"الاقتباس الحادي عشر"

29 0 0
                                    

لا أعلم كيف ينبغي أن تبدأ رسائل كهذه، ولست بصدد إضاعة المزيد من الوقت في انتقاء عبارة افتتاحية أنيقة تليق برسالة إليك، أعلم فقط أنني أريد أن أكتب وأنعجن في غمرة رسالتي اليك هكذا دون مقدمات. لم نتكلم منذ يومين؟ اسبوع؟ شهر؟ شهرين؟ ثم ندعي أننا أصدقاء؟ نعم نحن أصدقاء، لأن المحادثة التي تأتي بعد يومين لا تختلف شيئاً عن تلك التي تأتي بعد شهرين، نفس البداية، نفس المزاح، نفس الشتائم، نفس عبارات الشوق المدسوسة، ونفس المدة أيضاً، 3 ساعات على الأغلب أليس كذلك؟ 3 ساعات نتجنب فيها الحديث عن أي شيء مفيد، كل ما نقوم به هو الحديث الفارغ المتطاير الذي لا يحمل ذرة معنى أو منطق، تسألني ماذا تشرب؟ أجيبك الساعة الآن العاشرة، أسألك أمك بالشغل؟ تجيبني يلا حصل خير. هكذا تمضي الثلاث ساعات، المهم أننا ننتهي من المكالمة كمن خرج لتوه معافا من عملية استئصال ورم خبيث. أكرهك يا مغفل، أكره معرفتك، وأتمنى لو أنني لم ألتق بك في ذلك المخيم، المشكلة أننا لم نكن وحدنا، كنا أربعين، لكن من بين الأربعين كنت وحدك تجلس قبالتي على الناحية الأخرى في المسجد، وكلما نظرت اليك كنت تبعث لي ابتسامة محتالة، وأردها لك بأخرى متواطئة. كنت تشبه أم تيسير تماماً في ضحكتك، الخالق الناطق، فأم تيسير كانت تخبرني دائماً أنني سأصبح أشياء قد أصبحتها بالفعل، وابتسامتك كانت تخبرني أنك صديق العمر، وقد أصبحتَ بالفعل، صديق العمر بجدارة واستحقاق وحزم وحسم وتفرد. أكرهك، وأتمنى لو أنني لم أعرفك، وإياك أن تعتقد أنني أكتب اليك تحببًا أو وفاءًا أو حنينًا وما إلى ذلك، لا، أنا أكتب إليك لأن لا أحد هنا يشبهك، ورطتني في الغربة يا محتال، ظلمتني وظلمت الناس معي، جعلتني أتقزز من كل الذين ادعوا أنهم أصدقائي في غيابك، واستحلتني منافقًا كلما دعوت أحدًا هنا بصديقي. أكتب إليك لأنني سئمت من الإدعاء بأنني مضيت بدونك. وأقسم أنني لم أكن لأكتب اليك لو أن أحد هنا يشبهك. أتعلم المصيبة؟ المصيبة أن العمر يمضي بنا دون إكتراث، يأكل شبابًا كان من المفترض أن نقضيه معًا، وعندما أعود سنكون قد كبرنا ووقرنا ورزنا، لا تتحامق وتقول أننا لن نعبأ بشيبنا ووقارنا وسنفعل ما كنا نفعله في سنوات طيشنا وجموحنا، وأن العمر لا يهم، المهم هو جمال أرواحنا وكل هذه الترهات الحمقاء التي تخبرني بها دائما، لا تقل لي أننا سنتمكن في أعقاب أعمارنا من ربط ايهاب مرة أخرى على الكرسي وتغطية رأسه بكيس نايلون ثم نبدأ بسلخ جلده بسلك اللاب توب السميك حد أن يبكي كالأطفال، دعك من عباراتك التطبيبية وقناعاتك المتفائلة بأن ثمة دائما متسع من الوقت. اسكت. لقد سرقتنا الحياة، انتهى. لن أرسل هذه الرسالة اليك، فقد حصلتَ مؤخراً على وظيفة وأنت الآن في أول أيامك، ولم تستلم أول رواتبك بعد، أعلم أن رسالة كهذه قد تحبسك في البيت شهرًا بأكمله، كما كنت تفعل كلما داهتمك ذكرى عشناها معاً، يجب أن لا تقرأ لكي تذهب إلى عملك صباحاً، وتبني بيتك وتتزوج.  لقد كبرت ، وأصبحت تعمل، انظر كيف يمضي العمر، أتذكر عندما كنا أطفالًا وسألتني بوجه يغلي: مين أكثر واحد من أصحابك بتحبه؟ ومثلتُ يومها دور الطفل الرزين الدبلوماسي وأجبتك: بحبكم كلكم زي بعض. لا تلمني في غبائك لأن الحقيقية أنني لم يكن لدي صديق سواك، والآن أيضاً، وللأبد.

قصي أنيس.

اقتباسات | .Quotesحيث تعيش القصص. اكتشف الآن