قبل أن يكن لي الحق في أن أحلم بها ، كانت جميع الأبواب مواصدة فلم أجد إلا أبواب الجحيم قد أتسعت لي وهيا تنادي عبر مزمار الحافلة .
حشد غفير حول الحافلة التي كانت بابها كالنار التي ستلتهم كل مايلقى بها شيوخاً او صغار نساء او رجال ، لونها اسود كجزء من ظلمة الليل لم تكن تعمل الانارة بها بالكامل ، كلمات الوداع و البكاء يختلط مع نحيب الشيوخ الذي يدركون ما ينتظرهم هناك ، وقد كان هناك أشبه بالنظام المتعارف عليه أن لأ أحد يتحدث عن ماينتظرهم بالمدينة في مسمع أولئك الذين يظنون بأن بكاء هولاء الشيوخ بسبب البعد فتجدهم بجسارة الفتوة تقوى قلوبهم وأنهم أقوى في التحمل على من يفوقهم بالسن ، كانت حيلة أتفق الجميع على أن يكونوا اطرافاً بها بلا حول منهم او قوة ، كانت الامهات يزيناً بناتهم بأجمل حله حتى تجد من يتلقفها هناك قبل أن تصبح على أرصفة المدينة بلا عمل ، سائق الحافلة قصير الطول نحيل الجسد بعينين تدل على المكر و الدناءة فتراه يضحك كلما راى أم تحتضن أبنتها وتودعها بالبكاء ، لاشك بأنه اعتاد على هذه الوداعات حتى أصبح يسخر منها .
لقد شاهدت في الحافلة وجوه لم يسبق لي أن رايتها في ارجاء القرية ، لقد تم تخبائتهم حتى لا يكتشفون العالم الذي ولدوا به ، فتراهم باعينهم يستكشفون العالم للمرة الأولى ويشعرون بالحرية كعصفور اطلق من قفص حبس به منذ ميلاده ، كان اولئك ابناء اشد طبقة فقراً في القرية فتجد الأم بجسد نحيل و الابنة بجسم ممشوق القوام ، لم تضحي الام بطعامها إلا من أجل هذه اللحظة ، انها لحظة دفع الثمن و رد الدين الذي أقتروضه بلا ادراك ، ثم أيعقل أن يكن رغيف خبز بثمن الروح و الجسد ؟
جلست في المقعد الأخير مستنداً على النافذة حتى لأقع فما من شيء في داخلي يدفعني لأن أقوى ، لقد أصبحت خاوي من كل شيء حتى أن صدى احزاني تجوب عقلي دونما رادع دونما أمل ، لقد لمع ضوء البرق في تلك اللحظة من ساعات الفجر الاخيرة ليتبعه هزيم الرعد ليهطل المطر ليختلط بالدموع ، لقد كان كهبة لاولئك الذين حاولوا حبس دموعهم حتى لاينكشف الهون الذي هم غارقين به .
لكن بأمكنك أن تميز الدموع المنهمره من الاجفان عن قطرات جاءت من غيمة ، تلك الحيلة الوحيدة التي أستطاع الراحلين أكتشافها و أصبحوا هم من يصبرونهم ، وكم هو امراً شاق أن يجد المرء نفسه هو من يسدل النصائح الى والديه و يوبخهم على ضعفهم ، أزداد المطر و حمل الآباء والأمهات بناتهم على متن الحافلة حتى لا تتلطخ بالوحل وتخسر ثمنها حينما تصل الحافلة الى وجهتها ، زجاج النافذة لم يعد قادراً أمام زخات المطر أن ينقل المشهد فأصبحت الوجوه بلا ملامح مجرد قمصان تسير و يحتضن بعضها الآخر .
عندئذاً لمحت خيالاً كخيالها يقف وسط الزحام كل ماحوله يتحرك وهو ثابت كالقمر بين أفلاك السماء ، بوادر الجنون لم تنتظر حتى تحرك عجلات الحافلة ، لكن الخيال لا يدوم طويلاً مجرد وميض يتشكل ثم يختفي ، فلما عساها لازالت بين الحشود ؟
فتحت زجاج النافذة لأتبين الامر و أقتل الشك باليقين ، زخات المطر وجدت طريقها لأن تتسلل الى إلي فلم أكن قادراً على أن أستوضج الامر إلا بعد معاناة فقد كانت هناك حقاً ولم يكن من بديع صنع الخيال ، هناك امور تدرك أنها تراها لكنك لا تستوعب حدوثها ، كأن ترى سمكه تعيش بلا ماء و طيراً لا يهوى السماء ، فلما عساها تأتي الى هنا ؟ الى المكان اسفل الجحيم في قريتنا ، وكيف علمت بأني هنا وقد أعتزمت الرحيل ؟ اتراها كانت تتبع خطاي ؟ لم أكن انتظر إجابات لتلك الأسئلة .
ترجلت من الحافلة وتكاد الريح أن تعيدني إليها ، وقفت أمامها وقد بدأ ارتباكي واضحاً للعيان ، لم أستطع أن أخلق حديثاً او حتى أن ألقي التحية فمتى شكر الظمان التائه في الصحراء من قدم له اقداح الماء قبل أن يرتوي ؟
أن أول مافعلته هو أني نزعت معطفي و وضعته على جسدها الذي أصبه البلل و هاجمته لفحات برد الشتاء القادم ، بادرتني بالسؤال حينما وقعت العين بالعين .
- أحسم امر الرحيل ؟
- لم أعد قادراً على البقاء ، ألامر فرض و ليس أختيار .
- أتراك ستعود ؟
- أألقائك من المنتظرين ؟
- بلا شك .. و سأقطع الشك باليقين !
- سيبعدنا المكان ، فما حال الرسائل ؟
- سأكتبها لأجلك ..
- و سأعيش لأتحقيق غايتك .
- أستعمل في كل مهنة ؟
- أذا أصابك البلل فأغرق .
- وماذا تروم من ذلك ؟
- أن أراك في نفس المكان الذي حلمتي به .
- هذا صعب .. المال
حينها صدح مزمار الحافلة وهز أرجاء الصمت وقد صعد الجميع على متنها ولم يبقى سوانا فالكل غادر فقد أنتهت مراسم الوداع بلا الدفن للاموات .
نظرت اليها نظرة الوداع الاخيرة .. وحركت يدي بين خصلات شعرها التي أصابها البلل .
- سأبقى على عادتي وسوف أرسل لك المال بنفس القدر الذي سأرسلها الى عائلتي .
رأيت أبتسامتها قد أنفجلت بأشراقة كاشراقة الشمس بين الغيوم .
وقبل أن ترد على الحديث أختطفت منها قبلة على جبينها وصعدت على متن الحافلة فقد حلت لحظة الوداع وعدت الى مقعدي ولم انكف عن التلويح لها بيدي حتى غابت عن ناظري فقد انطلقت الحافلة اخيراً الى الجحيم ، لقد اعادت احياء الروح بالجسد و بدلت الحزن بالسعادة و الظلام بالضياء ، ففي الحياة مايستحق أن يعيش الإنسان لأجله .
بدأت أستكشف وجوه الذين يساقون الى مدينة السفلة و السافلين لقد كنا كالخراف التي تقاد الى مذبحة ، لم تكن كل المقاعد ممتلئة بالركاب لقد كنا قلة فكل منا ينظر الى الاخر بتوجس و ريبة و بدأ الخوف يدب في نفوس من ظنوا بأنها مجرد رحلة .
كان الصمت و صوت العجلات يختلط بصوت زخات المطر و الريح التي تخترق النوافذ التي كانت محطمه في أغلب الحافلة ، أنك لتدرك بأنها قد حطمت من الداخل بأنها محاولة للهرب من الطريق الى الجحيم .
كان الوقار والسكينة تلقفت الكبار فلم تعد لهم أدنى حركة كأصنام مرصوصه بجانب بعضها البعض ، بينما أجتمع النساء والذي كان جمالهم يرأ منذ الوهلة الاولى التي تراهم بها قد أجتمعوا للجلوس متقاربين لتشجع كل احداهن الاخرى ، بينما جلست في مقعد لا يفصل بيننا سوى مقعدين فتاة وقد كانت في شدة الحسن و البهاء ، وقد أخرجت من حقيبة كانت تحملها مقص و اعتكفت على قص شعرها حتى استحالت كالرؤوس الصبيان ، يبدو بأن الحيلة لم تنطلي على الجميع هنا ، فهناك من هم مثلي قادهم القدر الى هذا القرار ، بالرغم من أنها حاولت بذلك الفعل أن تبدو اقل جمالاً لكنها ظهرت بعكس ماتظن فغدت أشد جمالاً مما كانت عليه ، أنها اذا تحاول أن تستحيل اكثر قوة وكانها تعلم ماينتظرها حينما تتوقف عجلات الحافلة عن الدوران .
نظر كلً منا الى الاخر في لحظة سريعة و أومأ برأسه وكأنها للأشارة بأنك من الجيد أن تكون على علم بما ينتظرك أو ربما هي مجرد تحية عابرة ولا دأعي لأن أتنبأ بأكثر من ذلك ، ولكن ما الجدوى من أن نكون على علم بما ينتظرنا ، فكل الخراف ستقاد الى المذبحة تلك التي تعلم والتي لا تعلم فالامر سيان ، بل لعل التي تجهل المصير الذي ستلاقيه ستكون أكثر طمأنينة بجعلها لمصيرها ، ليس من المفترص أن يعلم الإنسان كل الأمور ولابد من أن يترك بعض المساحة للجهل .
الاحاديث بدأت تسمع بين الفتيات فتصلك الى مسمعك الكلمات المفعمة بالأمل و الأحلام و كل فتاة ترسم طريق بهجتها و تسرد ما تتمناه و كيف سيقع سكان المدينة في الهيام بها و أنها لن تختار بين الحشود المصطفه سوى من يقسم لها باغلظ الإيمان بأنه سيرعاها وسيكون حسن الطلة أنيق الملبس يسكن قصير فسيح حوله حرس وكلاب حراسه ، ثم أنها سوف تستدعي عائلتها الى الاقامة معها فالقصر يكفي الجميع و بالطبع زوجها لا يمانع ، هكذا كان الاتفاق مع عائلتها .
أنك أذا تستمع لتلك الأحلام بأختلاف تفاصيلها أذا تستشعر أن هناك قاسم مشترك إلا وهو العائلة و تعظيم قدرها لديهم ، لقد كانوا أشبه بجنود تم تعليمهم أن يموتوا في سبيل أن يعيش الملك .
أن ما أشد ما حيرني في تلك الحافلة هو سائقها أتراه كان من الفقراء ؟ فملبسه و مظهره يوحي بذلك ، لقد جند لخدمة الأغنياء و خان البسطاء ، لقد كان أشبه بالسمكة التي خرجت من أعماق البحار عند أول أنسان ، لقد كانت بذلك الفعل قد وشت ببقية مخلوقات البحر فتعلم الأنسان الصيد وغاص الى الاعماق بسبب تلك الوشاية .
لقد أستمرت الرحلة لساعات طويلة و مرهقه للأجساد فالحافلة تهتز ولا تنكف عن أصدار الأصوات التي تشبه النحيب على قدرنا المشؤوم .
لقد تسنى لنا أن نرى أسوار المدينة وكم هالنا أتساعها و علو أبنيتها و أخذت القلوب تخفق و الخوف أحكم قبضته على الجميع فحتى الشيوخ ترأهم قد بدأت أجسادهم ترتعش خوفاً و توجساً .
لم يعد من المجدي أخفاء الرهبة فأهذا أخر مايفكر من يقبل الى الموت ، لقد دخلنا الى دأخل المدينة و أصبح كلً منا يحملق من أحد نوافد الحافلة ، لقد مذهلة للأبصار فالزحام هنا مشتد و الكل يرتدي الملابس الانيقة و القبعات الملونة لم أرى أياً منهم برداء ممزق .
بدأت الحافلة تسير في طرقات المدينة و يزمجر السائق بصوت منبه الحافلة بأعلان و صلونا ، أصبح الناس يسيرون في محاذات الحافلة وأخذ ينادي بعضهم بعضا ها قد جائنا صيد وفير كنا كأسماك أجتذبتها شباك الصياد الى قاربه بينما كانوا كطيور النورس التي تحاول الحصول على نصيبها من ذلك الصيد ، لم نعد ننظر اليهم من النوافذ وعاد الجميع الى مقاعدهم من هول الصدمة التي أستقبلوا بها.
أخذ ينظر كلً منا بالاخر متى و كيف سينتهي ذلك ؟ فنحن مع كل طريق نمضي به نجذب معه حشود لاتنفك عن ملاحقتنا ، لم يدوم الامر على هذا النحو فحسب بل أصبح هناك من يتلقف الحافلة و يحاول جاهداً أستراق النظر إلى داخلها محاولاً تفحص ماجلبته إليهم ، لقد كان الحشد الغفير حول الحافلة كموكب يحمل ملك لكننا كنا حفنة من الخدم و الفقراء قادهم القدر الى هذا المصير ، لقد كنا نعلم في داخلنا بأننا لا نستحق ذلك الاستقبال ، لقد كانوا يتقافزون حول الحافلة و قد أستطاع بعضهم أستكشاف من هم في داخلها ، وبدأت الاخبار تنتشر كنتشار النار في الهشيم ، أنها تحمل الحسناوات لقد كانوا ككلاب مسعوره أجتذبتها رائحة الدم ، فأزداد الناس حولنا بعد رواج الخبر ، لقد كانوا بالرغم من الأناقة التي تظهر على مظهرهم الى أنهم كانوا في غاية الانحطاط و السفالة ، أقتربنا من وسط المدينة وقد شكل الحشد حلقة تسمح للحافلة بالوقوف أن تفرغ مافي جعبتها ، وهذا ماحدث فقد توقفت العجلات عن الدوران و أطلق السائق صوت المنبة كأعلان أخير و كندى لنا بأن أستيقضوا من غفلتكم فها هيا حياتكم قد بدأت ، ترجلنا من الحافلة وقد صعدنا سلم الى منصة مكشوفة من كل النواحي وكنت كان الناس من حولنا من كل جانب ، أخذ أحد الرجال و يظهر بأنه المسؤول عنما سيحدث هنا بعض القطع النقدية وقذف بها الى السائق الذي أنحنى يشكره ويلتقطها و غادر بحافلته بعد أن أتم المهمة وحينها أستدرك الجميع بأن لا مجال للعودة و أن صلة الربط بين الحياة و الجحيم قد أنتهى .
لقد كانت العيون تتفحصنا و تفترسنا ، لقد كان مزاد لبيع العبيد الى الساده من أهل المدينة ، لقد كنا بلا حقوق او حتى رأي ، فقد بدأ الرجل المسؤول يصرخ بصوته الجهوري والذي يبدو بأنه أعتاد على أن يقف في بيع البشر لبعضهم .
أن اول مابدأ بعرضه هم الشيوخ وكانه يرغب بأن يتخلص منهم مبكراً ، لقد قادهم الى الأمام و أصبح يخبرهم عن مايميز أختيارهم كخدم فهم مطيعين و غير متمردين و هم مؤتمنين للعمل في أي مهنة تكلف لهم .
أندفعت الأصوات حينها وكل منهم ينادي بماله ، ومع أعتلى الرقم بدأت الاصوات تخفت تدريجياً حتى حسم الأمر الى أعلهم عرضاً و أختار أحدهم وقد بدأ بوجه مرهق ، و سأله هل صحتك على مايرام ؟ لم يتردد الشيخ بالأجابة وقد غمرة الزهو بأنه أول من أختير من بينهم و أجابه بأنه على أحسن مايرام .
ثم صعد إليه ومعه رجل يتفحص الشيخ وقد بدأ لي بأنه طبيب ، وبعد الفحص التفت الى الرجل و أخبره بأنه مناسب لأن ننتزع منه كليته و نضعها لك ، لم يكن ذلك سراً يخفى فقد قيل أمام الشيخ الذي بدأت ترتجف فراصه و يتمتم بكلمات تدل على الاعتراض ، لم يستمر ذلك طويلاً فقد حمل الرجل المسؤول العصا وهوى بها على رأسه حتى شجته و تناثر الدماء و سقط الشيخ فاقداً للوعي فحمله الطبيب بين ذراعيه فقد كان نحيل الجسد ولم أراه او أسمع عنه بعد ذلك ولاشك أن العملية قد أجريت .
لقد أدركت الخراف أخيراً امر المذبحة و أنها قد سلمت الى كلاب مسعورة ، فقد كان الفتيات بوجوه ليست لها ملامح أصابها الخوف و أغشتها الصدمة وهم ينظرون الى مصير الشيوخ الذين بدأوا يباعون واحداً تلو الآخر حتى لم يبقى منهم أحد .
