خشبة مسرح

957 95 102
                                    

«المعذرة أيتها السيدة المحترمة فقد ترأت لي من نظراتك نظرات أمي، فما كان مني سوى التحديق طويلًا»

كان السيد صاحب القبعة الصوفية، يلقي كلماته بهدوء كأنه يركع، ليست المرة الأولى التي يوقف فيها سيدة في منتصف الطريق، يحدق بها ويهمس خاشعًا بكلمته المعتادة، كان يرى بشكل أو بآخر نظرات امه التي لم يرها قط في كل سيدة تمر، والأمر مناقضًا تمامًا لجاره الشاحب "نوح صاحب الكلب" الذي كان يتظاهر دائمًا أنه لا يعرف أحدًا.

بعد بنايتين من بناية السيد صاحب القبعة رقم "504"، كانت قدما الفتى اليافع تتحركان بتراقص على إيقاع مبهم الملامح، يخرج بشكل معتاد مع غروب الشمس، تغرب ملامحه بخوف كمن التقط حالة الشمس على وجهه، وتظهر داخل عينيه هالة من الرعب المجهول.
تتحرك قدماه، يرفع رأسه للسماء، فيجد في لونها المتغير عمقًا خالصًا، كان ينظر وينسى ماديات ما حوله، وينتظر أن ينغمس الليل في أرقى لحظاته.
عينا السيدة العجوز في المنزل المقابل تطالع باهتمام، كان شغفًا عظيمًا أن تنظر إليه منذُ انبثق لها في هذا الشارع، تحمل شغفها فتتأمل نظراته، كتفه المنحي للأمام، وجسده الأحدب، تهتز من نظراته، فماذا لو تكلم، هوسها الزائد في اكتشاف الشخصيات، و التأمل فيه يمنحها ما يزيل وحدتها ويؤنس وحشتها.

تساقطت بعض العبرات بصعوبة على وجنتيه، أنزل رأسه وأكمل السير كما المرة الأولى.
الفتى اليافع كان فاقدًا لامه، ولكن لم يكن هذا سبب خوفه، على الأرجع كان ضائعًا، يعبث مع طرقات الشوارع، كان ينظر للظلام والأماكن الضيقة كالملاذ، فكان إذا ظهر شخص مارًا فيها، يخجل وتتشتت حركات جسده، فيذهب ليجد ملاذًا آخر.

خرج من جسد الفتى اليافع في منتصف الشارع جسدًا يشبهه، عينان يحملان الخوف مثله، كتفان منحنيان للأمام ككتفاه، يحدق الجسدان ببعضهما بنفس النظرات، خشع جسد الأول فتناقل الثاني خشوعه، اقترب أحدهما من الآخر، فلا فرق بينهما سوى ابتسامة ظهرت على ثغر واحدٍ منهم،
وقال صاحب الثغر المبتسم بصوت مرتفع يشبه الموسيقى الشاذة:
«كان هناك فتى يافع وحيد، ضائع لا موطن له، لا مكان له، ولا منفى له، أخذ الفتى يتخيل نفسه ثقبًا في الفراغ، ومدينة بها أسوار و شوارعها مغلق ليواري خوفه، لم يكن الفتى اليافع يعرف مما يخاف، كان يُمثل الخوف والعزلة بأرقى صورها»

«أيها الفتى النبيل، هل يمكن لأحدٍ أن يكونَ بهذا الظلام؟، بأن يولدَ ويعيشُ في اللامكان؟»

أجاب الفتى المبتسم، محافظًا على ظهور صف أسنانه الأمامي:
«كان بدون اسم، لا يعرف والديه، مولعًا بالخوف العظيم فما تكاد تنظر له حتى ترى خوفًا غريب الملامح يشبه الحزن في منحنياته، يمشي في الشوارع فيتباهى خوفه وشحوبه المتجسد في إنسانيته، يقف فيُطالِع السماء كأنه لم يراها يومًا، كان ضائعًا فلا تعرف هل تراه أم ترى ضياعه، ويتحرك فلا تعرف هل يتحرك جسده أم تتحرك روحه».

تلاشى الفتى المبتسم، وأخذ اليافع يتأمل كلماته، خرجت تتهيدة متأخرة من جفون صدره، تحمله قدماه ليكمل معزوفته مجهولة النسب.

-------------

«تنبذيني وما فعلتُ لكِ شيئًا،
تخنقني يداك وما انطويت وطأطأت رأسي لسواكِ، تبقى ظلالك شامخة كهذيان التفكير داخل عمق عقولنا، ظالمة هادئة كالاشيء أنتِ.»

خرجت كلماته بشاعرية، فيتمثل جسده بمنحنيات الكلمات، كان من اللائق به أن يخرج في مسرحية، فاعتياده أن يُعبِر عن خوفة بكلمات شاعرية مسموعة لم يكن بالشيء العاقل، وكان يُظهرُه ذلكَ كفتى يافع معتوه.
يعيش في شقة صغيرة المساحة ضيقة الملامح، يعود ذلك لمحتوياتها التي وضِعت ملتصقة بجانب بعضها، والتي برزت كقطعة واحدة.

وقت الغروب يقترب وموعد خروج اليافع قد حان، على جانب البناية وتحديدًا رقم"504"، كان صاحب القبعة الصوفية يحدق بسيدة أخرى ويخشع بكلمته المعتادة، بينما نوح صاحب الكلب يحدق في نقطة فراغ لا يراها سواه، على الأغلب كان ينتظر أن يناديه أحد ليقول كلمته المعتادة«أنا لا أعرفك».

خرج الفتى متثاقلًا، يتمايل جسده هذه المرة بشاعرية متأثرًا بمسرحيته التي كان يؤديها.
نظر لغروب الشمس بنظرات المحبوبة واسعة الخيال، تخيل بجانبه صديقًا، فاختفى الشارع من حوله، وتشكلت تحت قدميه أخشاب مسرح.

تقدم على الأخشاب وانحنى انحناءة نبيلة، هذه المرة كان كتفاه مستقيمان كعامود شامخ، تمتم بكلماتٍ شاعرية كهفوات الرياح، كعمق رائحة الياسمين، تمتم لصديقه عن عهد صداقتهما.
ترأت له حبيبته على خشبات المسرح، فخرجتْ من بين يديه وردة دامية، اقترب لتركع قدماه، وبعينه سوداء اللون نظر لعينيها و قال:
«أنا اللامكان واللاشيء، أنا الخوف، فهل تقبيلن أن تكوني مكاني، وشيئي؟»

تصفيق ظهر على مقاعد المسرح من السيدة العجوز، ونوح صاحب الكلب، وكان السيد صاحب القبعة يصفق متأملًا نظرات الفتاة على المسرح والتي ظن أنها أمه.
انبثق من بين الجميع الفتى المبتسم، يحمل عمق الخوف في عينيه ويتميتم:
«ايها اليافع، لا اسم لك، لا حب لك، لا صديق لك، لست سوى فتى بخيال أعمى».

--------

انتهت

27/10/2018

فتى ضائعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن