فحبيبةُ قلبك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان
ما أصعب أن تهوى امرأةً يا ولدي ليس لها عنوان
"قارئة الفنجان، نزار قباني"
تغرب عن اهله في سبيل حبه لها، يسمع موسيقاها فيذوب عشقا، يتردد على المكتبة كثيرا من اجلها فقط
امينة المكتبة نسائم عازفة الجيتار بالفرقة المحلية يسمع عزفها فقط ويميزه من دون الأصوات على الرغم من وجود الكثير من العازفين، الا ان عزفها يخترق مسامعه ويستقر بقلبه وكيانه، يذكرها في اليوم التالي بمعزوفتها فتتعجب لذلك، كيف له ان يعرف معزوفتي فقط!!
في الصباح يذهب للمكتبة للقراءة والبقاء بالقرب منها، ليس لديه عمل انه مشغول بها كثيرا، يراها بعين قلبه ولا يرى أحدا سواها يكن لها كل الحب وكل الاحترام، لم يصرح بذلك خوفا من فقدانها وهي نسيم الفؤاد ولكن ما يوقر في القلب تكشفه السريرة مهما اجتهد صاحبه في التكتم وعدم البوح، وخصوصا لهذه الفتاة فائقة الجمال فائقة الذكاء عيناها الواسعتان كأنما عين سحرية كاشفة لما يضمر، يشعر بانها تعرف مقدار حبه وتعلقه بها، ربما تبادله بالشعور ولكن هي مستمتعة بصمته.
ولأنه غريب في المدينة فقد أصيب في حالة من الفقر المدقع وكان يطلب من والده ارسال بعض المال، ولكن كان يتأخر عليه دائما مما اضطره الى العمل وابتعد عن نسائم وعن المكتبة والنادي لمدة عشرين يوم، ليعمل عتالا في احدى الفنادق ليسد رمقه، فما كان من نسائم الا ان تقلق عليه وبدأت تسال عنه حتى عاد فعادت اليها الروح وعاد الامل
- ما رأيك يا بابلو ان تتعلم العزف؟
- امنية حياتي ولكن كيف وأين؟
- اسمع انا لا أستطيع ان اعلمك لأني كما ترى مشغولة من الصباح الى المساء ولكن ما رأيك ان ارسلك الى معلم هو ليس مجرد عازف بل هو حكيم وستتعلم منه العزف والحياة وكل شيء تقريبا
****
ارسلته الى رجلٍ كهلٍ بعيداً عن مركز المدينة في أطرافها على بعد 40 ميل من الساحل وكان رجلا وقورا وهادئاً، ومن حوله رأى بابلو التلاميذ من مختلف الاعمار، أدرك بابلو حينها انه معلم روحاني، وذهب اليه وقال له انه مبعوث من قبل نسائم
- اوه، اهلا بك يا فتى، تعال اجلس بهدوء وانظر الى تلك الصورة، لا تفكر في شيء.
لم يكن من بابلو الا الانصياع لما يريد المعلم، وجلس مقابل صورة للشمس، ليس فيها شئٌ الا قرص الشمس، بدأ ينظر ولكن أصابه الشرود وبدأ يفكر بمستقبله وبنسائم انها اكبر منه بعشرِ سنوات وهو لا يزال في التاسعة عشرة، انه خائب لم ينجح من الثانوية حتى، وترك اهله يسافرون وبقي في مكانه ينتظر نسائم، ولكن هي تجربة فريدة من نوعها، انه عند نسائم يشعر بانه يملك الدنيا كلها، عندما يسمع موسيقاها يرفرف بدون جناحين، يحلق عاليا، وعندما يذهب للمكتبة يراها صفو الحياة، وتختار له الكتاب فيقرأ لأجلها فقط، لكي يكون بجانبها، كل وقته بجانبها هو في حالة من اليقظة والوعي والحرية انه عشق هذه التجربة، يفكر في قرارة نفسه "ان هذه التجربة لن تتكرر، ان نسائم لن تتكرر وهذا اللحظات كذلك"
عندما جلس امام صورة الشمس شعر بانه بعيد عن نسائم فراودته الهواجس وبدا يفكر بمصيره وبها والا انه عندها لا يفكر بشيء الا بها، هو عندها بحالة وعي تام، يستنشق بمليء رئتيه أعذب الهواء ويسمع ما تعزف وتقول، ويقرأ ما تختار، انه في حالة تلاشٍ تام بجوارها
جاء المعلم فوجد بابلو سارحا بالأفكار ولا ينظر للصورة كما طلب منه
- ما لك يا فتى لا تفعل ما اطلبه منك؟ انت الان تلميذ ويجب ان تفعل ما يقوله المعلم
- انا اسف يا سيدي، لقد سرحت في افكاري
- انظر يا فتى، انظر للحظة، بدون أفكار، انظر فقط للشمس، هيا...
في اثناء التوجيه كان ايحاء من المعلم يشبه التنويم المغناطيسي، توجه الفتى للصورة وضاع فيها، انه الان في حالة من الضياع، انه مرتبط بركنٍ وثيق، يشعر بالخفة، بدأ شيئا فشيئا ينتقل من مكانه ويرتفع.
- انني امنحك إمكانية الضياع خلف الانا، انني ارجعك طفلا، بل اعود بك الى الارحام...
- ونسائم يا سيدي؟ قالها بشيء من الرقة والبراءة قالها بنبرة طفولية
- انها فقط نسائم، هي غير حقيقية
عندما سمع جواب المعلم كأنما كان في حلمٍ جميل وصحا منه او كأنه سقط من اعلى، كان خاضعا تماما لإيحاءات المعلم، ولكنه عندما سمع انتفض وخرج من المعلم راكضا حافي القدمين، بدا يقول عن المعلم "انه مجنون، هذا المعلم مجنون"
وعندما وصل الساحل ليبحث عن نسائم لم يجدها وحين سأل عنها لم يجبه أحد حتى شك بانه بقي عند المعلم سنين طويلة ولكنه بدا يلح في السؤال فلم يجد دليلاً اليها، بقي في حالة من الذهول والضياع، انه الذي تغرب عن اهله وترك الدنيا كلها لأجل نسائم يجد نفسه الان بدونها انه في حالة من الضياع التام
عشق التجربة عند المعلم ولكنه فقد تجربة أعظم لقد فقد نسائم.
سينتظر لشهور عديدة من دون جدوى، سيرجع الى اهله ويعيش بينهم، سيراوده حلم نسائم، سيعيش لحظات سرمدية اشبه بتلك التي عاشها عند نسائم وتلك اللحظة الغريبة عند المعلم، اللحظة التي شعر بأنه متصل برحم الكون ويلفظ فجأة خارجها، سيعود يبحث عنها وعن المعلم ولكن هي نسائم عذبة وعليلة.
22/6/2019