ومن أجل أنعاش الحشد صرخ الرجل المسؤول بأنه سيبيع أحد الحسناوات إلان ولن يتتظر نهاية المزاد ، وصرخ الحشد بصوت واحد بأن يختار حليقة الشعر ، لقد كانت محطة إعجاب الجميع فهيا كالقمر بين النجمات ، وأقتادها الى الأمام ولم يبدأ عليها أي جانب للمقاومة فكان الرجل يحركها كيف مايشاء وهو يستعرض قوامها الرشيق للحشد ، لقد أعتلت الأصوات أشد من ذي قبل وهاج و الناس و مرجوا و بدأت الارقام تصل إلى ارقام لم أتعلمها في الحساب ، حتى صعد الى المنصة رجل مسن يرتدي ملابس من الحرير و يتقلد قلادة من الذهب الخالص وصمت الحشد حينها و أدركت بأنه يملك مالا يمتلكون ، فحتى هنا هناك اغنياء أكثر من غيرهم و فقراء بنسبة لغيرهم ، لقد أخذ يتفحصها بيديه وكان الاعجاب يتضح على محياه فأخبر الرجل بأنه سيشتريها و سيدفع من أجلها ضعف مادفعه غيره ، لقد أنفرجت اسارير الرجل حينما سمع ذلك وأصبح يشكره و يثني على كرمه و أخذ المسن الفتاة وأختفى بها بين الحشد لم تعترض على مصيرها بل لقد بدأت لي راضيه به أشد الرضا فهيا ستكون تحت رحمة مسن لا يقوى على الكثير ولن يعيش في تنكيلها العمر كله ، ولن تواجه مصير الاخريات التي بدأ أصحاب الحانات يعرضون الأموال لجلب بائعات هوى الى حاناتهم ، لقد أدركت الفتيات بأن هنا لا زواج ولا أمراء في أنتظارهم ستكون أجسادهم متاحة لمن يدفع أكثر ، المال مقابل المتعة هذا القانون الذي سيحكمنا من الان فصاعداً دون أن يحق لك الاعتراض على مصيرك و ثمنك البخس ، كان يمر بهم البائع و يستعرض أجسادهم وكل من لا تكسب الكثير من الاصوات يمزق من ردائها حتى تظهر مفاتنها فيسل لعاب قطيع الضباع فتتعالى الاصوات حينها و يزداد الثمن .
لقد كان أختبار السادة لم يرغبونهم في خدمتهم بأن يصعدوا الى المنصة و يأمرون كلابهم بالهجوم على من أختاروه فأذا أرتعد و علت صيحته يختبرون الاخر حتى يصلون الى مبتغاهم ، لقد كان جانب للمتعة أكثر من كونه البحث عن عبد يمتلك الجساره و رباطة الجأش ، فهم أذا وصلوا الى مبتغاهم بمن يملك تلك الصفات التي تنم عن القوة سيبدؤون في التوجس و الارتياب منه وسيحاولون عبر تعذيبه و تنكيله قتل روح المقاومة و القوة في داخله ، لقد كانت متعتهم ترويض الخدم و العبيد .
لقد كان الجميع يساق الى مصير مختلف لكن كل الطرق كانت تعبر بك الى الجحيم الذي كانت ابوابه سالكه لنا ، وهو الطريق الوحيد الذي لا يتعثر به الفقراء و الناس الطيبين في الحياة ولا يجدؤون به من يوقفهم عن الوصول الى نهايته كما يحدث حينما يحاولون الوصول الى احلامهم و غاياتهم .
اصحاب الحانات تحصلوا على الجميلات من بين الفتيات ولم يكن أحد يزيد عليهم في الثمن ومن يفعل ذلك ينهره الحشد ، فهذا هو السبيل الوحيد لهم بأن يستمتعوا بهذه السلعة وكم يغضبهم أن يتحصل على أحداهن رجل بماله و يحتفظ بها لنفسه فذلك نوع من الانانية و الدناءة التي لا يجوز أقترافها فهولاء لنا جميعاً وليس من حق أحد أن يخص بهم نفسه ، ولكن بالنهاية المال هو من يحكم فقد شاهدت من كسر تلك العادة غير مكترث لصرخات الحشد .
لقد شعرت بأنني قد نُسيت حتى هنا في وحل الجحيم ولم يبدأ المزاد علي فالبائع يمر بجانبي ذات اليمين وذات الشمال دون أن يختارني ، أتراه قد نسيني ولم يعد لي وجود حتى الجحيم ؟
لقد فرغت المنصة ولم يتبقى سواي وبدأت جموع الحشد بالتفرق بعد أن شاهدوا العرض ، لم يكن أحد يهتم بمن تبقى فوق المنصة بعد أن سيقت الفتيات الى الحانات ، فقد أحتشدوا في كل حانة أستقطبت أحداهن والكل يُريد أن يكون أول من يختبر هذه الفتاة التي تجهل هذا العالم ، الكل يرغب بأن يكون اول معلم يوقع على تلميذته أقسى انواع العقاب دونما تمهل او معرفة .
هل من حقي أن اسال لماذا لم أعامل كغيري من العبيد ؟ لا ليس من حقي ذلك وكل مايتوجب علي هو الصمت و الوقف منتظراً أن يتذكرني ، فحتى الكلاب يتذكرها أصحاب الدار بعد أن يفرغوا من تناول المأدبة ويلقون لها المتبقي من طعام ، فلا أحد ينسى علي أن أتذكر ذلك ملياً.
لكن ماذا لو كنت أحط و أدنى من أكون ككلب الدار ؟ ماذا لو غادر البائع مزهواً بماله وبقيت أنا فوق المنصة كان شيئاً لم يكن ، لم أكن فيما أظن أستحق اثارة الاعجاب لكن ماذا عن اثارة الشفقة ؟ اليس هناك من يلتقطني حتى لا أشعر بما أشعر به الأن من أنحطاط وأني بلا قيمة كالصفر في الشمال ، لقد كنت أشفق قبل هنيئا على من أتخذوهم بائعات هوى ، تلك سخرية القدر أن يشفق الأعمى الذي يتخبط في الظلمات على الأعور الذي يبصر الليل من النهار و القمر من بين النجوم .
كم وددت لو كنت حفنة من تراب فوق المنصة فتهب الريح و أصبح شيئاً لم يكن أتلاشى دون أن يبقى لي أثر ، ما الذي علي فعله ؟ هل أنا حر لأن أتخذ قرار الهبوط من على المنصة ؟
هل أدنو منه و أخبره بكل تذلل و رجاء بأن جسدي سليم و اعضائي لم يمسها الضرر ، أن لم يعجبك ما في الخارج فهناك أشياء في الداخل تستحق أن تعرض و تشترى ، هل سأعود الى القرية خالي الوفاض كناجي لم يستسيغ الجحيم أبتلاعه ؟
أم أظل هنا أتسكع بالطرقات بحثاً عن مأوى و أستلقي على الأرصفة كبقية الكلاب ، فالأن حقاً لم أكن أشعر بالأختلاف الذي يميزنا .
كل ما كنت أنتظره هو القرار الأخير حينما ينظر البائع بعد أن يفرغ من عد ما جناه من مال الى أن ينظر الى المنصة بفخر التي جعلته يتحصل عليها ، حينها ربما ستبصرني عيناه و أما ينهرني حتى لا أدنس قدسيتها أو سوف يستذكرني و يعيد فتح المزاد .
لقد كان في غمرة السعادة وهو يعد قطع الذهب دون أن يهتم لما حل بالسلعة بعد بيعها ، حينها رأني و أشار إلي بأن أتي إليه ، لقد وصلت من الضعف أن ذلك النداء أسعدني و أنعش الروح بالجسد ، فها أنا الآن ذو قيمة ، تحركت فوراً من إجل أبهاره وقفت أمامه مطأطأ الراس بنتظر ماسيحكم على قدري ، نظر الي بتمعن و أخذ يتفحصني من أجل أن يعلم ماذا أستحق من قرار و أي عمل يلأم تكويني الجسدي .
أطرق ملياً بالتفكير ثم أشار إلي بأن أتبعه ، أخذت أسير خلفه وقد تكابلت التساؤلات حول تلك الخطوات التي ستلقي بي الى مصير مجهول ، أتراه لم يكترث لما في الداخل و يريد أن يتكسب من بيع الاعضاء ، لقد كنا نمضي في نفس الاتجاة الذي أستيق به المسن مع الطبيب ، أيحق لي الرفض ؟ لقد كانت قوانين المدينة صارمة في أمر العصيان ، فالموت لكل عاصي قد كتبت على الجدران للتذكير كل من تسؤل له نفسه أن يفكر بالتمرد ، كان المارة يزدروني بنظراتهم وهناك من يبصق حينما أمر من جانبه ، لم أعلم سبب الكره و تلك النظرات لكن فهمت بأن لايجب علي أن أرفع راسي حينما أسير ولا يجوز أن أنظر اليهم حينما ينظرون الي ، ولم أفعلها بعد ذلك ولم يعد أعلم أذا كانوا يزدروني بأعينهم أو لا ، لقد أوقفت هذا الأمر من جانبي .
