طيف

168 9 7
                                    

ماتت زوجتي أثناء ولادة فتاتي فاهتممت بها كل الاهتمام وراعيتها حق الرعيه وزينتها كحلية طاهرة وقدرتها مقام الملكه بعد مقام ابنتي فلقد كانت لي روح غاليه دفعت مقابلها روح أغلي ...

وحينما وصلت الي سن الثامنة عشر كان الموت قد أوشك علي أن يدق بابي بعد أن استضاف جسدي المرض وحينما وصلت هي الي العشرين من عمرها أغفلت عيني عنها للحظه ثم استفقت من غفلتي التي لم أدركها فرأيتها تبكي خلفي بينما تحملني أرواح أناس تذكرت ملامحهم بصعوبة حتي أدركت أنهم كانوا لي أصدقاء يوما ... ثم رفعوني من مكاني ووضعوني في الرماد فأبعدو نظري عن بكاءها, حاولت مناداتهم لأوصيهم بها لكن لم يأبه أحدهم بقولي ثم أغلقوا علي باب مسكني الجديد. 
كنت أخرج كل يوم في الصباح أنتظرها لتأتي الي وتطمئنني لكن الليل كان يأتي من دونها فأعود الي مسكني مرة أخري حتي يأتي صباح أخر وأخر ... فكنت أحياناً أسمع أصوات أقدام ما في الليل فأخرج مسرعاً قاطعاً للظلمات علي امل رؤيتها ولكن تعود بسماتي محبطة حين أري غيرها لأعود من جديد متمنياً رؤيتها في الصباح. ظللت هكذا حتي مرور عام كامل وفي نفس يوم ذكري سكني لقبري وجدتها قادمة الي بأجمل الورود وقد تغيرت ملامحها بعض الشئ ولكنها لم تختلف جمالاً عن قبل, ومرتدية ملابس أمها حتي كدت أُشَبِه أن زوجتي قد استيقظت لزيارتي ولكنني الان متأكد انها ابنتها التي لا تفترق عن أمها جمالاً...
أتت الي هادئة وتحكي ... تحكي وتحكي وتحكي وانا كلي انصات تحكي عن عملها الجديد وعن جامعتها وتفوقها في الدراسه وعن اشتياقها لقصصي قبل النوم فكنت أجيبها وأمدحها ولكن لا أعرف لما لم تجيبني ! سقطت من عينها دموعاً فمررت بإصبعي علي وجنتها لأمسحها من هذا الماء الذي يعيق سطاع جمالها، وضعت الورود بقربي فربَتُ علي رأسها ثم عادت بخطواتها البطيئه ... حاولت مناداتها ولكنها لم تجب! لقد تركتني قبل أن تسمع لي كنت اود ان احكي لها عن وحدتي من دونها فمن لي غيرها لأروي عليه قصصي ومن سواها يذكرني بملامح عزيزتي؟
كدت أبكي من عدم استجابتها لي حتي سقطت دموعي حين اختفت عن ناظري بالفعل كانت تبتعد
عدت حاملاً لورودها أشتم منه عطراً مميزاً لم أشتمه منذ عام ! كان عطر ملمسها ممتزجاً بعطر الورود ابتلت احداها بقطرة من دموعي فسارعت بتجفيف عيني قبل ان تسقط أخري علي هدية ابنتي فاحتفظت بها وكانت من اسباب بهجتي لتذكيرها لي بابنتي.
وبينما كان الورد علي باب مسكني رأيت شخصاً ما يقترب الي. كنت اظنه صديقاً قادم لزيارتي ولكن لا أتذكر ملامحه كالمعتاد ولكنني علمت أنه ليس صديقاً بعد أن رأيته يبادر النظرات الي نَضَارة ورد ابنتي فاقترب وأقبض بيده عليه بشدة فغضبت وحاولت أن ألتقطه من يده لكن لا أعرف لما لم تحمله يداي!.. دس أنفه فيه فصرخت به لكن لم يأتي ذالك سوي ببعض الرياح الخفيفه فدس أنفه من جديد حتي كاد أن يطوي احدي الاوراق فصرخت به من جديد وصرخت معي الأشجار منبهتاً له فعاد بخطوات قليله، حاولت لكمه بقبضاتي الضعيفه لكن لا جدوي أيضاً فابتعد أكثر واكثر فناديته ولم يجب أمسكت بحجر لأقذفه به لكن لم يصل اليه او لم يتحرك الحجر من الاساس وأنا في مكاني اراه يبتعد أكثر بها فجزعت علي ركبتيي وترجيته باكياً لكن لم يجب حتي اختفي مبتعداً عن ناظري مثلها....
انبطحت باكياً علي الارض لأروي ترابها بدموعي فمالت الي اوراق الشجر تطمئني فقمت من مقامي عائداً لمنزلي حاملاً حزني وأمالي بأن تأتي الي ابنتي بغيرها غداً... ولكن لم تأتي.
مرت الأيام علي عزلتي كسنوات فمن لي يأنس وحدتي غيرها؟ اشتقت الي ملمس احتضان ابنتي ونعومة شفتي زوجتي وحديث أصدقائي القدامي الذين كانت عائلتي تغنيني عنهم....
