بلا عنوان

2 0 0
                                    

- كنتُ أعمل كالدّابة وأجني أجرةً قليلة في أحد ساحات المدن الصناعية لتحميل البضائع ، وأسكن بغرفةٍ للإيجار بعد موت أمّي وسرقة عمّي لمنزلنا وأموال أبي بالتزوير ، وفي ليلةٍ من ليالي الشتاء العاصِفة ؛ كنت كما هي عادتي أدخّن ويلوح في أفِق جُجُمَتي التفكير والسّرد لنقاشاتٍ مع نفسي لا نهاية لها ، بل قدح ذاتي وشتمي لنفسي ..
فَطَرء في عقلي فِكرةَ العيش كأنسانٍ يُدلّلُ نفسه ويُوفّر مبلغاً بسيطاً للذهاب لأماكنٍ راقية وغالية بعض الشيء ..
فبدأت بتلك الخطة وأنجزتُها بنجاح ، حتى دخلت على أحد المقاهي الرّاقية ورأيتها ..
عند أول لقاءٍ لي بها ، خَطَفت أنظار قلبي وأحسَستُ بلمعَةٍ في صدري ، أصبحتُ أختَلِس النّظر إليها خِفيةً ، أُراقِبُ حركة شَفتاها وأعِدُّ رَمَشات عينيها في الدقيقة ، سَرحتُ في إستلقاء خُصل شعرِها على أكتافها وأنا واضعٌ كوع يدي اليُمنى على الطاولة وكفّي على خدّي ..
نسيتُ أنّني كنت قد أشعلتُ سيجارةٍ منذ دقائق ، حتى أحترقت يدي وأنا لا أشعر ..
كانت عندما تضحك يزيد ضخ الدم في جسمي تعبيراً عن فرح قلبي بإبتِسامتها ، تُحدّثُ أختها ولا تُعيرُني أيّ إهتمام وأنا كالبَليد لا أهتم لجفائها لي ، فما يُهمُّني هو رؤيتها وأن أبقى مُبحلِقاً بناصِيَتِها ..
كان كل ما أتمنّاه أن أبقى أراها بشكلٍ يوميّ كي أشعُر أن هنالك شيءٌ يستحِقُّ وجودي ، مع أنّني نكرة بالنّسبة لها إلا أن هذا له قيمةٌ في عيني ..
غادرت المقهى وأخذت قلبي معها ، لكنّني وبالرُّغم من قلّة حيلتي وفَقري قرّرتُ أن آتِ لهذا المقهى يوميّاً علِّ أراها ثانيةً ، فأتَت ؛ وظَلَلتُ أحتسي القهوة وأدخّن بشراهةٍ غير معهودة بشكلٍ لا إرادي ، حتى شعرت بي وبنَظراتي ، لكنها إنزعجت منّي ومن تصرُّفاتي اللاإرادية من نظراتٍ وإقتراب حتى غادرت المكان ..
أصبحت أعمل أربعة عشر ساعة في اليوم كي أحصل على أجرٍ يسمحُ لي بالدخول إلى هذا المقهى كثيراً كي أراها ..
وبالفعل أصبحتُ أذهب إلى هنالك يومياً لأراها ، كنت لا أجرؤ على تغيير طلبي خوفاً من قيمة الفاتورة ، حتى حفظ عامل المقهى كأس القهوة خاصّتي ويحضره لي من دون أن يسألني ، وأنا لا أهتمُّ لرأي أحدّ بي ولا أعطي أهتماماً لما يقولون ، غير أنّني سعيدٌ برؤيتها وتمعُّني بها ..
كانت تملك هاتفاً حديثاً جداً وكبيرٌ بعض الشيء ، وترتدي من الملابس ما لا أستطيع عدّهُ وحفظه ، وأخاطبُها في داخلي ؛ هيّا تموّضي وتدلّلي في ملابسك وجمالك فأنت تستحقّين يا ملكة هذا القلب ، حتى أنّني كنت أتعامل بالرّبا معها ، فإذا نظرت إليّ مرةٍ بشكلٍ خاطئ كنتُ أردُّها إليها أضعافاً مضاعفة ..