لم أعلم أيهم أحق في أن يكون أنسان ، أهم بجبروتهم و قسوتهم و طغيانهم على من هم أقل شأناً ، أما أنا الذي تخلى عن أن يكون أنسان حينما وصل الى أقصى درجات الضعف و الهوان ، فحتى الكلاب حينما تأمر بأمر لا ترغبه تبدأ بالنباح أما أنا فكنت كحمل وديع يسير كيفما يسير الراعي .
في أثناء المسير كنت أجد بعض العمال كانت وجوههم كالورد حينما يذل ، أنهكها التعب و داهمها الاعياء وهم معتكفين بالعمل بينما سوط السيد يمزق كل من يتهاون أو يغشاه الأرهاق .
لاعلم من حزن على الاخر ومن منا اشفق على قدر الاخر حينما وقعت العين بالعين ، فقد حزنت على ماهم به من عذب وبالنسبة لهم أن الشقي الذي ساقه قدره الى مصرعه ، أن الامر سيان فكنا جميعاً غارقين في أعماق الاحزان ، ولايمكن لاحد منا أن يعزي على الاخر على مصابه ، كالوالدين الذين فقدوا أبنهم الوحيد ، سيغرق كلً منهم في دوامة من الحزن عاجز عن انتشال الاخر .
لشد ما أدهشني حينما كنا نسير بجوار أحد التماثيل التي نحتت لرجل ممشوق القامة يرتدي رداى الجنود ممسكاً سلاحة بكل شموخ وقد غطت القبعة عينيه ، وقد نحت أسفل قدميه أوناس يصرخون و يستنجدون وقد بدأ لي بأنه رمز لأنتصار أهل المدينة في أحد معاركهم ، وقد بدأ لي أن أهل القرية كانوا يحترمون ذلك التمثال كثير حتى أني أوشكت بأنه إله قد هبط عليهم من السماء و انهمكوا في عبادته و تقديسه ، وعلمت فيما بعد أنه لم يكن مسموح للعمل بالاقتراب منه ومن يعصي الأمر يشنق أمام ذلك التمثال ، لقد حارني كثير أمره ، فقد كنا نعمل كل الاعمال للبشر ومن ثم نمنع من الاقتراب من تمثال لو هويت به بفأس لما أستطاع أن يدافع عن نفسه .
أستمريت بالانقياد خلف الرجل الذي لم التقيه سوى قبل هنيهات وها قد أصبح سيدي ، وساقني الى مبنى كبير قد أختفى في دهاليز المدينة وابتعد عن اضواها و توارى في ظلامها وقد كانت تبدو عليه علامات التصدع والقدم وقد بني من اجل ان يجعل العمال يحصلون به على ساعات قليلة من النوم وان الا يفترشوا ارصفة المدينة ، ثم التفت الي بتعالي و اوبهه وتكلم بلهجة الامر و الناهي . وأشار الى صوب المبنى واخبرني .
- هنا سيكون مسكنك و مطعمك و مرقدك فلا ماؤى لك سواه في أوقات الراحة والتي ستكون في أوقات الليل حيث يحظر أن يعمل اللصوص و الملاعين امثالكم في تلك الاوقات و أبحث عن كبير العمال هنا و سيخبرك بما يتوجب عليك فعله .
أجبته بالطاعه و قد خفضت من راسي حينما اخبرتها بأنني سأكون كما يرغب وأنصرف وأدار ظهره وأكمل المسير حتى ولج الى أحد الحانات وقد حل الليل حينها وقد بدأت أفواج من العمال تتزاحم للدخول إلى ذلك المبنى المهترئ ، وقد وجدني بعضهم مذهولاً مما أرى أحملق بتمعن فأخذوا ينادوني بأن يجب علي أن أدخل فبعد دقائق سيتم حظر التجوال للعمل وسيلطق النار على كل عامل يكون بالخارج و ارداه قتيلاً .
أتبعت تلك النصيحة و دخلت بخطى متسارعة أردت أن أسبق الرصاصة فمن هم في مثل حالتي دائماً يكونوا فريسة سهلة للصيد فكلما كنت ضعيف أحب الصيادون أفتراسك فذلك يمنحهم شعور القوة حينما يبطشون بالضعف ، وذلك القاسم المشترك بين الإنسان و الحيوان فتجد السبع يختار الحمل الوديع من بين افراد القطيع .
لم يكن هناك قفل لبابه فمعساه يسرق من هنا ؟ لايوجد سوى معاناة و احلام البسطاء والكثير من الأمنيات والتي لا تتحقق ولا تباع و تشترى .
كان المكان مكتض بالعمال وقد أنزوا كلً منهم في مكان ، علامات الشقاء و الكفاح ظاهره على محياهم قبل ان تنطق بذلك شفائههم ، رحب الجميع وأخفوا تلك الاحزان واظهروا سعادتهم بستقبالي بينهم .
القليل من كلمات الترحيب والكثير من التشجيع وكأنهم يعلمون مايحتاجه القادمين الى هنا ، دارت بيننا الاحاديث وكلً منهم يحاول جاهداً ايصال الي فكرة الجحيم بكل ود وبأنك ستنجوا من الهلاك اذا أمتلكت الصبر والعزيمة لمواجهة ظلمهم وطاعتهم في كل مايقولون ، كانت القوة بالنسبة لهم بأن يبقوا صابرين رغم ظلم هولاء الطغاة وتلبية رغباتهم أياً كانت ، لم يكن في أمكانهم قول " لا " بل تشعر بأنها لم يسمعون بها من قبل و أنها كلمة قد أندثرت في لغتهم .
هنا العديد من الرجال و النساء الذين جلبهم شقاء الحياة ، يتشاركون المآسي في مابينهم وكلً منهم يشكوا الى الأخر من قسوة سيده الذي يعمل في خدمته ، القصص متشابهه بالرغم من اختلافها فالظلم و الطغيان كان حاضراً في كل قصة تحكى .
الحال كان اصعب بالنسبة للنساء وكل ماكانت في سناً أصغر أزدادت مصاعبها و شقائها وتم أستغلالها من قبل من تعمل لديهم ، الكثير منهم يفضلن الأنتحار والأخريات يفضلن الطاعة لأن هناك من يعيش على هذا المال من أطفالهن ، لقد كنا مكدسين كنجوم ملئت السماء في ليلة عتماء
لم أستحمل تلك الحكايات و مشاهدة المعاناة و أخترت مكاناً وأفترشت الأرض و هربت كما يهرب المرهقين الى مرقدهم .
الكثير من أصوات الأنين وسط الظللام الذي يخترقه ضياء القمر عبر النوافذ و التي تحركها الرياح فتطرق الافئدة ، كنت أسير و أتعثر بالأجساد المستلقيه و كم كدت أن أفزع حينما وطت قدمي ذيل قطة لتبدأ بالموا بصوتها العالي ويستيقظ معها النائمين وتنهاهل علي الشتائم حتى تحركت مسرعاً أتخبط لا أعي الى أين أذهب المهم أن يعود النائمين الى سباتهم وهذا لم يحدث فقد على صوت بكاء الرضاع و الأطفال ولا أعلم أأنا من أيقظهم أم أن الأفواة الجائعة تجعل الأعين دامعه و الالسن صارخة .
أكملت المسير بحثاً عن مكان أفترشة لأنام فقد بلغ التعب مبلغه ، وكم أخشى أن أراه وأسقط قبل أن أصل أليه
فأذا رجل قد أستلقى و يرمقني بعيناه دون أن يحرك جفنيه ، كان الوحيد الذي شعرت بأنه لم يستيقظ جرى مافعلت مع القطة ، فأرهاق السهر قد أرتسم على محياه .
وقفت أمامه فلم أستطع تجاوز تلك النظرات وقد كانت النافذة مقابلة له و ينعكس ضوء القمر في عينيه ، حتى شعرت بأنه قد يقفز من مكانه ويبدأ بالتعلق بي و خنقي حتى الموت .
وكان أكثر ما أثارني حوله هو أن البرد يعصف بالمكان ولم يكن هناك مايغطي به جسده النحيل وكم كان الأمر غريباً أذ لم يظهر على جسده تلك الرجفة التي يصب بها من يشعر بالبرد .
رفع يده ببطئ شديد حتى تشعر بأن الوقت لن يمضي ولن تصل اليد الى مبتغاها و أشار ألي بمكان خالي بجانبه ، لقد كنت مُرتاباً حول أستلقائي بجانبه ، لكن ليس في كل مرة تمنحك الحياة حرية الأختيار.
