10 تشرين الأول
السّويد
1:09 p.m
عينان إذا نظرتَ لهما من بعيد،تبدوان وكأنهما شذرات من عاصفة حبست في مرآة،عينان ساهيتان ما كان لشيء أن ينتزعهما من كآبتهما،
وبالرغم من ذلك فإنهما لم تكونا متضادتين متنافرتين عن محيطهما،إذ كان كل ما في الحديقة التي جلس ويلمار على أحد كراسيها الخشبية،
واقعًا تحت وطئة ركام الثلج الأبيض،حتى أرواح الزهور الرقيقة المنتشرة في أرجائها،استسلمتْ للنوم.كان المار عليه يوشك في أول لمحة
أن يعتقد أنه مر بجانب تمثال رخاميّ عجنه الأسى وجمدته رياح الزمن القارسة، إثر شحوب بشرته الشديد،وملابسه الرمادية.
بدا كل ما ينتمي إليه أحاديًا،عدا شعره بندقي اللون الذي انغرست فيه أنامله،بينما أحاط وجهه بكفيه،مسندًا مرفقيه على ركبتيهِ مطرقًا برأسه.
لم يكن هناك توهج في فكره أو حتى صوت يمكن أن يعول عليه . فقط ذلك المشهد يُعاد في مخيلته مرارًا وتكرارًا آسرًا وعيه مخضعًا إياه ومجبرا
ويلمار على التصديق بأن تلك الروح الرقيقة،روح ميريل،قد غادرت إلى السماء،وأنّ لأنانيّته التي لم يتخلّ عنها يومًا دورًا عبثيا مثيرا للسخرية في ذلك .
لم يبدُ على ملامحه ردُّ فعل،وكانت كل رغباته تطفو إلى الخارج،هلامية ولينة،تستولي عليه بطريقة ناعمة دون أن تترك له وقتا أو فرصة حتى يحللها،وكذلك
كانت الرغبة التي دفعته لأن يقف بغتة،ويتجه بخطوات بطيئة إلى النافورة التي توقفت عن العمل وكسى الجليد سطح المياه التي احتضنتها جدرانها الرخامية القصيرة . ظل واقفا لوهلة يتأمل في التعرجات الرقيقة للجليد،ثم رفع يده وتلمس بأنامله طرف ياقة المعطف الذي يرتديه،أزاحها إلى الجانب
قليلا وأدخل كفه وبحث في الداخل حتى قبض على الساق النحيلة،أخرج يده ونظر،كان الهواء ساكنًا،لكن عطر الوردة وصله،لم يطل التحديق،مد يده
فامتد انعكاسها على سطح الجليد وانكسر إلى أطياف،وألقى الوردة.اهتزت البتلات البيضاء لثوانٍ ثم سكنت،وكأنها عبرت لحظتها الأخيرة في الحياة.راقبها ويلمار بتعبير غامض على وجهه قبل أن يولي ظهره للنافورة متجها إلى الأمام . كان يعلم أن المقبرة تقع على مقربة من مكانه،وأنه ربما في هذه اللحظة عينها التي يُغلق نفسه فيها عن كل شيء،يلقي العالم نظرته الأخيرة على ذلك الوجه الأبيض الوسيم ،قبل أن يحجبه التابوت،وتذرى فوقه أكوام من التراب والثلج الرطب.ولكن حتى هذا الخيال المؤلم ما استطاع دفعه لأن يذهب ويلحق بالمراسم،بالكاد يتحمل اشمئزاز نفسه،إنها تنشق عنه وتتركه معزولًا في خيبته وتعاسته،تبتعد بينما ترمقه بنظرات الاحتقار،تلومه وتستعلي عليه وكأنها لم تكن جزءًا منه،حين حدث ما حدث.فكيف به إذًا أن يحتمل النّظر إلى القبر،وذلك التأكيد المريع الذي ستبعثه أجواء الحِداد إلى قلبه المُثقل . لقد واصل المشي مُبتعدًا حتى بلغ الشارع،وهو يودّ أن تخسفه الأرض،أو على الأقل أن تمحو هذه الرياح القوية هويّته ووجوده وآثاره .
بعد عدّة مربعات سكنية،في مكان يبعد عن الحديقة مقدار مائتي ياردة،وقُرب الجَمع الذي كان جُلّ أفراده متلفعين بالسواد،وَقف رجل ذو هيئة شبه عادية يرتدي بذلة رسمية،مستندًا بظهره إلى شجرة بينما يتحدّث بصوت منخفض عبر هاتف نقّال :
-" كما خمنّت،لم يأتِ ويلمار إلى الجنازة،بحثت عنه في أرجاء المقبرة ولم أجده،هاتفه مغلق أيضًا
" همهم الشخص الآخر بملل فأردَف الرجل :
-" ماذا سنفعلُ الآن ؟ "
أجابه الآخر بصوت تظهر فيه قلة الحيلة :-
" بالطبع سنمضي على الخطة فالمستندات مهمة ولا يزال علينا استرجاعها وإن نسي القائد أمرها .. "
-"إذًًا من سيذهب بدلًا عنه ليوجه الشّباب ؟ "
لم أحدد بعد،لكن سيتعين علي فعل ذلك حالًا،فقد تم إرسال شخص ليحدد مكانها وقد بدأت سيرينا بحجز التذاكر للمجموعة بعدما تم تأكيد المكان
،الرحلة الأولى ستكون غدا في الصباح الباكر،علينا أن نسرع يا جيديرتو قبل أن يطرأ طارئ
"ابتعد جيد عن الشجرة وقال بينما ينفض بذراعه الحرة سترته :
-" حسنًا إذا أراك لاحقًا "
ألقى نظرة أخيرة على الجمع الذين انخرطوا في أحاديث جانبية بأصوات منخفضة بعد أن تمّ الدفن وانتهت الخطبة التي ألقاها القس،
ثمّ توجّه إلى الخارج حيث تقفُ سيّارته الحمراء .
