دقت الساعة الثالثة فجرا، لتجود السماء بأمطارها الغزيرة، لا عجب فنحن في تشرين الثاني، حيث السحاب الملبدة بالغيوم، والتي سرعان ما استشرى البرق في كبدها، والودق يخرج من خلالها(1) لساعات معدودة، والأرض أعزَّها(2) المطر.
جثم شتاء لندن قبيل أيام غير أنه كان قارسا تلك الليلة، ولم أحسب لها الحسبان، أكلت نيران المدفأة الجدارية ما تبقى لدي من حطب.
كان لابد أن أحتمي بحرارة قدح القهوة، وكان حالي يتمثل في قول القائل:
"قد بات في دفء أرطاة يلوذ بها ... من الصقيع وضاحي جلده لَثِقٌ"(3)
وبينا ذلك: سمعت طرقات رقيقة متتابعة على الباب الزجاجي الخلفي لمنزلي الصغير.
(طق .. طق .. طق)
بدا لي صورة إنسي من وراء الباب الزجاجي، الذي سرعان ما انهمرت الأمطار لترسم على واجهته شلالات عمياء، منعتني من تحديد هوية هذا الكائن وراءه، لم تفلح المظلة الجانبية في حماية الباب الزجاجي البارز.
اقتربت للباب كي أميز الطارق.
لم تكن الصورة تصلح إلا لامرأة متوسطة الطول.
رأيتها تشير لي أن افتح الباب!
سارعت إلى الباب، فحاولت أن أزيل الماء عن الباب الزجاجي لأميز وجهها وصورتها.
يا إلهي! الماء من الخارج كيف لي أن أزيله والباب مغلق؟!فتحتُ الباب مترددا.
رأيت شابة قسيمة(4)؛ منسدلة الشعر، رَخْصَة البشرة(5) ملْداء، قد ابتل ثوبها اللحمي اللون الذي لا يفارق لون يدها المنكشفة، كان ثوبها هفهافا رقيقا شفافا، ساعده المطر أن يحاكي تفاصيل جسدها، ويكأن المطر استهدفها وحدها، وكان صوتها كهديل الحمام من شدة البرد غير أنه متقطع كأن في فِيْهَا الحجر، لم يشابه صوتها رسمها.
لم أستطع في البدء تمييز لون عينيها المغضمتين اللتين صارعهما الإرهاقُ والتعبُ.
مرحبا، هل أستطيع مساع....
لم أكمل جملتي حتى ارتمت بين يدي قطعة واحدة، كأن طاقتها نفذت وقواها انهارت بحضن جملتي.
لم تساعدني قواي, وحُلَّت رُباطة جأشي بمجرد أن لامست يدي عضديها، زاغت عيني بأركانها التي تفجرت بأنوثة منقطعة النظير،
هممت أن آآ
لقد هممت أن ..وضع أحمد قلمه ساخطا، سحقا لكم أيها الكذابون، لا أريد شهرة زائفة.
لن أتلاعب بمشاعر الناس، لأجل المال والشهرة ...
ليس هذا وحسب يا سيد أحمد، هناك لقاءات ومؤتمرات وجوائز مادية ومعنوية .
كان هذا صوت الناشر الذي اقتحم المكتب بخطى واثقة،... كان أحمد رغم ارتباكه واثقا حازما في قراره هذه المرة.
الناشر: ألم ننه هذا الأمر بالأمس ؟
أحمد: يا سيد قاسم، لم تكن سوى وسواس حاذق، أعترف أنك أقنعتني للحظات أدت لكتابة تلك الأسطر البائسة، كدت ألج باب سوء بعد نصيحتك!لم يسمع أحمد خطوات انسحاب السيد قاسم، بينما جعل يقول بصوت اختلط فيه الحزن باليأس:
"لازلت لا تعي يا سيد قاسم كم عانيت وأنا أكتب هذه الكلمات!
كنت أشعر أني كراقصة تتمايل كي تفوز بإعجاب ثلة من السكارى، غاية طموحها أن تثير الناظرين كي يَمُنَّوا عليها بحفنة من المال تجمعها بعد العرض.
تستطيع يا سيد قاسم أن تقول: إنه كمهر البغي.
التفت السيد أحمد ليرى باحة مكتبه خالية من سواه، ثم اتكأ على مكتبه ناظرا إلى سقف مكتبه، في محاولة للهروب من صدمة الموقف وآثاره، لتقع يده على ورقة بيضاء مطبوعة تركها له السيد قاسم.
يا إلهي!
تلك صورة من العقد الذي تضمن شرطا جزائيا، نعم فقد أنفقت دار النشر كثيرا للإعلان عن الكتاب واختيار الغلاف، وكان هذا كله مخالفا لعادة دور النشر، والتي كانت تقوم على تجهيز هذه الأمور بعد انتهاء الرواية.
لا أستطيع سداده، ولا أملك ربع قيمته.
لكني أملك ...
أملك مبادئي.
سكت السيد أحمد لحظات ثم هب صارخا كأنه مسعر حرب محرض للجيش:
سأكتب وأكتب حتى يفهم الناس أن هناك أدبا نقيا محافظا محاطا بالحرفية والامتاع، وأن إثارة الغرائز ليست سوى تشويه للأدب, وغزو لديننا وعاداتنا الشرقية، والتي أغرقت أسواقنا وأذواقنا.اسدلت الستار على المشهد الثالث والأخير، ومرت دقائق ولم ينقطع التصفيق الحار من جمهور المسرح، الذي يتكون من ستارتين ومنصة خشبية عريضة استعرتها من صديق، وساحة عرض قديمة مهجورة كافأت الحارس لأجلها على أن يكون العرض ليلا، دخلتها خفية أنا وجمهوري المكون من خمسة أصدقاء وامرأة شابة جاءت إكراما لدعوة زوجتي. رغم أني زوجتي رأيتها قد تسللت خفية لمشاركة أخواتي في مشاهدة الحلقة الثالثة والتسعين المعادة من المسلسل التركي!
ولذلك قررت أن أهدي هذه الأقصوصة لزوجتي.
انتهى.
ــــــــ هامش ـــــــــ
1- أي من السحب، والسحب يجوز فيها الوجهان: التذكير والتأنيث، وكلا الوجهين في الكتاب المجيد.
2- -يقال أرض معزوزة أي أصابها المطر، والعز هو المطر الشديد, وأعزها أمطرها مطرا شديدا.
3- البيت للأعشى في ديوانه صــ 413ــ ، انظر المعجم المفصل، يعني بات ملتحفا بأوراق شجر رقيق يستعين بها على دفع الصقيع، وظاهر جلده في الماء والطين فماذا يفيد؟
4- يقال: امرأة قسيمة أي جميلة.
5- الرَّخْصَة: الناعم من كل شيء، ومن المرأة بشرتها ورقتها. (العين المنسوب للخليل).
YOU ARE READING
زائرة في ليلة ممطرة
Short Storyإنها اقصوصة تجسد الصراع الذي يعانيه الكاتب ذو المبادئ، فهل يخضع لوساوس الناشر أم يبقى حرا مستمسكا لمبادئه؟ يبدو أن الأحداث لها اختيار ثالث هو ... لنر