لقد فعل ذلك ولم يكن يبتسم حتى بتلك الابتسامات التي لا يتوقف الناس عن منحها للعابرين تعبرياً لهم بالود و طمانتهم بالسلام ، لقد كان الأمر أشبه بضابط يلقي أمره على جنوده ولم أكن أنا الجندي بل كنت أسيراً لدى ذلك الجندي اما الضباط بالنسبة له فهذا الامر الذي لم أكن أعلمه .
وضعت ماحمله وأخرجت ما أفترشه و ما أغطي به جسد أهلكه التعب ولا يقوى على تحمل البرد و الذي يشتد كل ما أزداد الليل بظلمته .
وما أن أستلقيت وضمت الأرض جسدي وتساوى الجسد كصنم أسقطه الكافرين به ، حتى شعرت بأن الرجل الذي بجانبي قد أدار رأسه نحوي ببطئ و أصبح ينظر ألي ، لكن هذه المرة لم تكن نظراته كتلك الأولى .
لقد كانت عيناه تلمعان كاللؤلو وتنسكب منها الدموع وهو ينظر ألي دون أن ينبس بكلمة ، لقد كان نحيباً صامتاً ، ولقد تحولت تلك الريبة التي شعرت بها حينما ألتقت أعيننا الى شفقة .
لقد كان البكاء ينم عن كلمات أرادت أن تخرج من فمه ولسانه وحينما عجزت وتلعثمت عن ذلك تحولت الى دموع ، لكنها أستطاعت أيصال ألمه و معاناته ، تحركت نحوه و أمسكت برأسه و انا أتمتم .
- ماذا أصابك يا أخي بالشقاء ؟ ولما هذه الدموع !
وحينما شعرت ببرودة جسده والذي كان كجسداً أنفصل عن قطعة من الجليد ، أدركت حينها بأنه مُقعد وعاجز عن تحريك جسده الإ بمعاناة كمن يجر خلفه صخره .
أخذت غطأة والذين كانت قد أبعدته الرياح الباردة التي عصفت بالمكان حتى بأن لي ممزقاً ولايمكنه أن يمنحه الدف ، فما كان مني الإ أن أقترب منه ومنحته نصف غطائي وأقتربت منه حتى كادت أجسادنا أن تلتصق ولا تنفك .
فكم خشيت بأن يغلبه البرد و النعاس و لا يفق بعد ذلك ، فجسده النحيل سيتغلب عليه البرد و تقتلع روحه الرياح كما تقتلع الاوراق من أغصانها .
لم تتوقف دموعه عن الأنهمار ، حاولت تهدائته مردداً .
- هون عليك يا أخي ، فحتى مرضك في عالم الفقر ليس بالأمر الذي يستحق البكاء ، فأجسادنا ماهي الإ أعضاء يستهلكها الأغنياء لخدمتهم وما أن نكبر وتصبح عاجزه حتى يتم الاستغناء عنا ، فندوك بأن أجسادنا لم تكن ملكاً لنا طوال حياتنا .
وأخذت بيدي أمسح تلك الدموع التي على وجنتيه ، وكم كنت أحمقاً حينما حاولت أن أبدل الحزن الى فرح و الدموع الى أبتسامة ثغر حينما همست له .
- كن قوياً وسعيداً لأجل عائلتك ومن يحبك فبطبع كلً منا هناك من يهتم لأمره .
فما كان منه الإ أن صرخ بكل أسى و حزن و خرجت مع تلك الصرخة كل تلك الكلمات التي أراد المسكين حبسها في زنزانة قلبه ، لقد كانت تلك الصرخة كمن وضع سكيناً على صدري وأخترقه وأصبح يهوي بها نزولاً ويفصل جسدي الى نصفين .
أخذت أحتضنه فقد أزدادت دموعه وأستيقظ الناس على صوت نحيبه وما أن شاهدوه حتى عادوا الى سباتهم ويبدو بأنهم قد أعتادوا على بكاء هذا البائس المسكين .
وما أن أدركه التعب وشعر بالدف حرك رأسه المثقل بعناء ليضعه ويستند به على صدري ، كم كان المسكين شقياً و بائساً وكل ماكان يحتاجه ليفعل أكثر شيء سهولة للأنسان هو الهرب من واقعه الى سباته ، و أن يجد من يشفق عليه ويحتضنه ويردد الأكاذيب بأن الحياة بها مايستحق أن تخوضها لأجله .
أغمض عينيه التي كادت أن تجف منها الدموع ، وحرصت على تغطيته حتى لا يتسلل أليه البرد و ألقاني التعب كجثة هامدة بجانبه .
داهمتني الكوابيس بأنه سينهض ويجلس على صدري ويخنقني بيديه وينتزع قلبي من صدري بيديه العاريتين وهو يسخر من حماقة أدراكي وثقتي التي منحتها لغريب كل الذي دار بيننا نظرات بين الريبة و الشفقة .
فزعت ونهضت فأذا به لازال على حاله و رأسه لم يتزحزح عن صدري ، وقد كانت عيناه مغدقة بالدموع أنه غارق في أحلامه التي لا تقل بؤساً عن واقعه ، شعرت بالخجل لذلك الحلم والفزع الذي أصابني حتى أنني كدت أن أحتضنه و أصرخ به برجاء أن يصفح عني قلة وعيي و أدراكي وقسوة قلبي .
كنت مصاب بالفزع من كل حركة في السكون ، وكلما سعل أحد النائمين حجب النوم عن جفوني لمزيد من الوقت ، كان الظلام دأمس في أغلب أرجاء المكان وعندما يضعف البصر يقوى السمع و تتضاعف الأصوات ، كانت أصوات صرخات الرضع في بادئ الأمر تقلق مضجعي لكنها قد هبت نسمة من أمل حينما أدركت بأن حتى فوق المقبر ينبت الزهر ، لكن تلك النسمة استحالت الى نفحة من نار بعد أن علمت أنهم بلا أباء ، لقد خرجوا هنا في هذا الوحل من أجل المتعة ثم قذف بهم بعيد ، دائماً هناك من هو أسوء منك حظاً و قدراً ، لقد أستيقنت الأن بأن كل الحكايات التي نسجت عن أهوال المدينة لم تكن تحمل المبالغة في أي جانب ، بل أنهم لم يفلحوا في وصف الجحيم ها هنا ، لماذا لم تتلى قصة أن هناك من ولد من أجل متعة ؟ أليس هذا أكثر وصف للجحيم ؟
أن تولد لأن شخصاً ما لم يكن يعنى في أي موضوع يسكب ماء على أي ورده أظناها الجفاف و ستمنو بالرغم من الماء كان ملطخاً بالرجس ، وجدتني أقضي الليل بطوله أفكر بتلك اللحظة من المتعة التي ستجعل أنسان يتكبد الألم منذ ميلاده حتى وفاته ، حاولت أخراج الأمر من تفكيري بالتفكير في من يكون كبير العبيد كما قد أطلقوا علينا هنا ، وما الذي سيراه مناسب لشاب في مقتبل العمر ، أني أظن بأنهم لا يرغبون فيما داخل جسدي فالخارج ليس معطوب بعد .
لقد كان هناك وقت للتفكير في كل شيء ، لكن هناك أفكار عاهدت نفسي على طردها من ذهني ، فلما أكن أرغب بأن يهزني الشوق مع عذابات الذكريات ، حاولت أن لا أستذكرهم الى في أوقات سعادتي ، لكنهم كانوا يأبون ذلك فتظهر و الدتي بجانب من أنا هنا لأجلها ، لقد كان اياديهم تلوح الي و السنتهم تناديني بالعودة و دموعهم تذرف دموع الشوق ، فما أكاد أخطو اليهم حتى يظهر والدي بيننا كالدرع الحصين فأعود بخطوتي و لم يعد لهم أثر ، لقد كان ظهور والدي في تلك الخيالات أمر يبعث النفس على الحزن لكنه الوحيد الذي كان يصبرني ولا يجعلني أتوق للعودة و الاستسلام لضعف مشاعري .
كان الليل الطويل قد بدأ ينجلي فأصوات العصافير قد بدأت بالتغريد و كانها تعزي العمال لما لقيهم من تعب و نصب ، صوت التغريد الشجي كان الصوت الذي معه يعلم العمال بأن أمر حظر التجول قد أنتهى وأن وقت العمل قد حان و أن البنادق لن تصيبهم بالرصاص المنهمر و بأن دمائهم قد بأتت محفوظه .