-على السرير الذي ينتصف الغرفة البيضاء كان يستلقي، ملامحه هامِدة ، لم تعد مِضمارًا تتبارى فيه الأحاسيس ، وجهه مجرد ستار من جلد يخفي وراءه كل ما يحصل بالدّاخل. لحظاتٍ مرّت ، وبدأ صوت أنفاسه يظهر ، تسارعت شيئا فشيئا حتّى أضحتْ لُهاثًا ، قَام ميال من استلقائه ، أحنى ظهره إلى الأمام ووجه عيناه ببطءٍ ناحية الزجاج ، رأى وجهًا لإنسانٍ محموم يبدو وكأنه يعاني عذاباتٍ لا نهاية لها . كانت عيناه محتفظتين بذاك السكون الأليم ، لبث وهلة يتأمّل في انعكاسه الطّفيف وكانت السماء الليلية المطعّمة بأضواء المدينة والشارع تطُلّ من وراءه .
وأخذتِ الأفكار تطفو في ذهنه " مريض.وماذا سيعني ذلك ؟ هه مذ عرفتُ نفسي كنتُ كذلك،أيحسبون الآن أنّ بإمكانهم أن يقولوا لي " لا تقسَ على نفسك،فأنتَ مريض" وأن يخرجوني بهذه المواساة البالية من الحتْف الذي قُدِرَ عليّ السقوطُ في دوّامته ؟ أيحسب سَروبٌ الآن أن باستطاعته أن يضمّ رأسي إليه ؟ ليتحدث بكلمات يعتبرها بلسما بينما في نظري هي حديدٌ كاوٍ يمنح جروحي المزيد من القدرة على الإيلام،ما ذلك بممكن .. لقد عمّقت هذه الحقيقة خنجر كراهيتي لنفسي أكثر،ولا يمكن أن أغفر أو أتناسى "
توهّجت عيناه،بدتا كيراعتين خضراوين تطوفان في السماء الظاهرة من وراء النافذة .
أشاح بوجهه عن النافذة، ومد يده الحرة إلى الأخرى ليقبض على إبرة المحلول المغذي و ينتزعها بهدوء من وريده،أراد أن يغادر هذا المحيط البارد الذي يوحي بالجمود والانتهاء،لم يقبل هذه الطريقة البائسة الباردة لحضور النهاية ، أراد أن يكون هو المُفتعل . توجّه إلى الحمام وغسل الدم عن يده وفرك وجهه وعينيه عدة مرات محاولا أن يتخلص من آثار التعب،بخطوات متعبة ولكن متواترة بإصرار قطع ميال مسافة الرّواق الخالي خارج غرفته المؤقتة بالمشفى الذي كان شبه خالٍ في هذه الساعة المتأخرة .لم يعترض طريقه أحد،توقف بحذر عند إحدى الغرف،وبتجاهل تام للوحة التي كتب عليها تحذير بعدم الدخول إلا لأفراد الطاقم الطبي للمشفى،دفع ميال الباب ودخل،أغلقه وراءه ثم جذب حقيبته التي كان يعلقها على كتفه،أخرج منها بنطال جنز وسترة قطنية ثقيلة،وبدأ يخلع ملابسه بسرعة.بعد أن انتهى من التبديل توجه إلى الخارج مجددا،عبث بشعره حتى يغطي نصف ملامح وجهه،كانت تعتليه نظرة عجيبة مبدأها الإصرار وعنفوانها البرود القاتل واللامبالاة التّامة بأي شيء قد يحدث .
-أسرع فؤاد راكضًا ولهاث أنفاسه المختلط بدخان السيجارة يندفع من فاهه،كان قلقًا لا يستطيع الكف عن التفكير إلى أي مدى يا ترى وصلت ورطته التي خلقها بيده غير واعٍ بقدرتها على التفرد والتمدد لينتهي بها الأمر عظيمة الإرهاب كوعد بمجزرةٍ دامية. أراد أن ينفرد بميال عله يتمكن من صيد تلميح يوضح له كائنات المشاعر والأفكار التي تتمكن منه.وأخيرًا لم يبق له إلا بضع خطوات حتى يدخل عابرا باب المشفى الزجاجي الذي انفتح تلقائيا،لكنه لم يعلم،أنه فقط على بعد عدة ياردات،كان يتربص الشخص الذي يبتغي فؤاد لقائه،يتربص باحثا عن أي سيارة يمكن أن يقحم نفسه فيها حتى يتخلص إلى الأبد من وصمات هذا المكان بأكمله .
أنت تقرأ
العَجَلة الدّوّارَة
Детектив / Триллерبسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . هذه روايتي الثالثة كِتابةً ، الأولى حقيقةً ، لأنها تقريبا أول رواية أعلّق بها آمالًا كبيرة إلى حدٍّ بعيدٍ نوعًا ، آمالا لا تتعلق بالضرورة بالنشر وما إلى ذلك ، إنما تتعلق أكثر التعلق بما ست...