لكن ما يُرهِق قلبي الآن أنّني كنت بليداً وأبلهاً حدّ البَطَر ، فقد كنت أعتقد أنه سوف يأتي يومٌ ما وألفِتُ نظرها وأُثيرُ إعجابها ، وهذا كان له دورٌ كبير في توجيه الإبتسامات لها ولَمَعان عيوني كثيراً ..
حتى في ليلةٍ من الليالي وأنا أستمع لكوكب الشرق وأتمتِمُ معها وسارحٌ في خيالي وكأنّني أوجّه هذه التمتمات لهذه الفتاة وهي بجانبي ، خطر على ذهني فكرةُ أن أذهب إليها وأتعرّف عليها بإسلوبٍ كلاسيكيٍّ راقي ، لكنّني لم أتوقّع بأنه سيحدث ما حدث ..
أنهيتُ عملي في اليوم التالي على عجلةٍ من أمري وكأنّني ذاهبٌ إلى الجنة وليس لطلب كوبٍ من القهوة ورؤية ذاك المتعجرف صاحب المقهى في بداية الأمر ، فهي دائماً ما تأتي متأخّرةُ بعض الشيء ، وأنا كنت دائماً ما أحرص على أن أتواجد قبلها كي تدخُل وتراني ..
نظّفتُ ' البالطو ' الأسود الذي لا أملك غيره ودائماً ما تراني فيه ، وأرتديتُ حذاءً أسوداً كنت قد تورّثته من أبي مقضوماً من الأمام بسبب الفئران ، ونَثَرتُ ' الكولونيا ' على رقبتي وأكثرت النّثر والرّش حتى أصبحتُ أسعل ، مع بنطالٍ كنت قد أستعرتُه من صديقٍ لي في العمل بخمسة دولارات ليومٍ واحد ، لكنه كان طويلاً بعض الشيء ، فكَفَفتُه حتى لا يلامس المياه العادمة المتناثرة في الشارع ..
دخلت للمقهى وأنتظرتها حتى أتت ، ولحُسن حظّي كانت لوحدها ، في بداية الأمر تردّدت بعض الشيء ، ومن ثم أستجمعتُ قواي وذهبتُ أليها وقلبي يكاد أن يخرج من جسدي من شدّة نبضه ..
شعرت بضيقٍ في نَفَسي ورجفةٍ في يدي ، وأصبح لساني يتلعثم ونسيتُ ما كنت قد حفظته في الليلة الماضية ، حتى هي بدأت الحديث وسألتني عن حاجتي ، فأجبتها بتعريفي عن نفسي ومن ثم قولي لها أنني معجبٌ بها ..
فأنفجرت ضاحكة وتصرخ بأعلى صوتها لصاحب المقهى وتنادي عليه ليأتي إلينا ؛ وعندما جاء الرجل قالت له أترى يا سامر لم يبقى إلا حثالة البشر من يحبّوني ويريدون التعرف عليّ ..
ألا ترى نفسك يا هذا ، أنظر لملابسك وهيئتُك ، بل دقّق بتلك الرائحة النتنة التي تضعها ..
لم أستطع أن أنطق بكلمة ، لكن عيوني تحدّثت ونطقت بمائها ، حتى جاء عمّال المقهى وجرّوني جرّاً للشارع ..
ومنذ تلك اللحظة يا صديقي وأنا لا أنظر لأنثى ولا يخطر على بالي ولا على قلبي فكرة الحب ، بل أيضاً أشعر أن قلبي لم يعد ينبض كما في السابق ، ولا أجرؤ على دخول أيّ مقهى أو مطعمٍ جميل ، أو حتى إلى متجر ..
فأنسى ما تتحدث لي به ، ولا تفكّر بهذه الفتاة ، فنحن فقراء ، نحن من حُكم علينا بالموت ونحن على قيد الحياة ، نحن المكروهين ، نحن الذين وجودنا يثقل كاهل المجتمع ..

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jan 15, 2019 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

الواقع حيث تعيش القصص. اكتشف الآن