لقد بدأت الحياة تدب في الثكنة الفسيحة وبدأت وقع الخطى تسمع ،
وأصبحت غشية النوم تنفك عن الأجفان ، والأجساد تتحرك بمل أرادتها ، أستيقظ الجميع في آن واحد واحد ذلك الأمر جلبه ، الخطى تقرع الأرض المتصلبة و الأطفال أعتلى نحيب بكائهم بينما الشيوخ أخذوا ينطرون ذات اليمين وذات الشمال محاولين أن تبدأ ذاكرتهم بتذكيرهم بما يتواجب عليهم فعله .
كان النساء في الثكنة بأعمال مختلفة فهناك المومسات في حنات البغاء وهناك من يتسكعن في الطرقات وتقبض ثمن ماتجود به يد ما يبتغيها ولا يوجد مايجبره على ذلك وقد حدث كثيراً أنها بعد أن تنتهي النشوة تكون مكافأته سيل من الشتائم و اللعنات وقد يصل الأمر إلى أن تتلقى اللكمات حيث جسدها العاري من كل شيء ، وهناك من تعمل في الخدمة في المنازل ويتم أستغلالها من أصحاب الدار ، لقد كانوا عنصر التسلية لكل أطياف الشعب هنا ، فمن منا يجرؤ على قول لا لمن يمتلك مطعمه و مشربه ؟ أن الحرية في قول تلك الكلمة الصغيرة لا يتحقق إلا أذا حقق الأنسان الأستقلال المادي ، فالملك يقول لا في وجوه ملايين الوجوه دونما أن يعبئ في رأيهم فهم ملزمون بطاعته .
كلمات الخنوع و الخضوع نحفظها عن ظهر غيب وكأننا قد ألتهمناها في طفولتنا مع فتات الخبز و حليب الامهات ، وكلما قل قدرك تجد أنك مخزونك من تلك الكلمات يرتفع حتى تصل الى قمة الأنحطاط فتمحى الكلمات وتحل محلها أيماءات الراس و الصمت و الرضا المطلق .
باب الثكنة يقذف بالجميع الى الجحيم فهم يتدافعون الى حتفهم ، الامهات يودعون ابناء لا أباء لهم ، بل ربما نصف رجال المدينة تشاركوا في أنجابه ، أطعامه لحين العودة في المساء ، لا يهم البكاء و الصراخ المهم أن لا تموت ، تلك النظرات الاخيرة لكل من تودع رضيعها ، قل العدد و بقيت أنا و أنين الذين اعجزهم المرض و بكاء الرضع ، أزحت رأس الغريب عن صدري فأذا به مستيقظ ولم يشاء أحد منا أن يحدث الاخر ، بالرغم من أني كم محملاً بالاسئلة ، فمن يكون كبير العبيد هنا ؟ أتراه معنا أم معهم ؟ في صفنا ام في صفهم ؟
تسللت خيوط الشمس في شروقها من بين الغيوم الى نافذة الثكنة ،
نهضت أجول بحثاً عنه بين القلة المتبقية ، فأذا بي أجد رجل في حوالي الستين من عمره وقد شاب شعره و وهن عظمه ، قد جلس القرفصاء ولا يشيح بصره عنما هو أمامه من الرضع ، أتراه يرئف لحالهم و أنهم قادمون فيما رحلته شارفت على النهاية .
أتجهت إليه ملقياً التحية وجلست أمامه و أخبرته بأمري البائع و بحثي عن كبير العمال هنا ، حينها قاطعني .
- كبير العبيد .. لا داعي لأن نغير أسماء الاشياء يا أبني أذا كانت ستصل للمعنى الدقيق ، وهنا الكل يجد له عملاً ، لا تغرنك الكثره فنحن قلة ، كثر في الارقام فحسب أما في التأثير فنحن لا شيء يعد او يحصى ، نحن بلا رأي او قرار ، سرب نمل يسير في نفس طريق الفيلة فتدوسه دونما أن تشعر به أو أستغاثته ، وأن حدثونا فهم من أجل أن يستعملوننا لطاعتهم ، كمقابض الأبواب يصافحها الناس ليستعملوها لا لشيء اخر .
لقد كان رجلاً متزاً و أنك لتدرك حينما تراه أنه كان فيما مضى رجل ذو شأن وعلمت فيما بعد أنه كان أحد الجنود في الجيش الذي أوكلت له مهمة حماية المدينة أما القرى فلم يكن هناك من يسرق الخراب و الدمار .
سألته عنما ينبغي علي فعله ، فما كأن منه إلا ان أطرق يتمعن في النظر إلى جسدي و مقدرته ، فالمتعبون يؤكل لهم العمل في الأعمال اليدوية و تنظيف الطرقات ، وكلما أزدادت قوتك أشتد عملك ، أشار إلي بأتباع مجموعة من الرجال وأن أعمل كما يعملون ، أتبعت الرجال وقد سرهم وجودي معهم فهذا يعني بأن هناك من سيساعدهم في العمل المضني ، أكمل المسير في الطرقات التي أمتلى الناس بها ، لقد كان ذلك أهدى مما حدث بالأمس لحظة وصولي ، الان لم يكن أحد يهتم لوجودنا وكنا نمر كالظل فنسلك الطرق الذي يكون أخف أزدحماً ، فمن يعلم قد توقع أحدهم أثناء سيرك و قد يتم سجنك و تعذيبك لأمراً بأمكانك اجتنابه .
وصلنا الى حديقة الحيوان ولم تكن قد فتحت أبوابها بعد للزوار ، وأخذت افعل كم يفعل الرفاق بأطعام الحيوانات و تنظيف الارصفة ، وقد كان الرفاق يستعجلون في أنهاء الأمر وظننت بأن ذلك أمر قد فرض عليهم ، وعندما أستعلمت عن سبب ذلك أخبروني أن قبل سنوات كان مجموعة من العمال منكبين في عملهم وفتحت الأبواب للزور قبل يفرغوا من العمل ، وكان مصير أحدهم بأن القاء به مجموعة من الفتيان المتمردين في حجر السباع التي لم ترفض جسده واخذت تنهش لحمه حتى فارق الحياة وهو يستنجد بالحاضرين الذين لم يحركوا ساكناً ، ولم يتم محاكمتهم وقد خرجوا منها وقد وجهت اصابع الاتهام إلى العمال بسبب وجودهم في اوقات لا ينبغي ان يتواجدوا بها ، وان الفتيان كانوا في حالة من الثمالة ، لذى عليك بعدم البقاء في الأماكن التي تثير في نفوسهم شهوة السلطة وقمع الضعف ، أهرب دونما أن يلحظوك ، وانك ستسمع الكثير من هذه القصص في كل مرة نذهب العمل في مكان ما ، فأسعى أن تسمع و تحذر قبل أن تكون قصة يخشى من مصيرها الجميع .
لقد عملنا بجد و جهد طوال النهار ، كنت متكيف على العمل ولم أواجه المشاق ، لكنك تصارع الخوف في كل عمل تقوم به ، فقد تثير الغبار على أحدهم ويصفعك و يلكمك وعليك ترديد الاعتذار دونما مقاومة حتى يفرغ جل غضبه ، تعرفت على الرفاق وقد بدأت وجوههم الشاحبة و المخيفة للناظرين تلم بداخلها عن حب وقد كانوا كالأطفال الذين أجبروا أن يتصرفوا كالكبار مخفين مابدخلهم ، لكنك تدرك حينما تعمل معهم و تعاشرهم أن قلوبهم رقراقه ، كنا على قدر كبير من التوافق ولم نعرف للأختلاف درب ، لقد كان في أعمار متفاوته أجتمعنا من قرى مختلفة بظروف مماثلة ، فالفقير في الغرب هو الفقير في الشرق وكلً منا كان مرآة للأخر ، كنا نعلم الاشياء نفسها و نجهل الأشياء ذاتها ، حتى أنهم شعروا بالخيانة حينما علموا عن أيجادتي للحساب وخط الحرف و قراءة الكلمة و أن هناك بلدان ليلها يستمر لأشهر ، وما أن أستحالت تلك الخيانة الى شعور بالاعتزاز ، وأخذوا يهمسون بصوت خفيض بعد أن تاكدوا أن لا أحد بالجوار بأنك رمزنا واللعنة على هولاء الذين المتشدقين الذين لا يمكننا أن نتعلم ، وكم نرنوا أن نحملك على الأكتاف ونسير بك بالطرقات و نجعلك تصعقهم بأنك تقرأ و تكتب وتعلم بأمر تلك البلدان ، لقد صبحت بين هنيهات من اللحظات الى رمز يتسلحون به ، لقد شعرت بأني المنقذ لفكرة أستقرت في أذهانهم بأنهم أجساد خلقت لتستهلك في العمل ، كالثور في حرث الحقل .
