الغروب
كلما أعود الى بلدتي –أيت باها-لأصِل عائلتي الصغيرة والكبيرة، تنسل الذكريات عبر ثقوب الماضي لتعلن حربا أمام ضعفي، فأرفع الراية البيضاء خاضعا لها ولآلامها، كان لهذه المدينة واقع خاص في نفسي قبل أن يفعل الزمن فعلته ويترك بها شرخا، لتتولد لدي إرادة ما فتئت تجرني لتبعدني عنها، هذه المدينة التي يزداد جمالها يوما بعد يوم، قبل أن يموت حبي لها حين ماتت وفاء ...
كم أكره حبي لهذه المدينة !!!
*********************
وفاء صديقة الطفولة زميلة الدراسة، شهدت أزقة المدينة على صداقتنا، دللتنا أشجار حديقة 20 مارس، كانت حجرة الدرس مسرحا وطنيا حينما نقوم لتمثيل مسرحية، كنت بطلها آنذاك، بارع أنا في تجسيد الأدوار... لم تدم بطولتي طويلا، قبل أن أحزن على انتقالها إلى مدينة أكادير، لكن أبدا لم تنضب علاقتنا، كلما سنحت لها الفرصة تزور المدينة، نلتقي لنعوض فراقا فرضه علينا واقع مر، نتجاذب أطراف الحديث، نضحك لأتفه الأمور تحسبا لفراق آت...
ما كادت المرحلة الثانوية تنتهي، حتى انفجر جسدي بشكل غريب ولافت للانتباه... اتسع وبرزت عضلاته مفتولة، ارتفعت قدماي عن الأرض كثيرا، ودب الزغب فوق ذقني...
أكان لهذا التغيير تأثيرا على علاقتي بوفاء؟ أصبحت متعطشا لها، لحديثها... رغم ندرة لقاءتنا إلا أنه يوميا نتواصل، نشأ الحب دون أن يستأذن، وفي حضرته ترفع كل القيود، ويصرح بجواز البوح، أنا الذي كنت بطلها أصبحت عاشقها دون أن أدرى...
أحبت وفاء المدينة التي نشأت بها، كانت مواظبة الزيارة لها، وفية هي لمسقط رأسها، مؤمنة هي بحب الانتماء، تلك قيم الأمازيغ، ثالوث ترسخ في قلبها ودائما ما تذكرني به "la terre، l'homme، la langue"...
*********************
صيف 2012، حصلت على الباكالوريا، وفاء كذلك، ذكية هي ومتميزة في دراستها، عكسي تماما، لكن لابد أن أقبل التحدي، تحدي نفسي طبعا.. اتفقنا أن نجتمع في نفس الكلية، ذلك ما تأتى لنا ...
جاء شتنبر بشوق، بعنوان المطر كما قال إليا أبوماضي " أيلول يمشي في الحقول وفي الربى، والأرض في أيلول أحسن منظرا"...
يوم وأي يوم، وهو يوم لقاء وفاء، بعد ما يقارب السنتين جاء بشوق، ما زلت أتذكره بتفاصيله الشيقة والمملة؛ كنت جالسا في مقصف الجامعة أحتسي كوب قهوة منتظرا، أضع سماعات واستمتع بقطعة موسيقية طربية "أجلس في المقهى منتظرا أن تأتي سيدتي الحلوة..."، جاءت وفاء، وجعلت كل الأوقات تناسب استقبالها، دخلت كفرس جامح، بخطوات واثقة، بعنق ماجد، بجبين شامخ وشعر ثائر.
تقدمت كوطن حر لطالما حلمت به، وطن لطالما أغراني بثورته وجموحه وجنونه.
جلسَت بخفة قطة، وضعت احدى رجليها فوق الأخرى بدلال عفوي، لم أنتبه كثيرا هل ألقت التحية، هل سلمت عليها فعلا، فقد كنت مبهورا، مصدوما، جامدا...