أتي يوم ميلادي حين تذكرت أن اليوم هو يوم زيارتها لي ولم احزن علي أنه يوم افتراقي عنها فبدأت في تزيين نفسي لاستقبالها ثم انتظرت علي بابي وأنا أفكر أستأتي لي بورود جديد أم ورود شبيهة بالقديمه؟ وبدأت في توقع ألوان الورود حتي قمت من مضجعي قاطعاً لأفكاري حين رأيتها تأتي من بعيد فاهتزت الاشجار تنبهني بقدومها فأخبرت الأشجار أنني رأيتها فتوقفت عن اعلان الفرح وبدأت هي في الاقتراب أكثر حتي أصبحت أوضح فظهر بجانبها شخص ما كان يحمل ذراعها بين ذراعه وتحمل هي في ذراعها الاخر وروداً أجمل من ذي قبل .. أتت واقتربت فوضعت الورود بقربي وانا مبتهج جداً بقدومها فأسرعت باحتضانها مبتسماً برؤيتها  ثم نظرت في عينيها فوجدتها تلمع مبشرة بدموع قريبه حاولت أن اهدئها وأخبرها أن لا تحزن فانا بأمان هنا وسعيد جداً بقدومها حتي هز الشخص الغريب علي كتفها فتراجعت دموعها عن السيلان وعادت معها بسمتها وبسمتي ثم بدأت تحكي لي عنه بأنه أصبح زوجها الحبيب وكيف قابلته وعن حبهما وحياتهما معاً ففرحت جداً بقدومه وقبَّلتُ رأسها وشكرته سعيداً بوجود من يعتني بها بعدي ووصّيته بتقديرها وليته يقدرها مثلي حقاً ثم بدأت احكي لها عن سعادتي بها ووعدتها بأنني سأحافظ علي الورود هذة المره وقلت مازحاً: "حتي لو كلفني هذا حياتي الثانيه..." ولكن لم يظهر علي وجهها ملامح ضحك وكأنها لم تسمعني فتجاهلت هذا وجلست معي قليلاً ثم ودّعنا بعضنا البعض ببكاء خفيف وراقبتها وهي تختفي معه من بعيد ... فرجعت لأمسك بهديتها وأشتم منه عطراً جميلاً مثلها وبالفعل نجحت في الحفاظ عليه عاماً كاملا ولكنه للأسف لم يحافظ علي نفسه شهراً واحدا.
ثم أتت الي في العام التالي هي وزوجها برضيع ففرحت جداً لأجلها ودار بداخلي شعور الجد والحفيد وعام أخر بملامحها الجميله التي تزيد شبهاً بأمها ثم أتت بعد عام تأتي بالرضيع يمشي ويحمل الورود فرحاً واتت الي عاماً بحلي جديده وتأتي الي من جديد لتحكي لي عن نجاحها في عملها ونجاح ابنها في الدراسه وعام تأتي لي بفراش طعام لنجلس سوياً كأسرة وضحكات ابنها وزوجها وابتسامتي من بينهم ومضينا معاً وقتاً اطول ثم أتت ذات عام حاملة لبعض التجاعيد علي جمالها وتغير بسيط في نبرة صوتها وخشونة في صوت ابنها ثم جلسا معي قليلاً نحكي عن صحتها ولكن لا أحد منا يرضي باجابة الاخر فليتها تسمعني كما أسمعها....
ثم ذهبت وقدمت بعدها بتجاعيد أكثر وابنها اكبر سناً وبلحية علي جبينه وبعض الشعيرات البيضاء علي شعرها كأنها بحيرات تقطع غابة من الجمال علي رأسها ومرت أعوام علي امتصاص العجز لجمالها لكن الورود لم تُنسي مرة واحده ولم يؤثر بها عجز صاحبها حتي مر عام وعام وعام وفجأة لم تأتي في يوم حضورها بل أتي الي ابنها بالورود يطمئنني عليها وظللت أسئله عنها ولكنه لم يجيب أصرخ به لسؤالها ولكنه لا يبدي أي رد حتي تركني ببكائي علي ورودها وذهب ...
ثم بعد عام من الاشتياق لها أتي ابنها هو وعدد قليل من الناس يحملون جثمان ما في صمت مخيف فذكرني ذالك بيوم سكني وتوقفوا عند باب مسكني ففتحت لهم الباب لاستضافة ما يحملوه ثم وضعوا شخصاً لم أستطع تمييز وجهه لما كانوا يضعونه عليه وذهبوا فتفحصت الجسد قليلاً حتي اشتممت منه رائحة لا أنساها ولا أعرف غيرها رائحة زوجتي وابنتي... لقد أهدوني اليوم عائلتي.
انتظرت قليلاً وانا متلهفاً لقيامها حتي ظهرت حركتها لتنير مسكني وذهب الظلام الذي كان يعيق جمال وجهها وقالت بنبرتها الهادئه: " أبي " .... فشلت ملامحي وكلماتي في وصف ما أشعر فلم أستطع فعل شئ سوي أن ألقي بجسدي لأحتضنها فلقد اشتقت الي ملمسها واشتممت منها رائحة زوجتي كما كانت فبكينا علي اكتافنا قليلا وبدأنا الحديث عن كل شئ, كل شئ ... عن اشتياقنا وعن حياتنا الماضيه ثم أخبرتني أنها تعد لي هدية ما!
وفي اليوم التالي سمعنا في الصباح صوت أقدام فأسرعت للخارج ثم قالت : " ها هي الهدية قد وصلت " فخرجت لأري معها ما تعده لي اذ بابنها يزرع لنا شجرة أزهار فاحت رائحتها مسكني فقبلناه علي رأسه وشكرته بشدة ثم جلسنا معه تحتها بعض الوقت نستمع لأحاديثه وأصبح يزورنا في العام مرتان مرة لذكراي ومرة لذكراها وفي ليلة نادتني من الخارج فذهبت اليها مسرعاً ووقفنا معاً نري زيارته لنا مع فتاة ما متشبثة بذراعه....
تمت. 

طيفWhere stories live. Discover now