وقد كانت أسئلتهم طفولية ومن قد كان من الجيد أنها كانت كذلك فجميعها قد سبق وأن سألتها إلى من علمتني الحب قبل العلم ، كنت أجيب كما كانت تجيب أن أتوقف لثواني معدودات ثم أطلق سيل من الكلمات التي تجيب على كل سؤال ، ولقد أحببت ذلك لأنه ذكرني في أول لقاءاتنا .
عدنا إلى الثكنة مع أقتراب حلول المساء كحال الجميع ، وقد جلس الرفاق حول كبير العمال وقد أتضح لي أن الجميع هنا يعتبره بمثابة الأب للمستضعفين بالرغم أنه لا يملك حول ولا قوة ، وقد كانت تعهد إليه الاموال من البائع ويقوم بتوزيعها بيننا بالتساوي ، أخبروه بأمري و ما أحوزه من علم وقد سره ذلك فهو لم يعد قادر على الكتابة و الحساب كما كان في مامضى و أخبرني بأنني سوف أكون ملازماً له أن أحتاج مني ذلك .
عدت حينها الى مرقدي فوجدت رفيقي بالأمس على حاله وبنفس ضعفه وقد وزع الطعام في الثكنة فقد كان هناك من هم مسؤولين بتزويد العمال بالطعام العائدين من أعمالهم ، وقد حملت له كما حملت لي ، أبتسم حينما أبصر أني لم أنساه وقد بدأ عليه الخجل .
لم يكن قادر على تناوله دونما مساعدة فأخذت أساعده حتى فرغنا من تناول الطعام وقد بدأ لي في حالة رثة فما كان مني الإ أن حملته الى أماكن الأغتسال و أنهمكت في تنظيفه و تجفيفه و عادته الى مرقدنا وحينما أستلقيت الى مضجعي حتى سمعته يشكرني .
ولم أعلم حينها أهو التعب الذي جعلني أسمع تلك الكلمة أم حقاً أنه قالها و أنهمكت في نوم جراء ما لحقني من تعب ، وفي النوم كان هناك لعمل أخر هو كوابيسي و احلامي ، فهيا تقف على عتبة راسي طوال النهار وفي الليل تدخل بلا أستئذان ، كنت حريص على أن أصنع في ذاكرتي جرافة تحصد تلك الأفكار و الأحلام حتى الكوابيس السامة ، لقد كنت أحصد بستان ذاكرتي و خيالي حتى يستحيل الى صحراء جرداء حينما أستيقظ ، لكن فعلت ذلك مراراً و تكراراً فأدركت أن بذور ذلك البستان لا يمكن أقتلاعها وعلي أن أتعايش مع فكرة وجودها وأن لأ تؤثر علي زيارتها .
لقد أفزع النائمين في الثكنة صوت بكاء و نحيب ، أشعلت الشموع فأذا هن الفتيات بأجساد عارية عن ما يسترها وقد بدأت سمات التعذيب الوحشي على أجسادهن ، لقد كان من بالغ الصعوبة أن أتعرف عليهم ، لقد كانوا أموات لكنهم لازالوا على قيد الحياه ، أنكمش جلدي و انقبض قلبي و كاد أن يتوقف ، نهضنا و غطينا أجسادهن من ما كنا نتلحفه اتقاء البرد ، في ركن الثكنة جلسوا يكملون النحيب ببكاء متحشرج ، لم يكن أحد قادار على موأساتهم ، وأن في أقسى الألم يمر به الأنسان لا يحتاج من يواسيه فكل مايحتاجه حينها هو أن يكون وحيد مع حزنه أن يبكي حتى تجف عينيه و يحتضنه النوم برحمته ، أطفاءت الشموع فقد لم يحب أحدنا أن يشاهد انكسار الآخر ، أذكر وجوه الحاضرين المرهقه قد اغرورقت بالدموع على أن كل مابوسعنا فعله هو أن نغطي أجسادهن العارية التي كادت الجروح و الدماء أن تغطيها ، لم أيستطع أحد منا أن يعود إلى النوم بالرغم أن الحدث قد يتكرر في كل مرة ترسل الى هنا فتيات ، فما أن يفرغوا منهم حتى يقذف بهم الى الثكنة و بنتظار قادمين جدد ، في الصباح لم نتحدث عن الأمر وكأن شيئاً لم يكن ، فما عسانى أن نقول ؟ حتى اللعنات و الشتائم لم تكن ستهد ما أصاب قلوبنا ، لذا كان من غير اللائق أن يتحدث أحدنا بما جرى من أمر ، هكذا أعتدنا أن نصمت حتى عن المقاومة في أبدا الآراء حول مايحدث لنا ، كان الصمت ينجينا ، فالمقاومة ستقتلنا ، وقد ينزلق أحدنا و يشتم و يلعن بصوت خفيض لكننا كنا ندعي بأننا لم نسمعه ، كنا نجيد أتقان دور الضعفاء على أكمل مما ينبغي .
ازداد حال تلك الفتيات قسوة لا يطاق معها الصمت ، فقد كان السكارى من فتيان المدينة يدخلون الى الثكنة بأضواء مصابيحهم يصرخون فنستيظ من مهاجعنا ، ويلتقطون من بيننا كل فتاة في طريقهم ويذهبون بها إلى الخارج ، كان الفتيات يعودون بعدها في حالة يرثى لها حتى أن أكثرهن قوة هي من تستطيع أن تصل إلى باب الثكنة و تخبرنا بأماكن الاخريات ، لم يكن مسموحاً لنا بالمغادرة في ساعات الليل ، الفتيان نفسهم سيكون لهم الحق في قتلك أن حاولت المساعدة ، ومع ساعات الفجر الاولى ننطلق الى اعادتهن الى الثكنة و الاعتناء بالجانب الصحي أما النفسي فقد مات في دواخلنا جميعاً ، لم يكن هناك من خلاص ليمضي يومنا بدون أن تكون هناك أخبار تعكر صفو الثكنة .
كان كبير العمال حريصاً على أن يحيي تلك الأنفس عبر الخطب التي يلقيها عن الصبر و أننا لن نعيش العمر بطوله ونحن على هذا الحال ، لقد كان رجلاً صادقاً طوال الوقت إلا حينما ينهض و يخطب بتلك الخطب ، لم يكن أحد منا يصدق حديثه البهيج حتى المغفلين منا ، كنا نعلم بأن الأمر سيستمر كأستمرار الليل والنهار ، أنه أمر أزلي ولن ينتهي حتى بموتنا جميعاً ، ستحمل الحافلة عدداً لا يستهان به و تقتادهم إلى حتفهم ، أنها غريزة الأفتراس وهيا غريزة لن تنضب ، فمتى عاف السبع العجل ؟
كنا نسعى أن نتحد و نكون أكثر صلابة و أن لا يتخللنا الضغف ، وقد حدث ذلك متأخراً بعد أن أنتحرت أحد اولئك الفتيات التي كنا على نفس الحافلة ، كنت لازال أذكر كيف كانت تودع عائلتها و أنها سوف تتزوج بأجمل و أنبل شباب المدينة و سوف تسعى بأقناعه بأن عائلتها لأبد أن تعيش معهم في القصر ، لقد رأيتها وهيا تتدلى بذلك الوشاح الاحمر الذي كان هدية من والدتها للتقي به عن المطر وكانت تحاول أن تبقيه حول عنق والدتها مرددها بأن هناك ستكون لي مظلة ، لقد شنقت نفسها بصلتها الوحيدة بالعالم ، لقد كانت عارية تماماً من كل شيء حتى الخطيئة ، اذكر أني لم أتمالك نفسي حينها وبكيت بشدة ، لقد شعرت بأننا لم نستطع أنقاذها ، لقد رحلت بعد أن أستمتع بجسدها الطاهر كل من وقعت عيناه على جسدها ، لقد جردوها من كل شيء .. الملابس الاحلام الامنيات العائلة .
لقد بكيت لأجلها و لأجلي ولأجل الجميع هنا ، كانت دموعي لا تجف و أفشل في كبحها ، حاولت أن أشد من رباطة جأشي لكني كنت أضعف حتى من أن أحاول ، وما كان سبب لأعزي نفسي به سوى أن أفكر بأنها أتخذت القرار الصحيح ، فهذا السبيل الوحيد لأنقاذها من براثينهم ، حتى أنني شعرت بأن الاخريات كنا يبكين على حالهن أكثر من فقدانها ، فقد كانت في نظرهم هي الناجية التي أستطاعت أجتياز الجحيم بمل أرادتها ولم تقذف الى هناك بغير طوعها .
أخذنا في مراسم الدفن بعد أن لفت في لحاف وخرجنا فجراً مع نهاية حظر التجوال الى خارج الثكنة وقد كانت مقابر العمال لا تبعد سوى القليل من السير ، أرض ترابية مسوره من كل أتجاه ، ممتلئة بشواهد القبور و في كل شاهد كان هنا أكثر من ميت ولم يعد أحد يخط الاسماء على الشواهد بعد أن كثر الراحلين ، تمت مراسم الدفن واخذ كلً منا يعزي الاخر فيما فقد ، كنا كالاخوة مختلفين في كل شيء الا في قدرنا و ما نكابده من شقاء ، أن الناس يميلون لأن يصبحوا متقاربين كلما أصبحت مصائرهم متشابهه في القسوة ، أما لحظات السعادة فلا يهم من يشاركك أياها ، بعد ذلك تفرقنا وذهب كلً منا الى العمل الذي يتوجب عليه القيام به ، لم يكن هناك وقت لمشاعرنا او اعذار لنتغيب عن أعمالنا ، أو حتى قانون نشكي إليه ظلمنا .. كنا كخراف في زريبة الراعي يختار من يشاء منها للذبح و يلهو بها أبنائه و تجز زوجته منها ما تشاء من الصوف ، فمن سيدافع عن تلك الخراف عندائذاً ؟ لأحد لأن الراعي يظن بأنه بحمايته لها من الذئب و الضواري فمن حقه أن يفعل بها ما يشاء ، لقد كانوا ينظرون لنا بنظرة المنقذين من الفقر و الجوع ، وهذه ضريبة لأبد من دفعها ، المال مقابل كل شيء طاعتكم ، خدمتكم ، كرامتكم ، اجسادكم ، بل حتى أرواحكم .. لم يكن هناك شيء لم يستبدلوا المال به .
بعد مرور أول أسبوع تسلم مدير العمال مبلغاً ضخم من المال لقد أثار في الأنفس بعض الفرح لأن ليس من المؤاكد دائماً بأن سيتم منحنا المال و أظن ذلك بسبب وفاة الفتاة فقد حاولوا أن ينسونا ماحدث ، وقد كان هناك عرف متبع وهو في حالة وفاة احدنا فأن من الأدب و المروءة لدى الآخرين أن يقتطعوا من حصتهم من أموال و يتم أرسالها الى عائلة الفقيد وتكون لهم كالبسم الذي يخفف من وطأة الخبر .
وبالفعل هذا ماحدث وراح كل منا يقتطع من ماله دونما بخلاً ، حتى جمع مبلغ لا يستهان به ووضع في صرة من القماش ومعه رسالة تحمل خبر الوفاة ، وقد كان كبير العمال حريصاً على أن لا يكتب أسباب الوفاة الحقيقية حتى لا يزيد على الحزن كدر ، وقد كتب حينهاأن الوفاة بسبب حماء اصابتها بعد تغير المناخ بين القرية و المدينة وقد تم محاولة أنعاشها من قبل الأطباء لكنها توفيت وهي تردد بكلمات الشوق لكم .
لا شك أن الأم المكلمومة في هذا الجلل و النباء الحزين ستظن بأن الوشاح الاحمر لم يكن كافياً وهيا لا تعلم بأنه منحتها سبيل خلاصها من هذا الجحيم .
كانت معلومات كلً منا قد سجلت في دفتر لدى كبير العمال تحسباً لوقوع مكروة لاياً منا ، جمع الكل ماله و جاء من سيكون موكلاً بأرسال الاموال أنه سائق الحافلة الذي كنت أحقد عليه اكثر من غيره ، ربما لأنه الوحيد الذي لا أعجز عن صفعه متى ما أردت ولن اعاقب جرى هذا الفعل ، لقد أخبرني الرفاق بأن أذا أردت أن تتأكد من وصول اموالك و رسائلك مع هذا اللص الحقير عليك بأن ترشيه بمبلغ لا يجعله يطمع في فتح صرتك ، جمعت المال وبدأت في توزيعه على ثلاث صرر من القماش ، الاولى كانت لعائلتي وقد وضعت معها رسالة تفيض من الشوق لهم ، وكم أفتقد أرغفت الخبز من التنور و شاي الصباح معك تحت أشعة الشمس المتسربة من بين الغيوم يا أمي ، وأن تحدثيني عنما تكنيه من أحلم لم تصبو أن تتحقق في حياتك و أردتي بأن أحققها عنك ، أشعر بأني قد خذلتك ، بأني الإبن الذي سيفتخر بأمه طوال العمر وهو أنجازه الوحيد ، العالم هنا مخيف يا أمي ، أنه مخيف أكثر من أكون انا وابي لوحدنا في نفس المكان ، أشعر بالعجز عن القتال به وكل ما أفعله هو أن أنهك وقتي بالعمل و الأمر لا يفلح دائماً فنفسي قد أمتلأت بالسم الذي أظن به سيقتلني قبل أن أعود لكم .. أبلغي سلامي لأبي و أخبريه بأني على العهد و أحبه كما كنت وسأبقى دائماً .
كانت رسالة ممتلئة بالحنين حتى شعرت بأني حينما أكتبها بأن يدي قد تقلصت و أصبحت يد طفل لم يتجاوز العاشرة من عمره ، تبللت بالدموع جففتها و أحكمت عليها الصرة ، اما الصرة الثانية فقد كانت من اجل رشوة السائق وكم وددت لو وضعت بها السم ، لكنه سيهلك ويأتي لص أخر في محله و لن يتغير في الأمر من شيء ، وفي الصرة الثالثة كم وددت لو أضع بها الورد و العنبر ، أحترت فيما أكتبه حينها حتى أني كدت أضيع فرصة إرسالها فالسائق دائماً يكون متعجلاً حينما يتعلق الامر بيني و بينها ، أستطعت أن أخط و اكتب دونما تفكير أهواء عاشقاً حزين .
كنت قبلك عدم ، تمثال بلا روح ، شجر بلا ورق ، تاريخ قد أندثر ، و بركان قد أنفجر ، وسمائاً بلا قمر ، والقلم بلا حبر ، كان قدومك كالغيمه التي أسقت جفاف صحرائي فغدت ربيعاً من زهر ، أريدكِ فلا تغيبي فالورد يذبل أن غاب الساقي .. أبقي فأني أخشى أن أذبل في أعماق أحزاني ، كيف لي أن التقطك ؟ أن أحتفظ بك ؟ أن أظل بجانبك ؟ أن أنسى التاريخ و الأيام ولا أفكر بسواكِ .. أن أعتزل ألجميع لكي أعيش كعابداً في جنتك ، جسدي منهك أصابة الأعياء لم أعد الملك الذي يأمر و ينهى ، لقد تغلبت علي الحياة منذ أن رحلتي ، لقد تكالب علي الاعداء و تكبدت العناء و زاد الشقاء .. جسدي و نفسي ليسوا تحت طاعة أمري لقد اعلنا التمرد .. الأحلام اختلفت فأصبحت كوابيس تخنق انفاسي ، استيقظ اشتم النوم الذي انجبها ، أشعر أني تجرعت السم و أن الثعابين قد تمكنت أخيراً من احاطت عنقي ، أني اختنق كالغريق الذي يرى سطوع الشمس في أعماق أحزانه فلا يستطيع الصراخ ولا الوصول ،أتراك تعلمين بعذابي؟
حينما عرفتك كنتِ صغيرة و ديعة كورده لم تتفتح ازهارها ، أردت أن أدنو منك و أصبحت قريباً لكِ .. أن أشاغبك كما يشاغب الاباء أبنائهم .. أن أراك تنضجين تكبرين و تحلمين .. أن أرى كيف تستحيل البذرة الى ورده تخطف الأفئدة و الابصار ، لقد أقتربت منك حتى هويت الى حيث إلا عودة .. افتقد تلك الليالي .. فعودي فأني راحل الى حيث حتفي ان لم تكوني في حياتي .
يا ملاكي .. الغائب أتراك تعلمين بأني تلقيت السهام جميعاً في صدري ؟
يا ملاكي .. أتعلمين بأني لم أعد ارى سوى العتمة تحيط بي من كل جانب ؟
اتراه القبر الذي سأمكث به ما تبقى من عمري ؟ اههً لو انكِ تعلمين ؟
يا ملاكي .. أني ظمآن فاسقيني ، يا ملاكي .. أني مكلوماً فأشفيني
يا ملاكي .. أني أفتقدك فأجديني ، يا ملاكي .. أني أحتضر فأحييني
يا ملاكي .. أتراه حل يوم هلاكي!