ابتسمتُ باتّساعٍ ناظرًا للدَرَج الذي أقفُ أنا بأعلاه، بحقيبتي الرّمادية ذات ماركة "نايك"، بنطاليَ الجينز الداكن، قميصي مفتوح الأزرارِ من أعلاهُ، وشعري الأسود المسرّح بعناية للخلف. وضعتُ كفّي المبسوطَ على صدري وانحنيتُ كمن سيُقدّمُ عرضًا، ثمّ هويتُ، من أعلى الدَرَج، سريعًا كالنّيزك، ثلاثًا ثلاثًا مُحدثًا الصّوتَ المكبوتَ لارتطامِ أخمصِ قدميّ بأسطُح الدرج، وارتجاجِ عظامي. بعدها ضحكْت بِلا سببٍ بعدَما وصلتُ للأرض فاردًا ذراعَيَّ ومحلّقًا.
استقبَلني، أسفل الدَرَج، أخي الذي يكبُرُني بثمانية أعوام باسمًا: "من قد يتصوّر أنّ هذا البهلوانيّ ذاهبُ لإجراء جراحةٍ لركبتيه؟"وصمتَ مفكّرًا، ثمّ استأنَف:"إن كانتْ هذه حالتُك، وأنتَ عليلٌ، فكيفَ بحقِّ الله تصيرُ بعد علاجِك؟" ورماني بنظرةٍ مرعوبةٍ، فانتفضتُ ضاحكًا "ربّما أقفزُ بين القارّات عندها!"وضحك.
لمْ أعلم عندها، أن تلك القطرة المركّزة من السّعادة، في مساء ذلك اليوم، كانتْ بتلكَ السُمّيّة، لم أتصوّر، ولا بمقدار ذرّة، أن ذلك كان أقصى ما قد أشعر به من سعادةٍ في حياتي التي انتهتْ قبل بدئها. لم أعلم أيّ بؤس كنتُ بصددهِ، وأيّ ثمنٍ سيتوجّبُ عليّ أن أدفع، لقاء شيءٍ لم أعلم عن توابِعِه.
لم أعلم بهذا بحقِّ الله، لذا، أفَلا أُمنَح فرصة أخرى، بعد؟
بعدَ أسبوعٍ رفعتُ رأسي ناظرًا للغرفة الكئيبة على بياضها،
كنتُ أنظُر بوُجوم للأسفل، نحوَ قدميَّ، لم يكُن تحتهما درج، لم يكُن تحتهُما سوى مسند الأقدام في الكرسيّ المتحرّك. كانتْ تلك الدرجة الصغيرة، الوحيدة، مرعبةً ومثيرة للغثيان أكثر من أي شيء آخر.سمعتُ صوت تكّة البابِ واننزلاق المزلاج، تلاهُما صوت الخطوات لأناسٍ كثُر. وعندما نظرت للقادمين، رأيتُ،بقلبي، وُحوشًا بيضاء بمشارط. لم أرَ وجهي عندها، أحسستُ فقط بمعالم التقزّز تغشى كل شبر منه. توقّفوا أمامي بلا ملامحِ أسفٍ، واعتذروا. شرحوا واستعرضوا ما بأجوافهم ملئ أفواههم، وانتظروا أن أنطِق. لبثتُ لحظاتٍ طوال أحدّق في اللاشيء من خلالهم. وعندما اختنقتُ من وجودهم، فتحتُ فاي ورمقتُ ملامحهم الملهوفة للصفح، وبصقتُ دعوة على طرفِ لساني:
"يبّس الله أقدامكم."كززتُ على أسناني لحين مُغادرتهم، استغرقَ أحدُهم وقتًا أطول مُحدّقًا بي، لكنّه ما لبثَ أن ذهب، وعُدتُ أنا من تقزّزي لوُجومي.
من أجل ماذا بحقِّ الله أصررتُ على إجراء هذه الجراحة؟ لأجل أي شيء في الأرض تخلّيتُ عن بهجتي وأحلامي المؤجّلة، وسرتُ كشاةٍ لحتفي؟ أيّ طمعٍ في حالٍ أفضل أرداني طريحَ هذا المنفى المتنقّل؟ لماذا لم يقُم بعمليّتي طبيبٌ آخر؟ لماذا تحرّك المشرطُ باتّجاه عصبي الحركي؟ لماذا لم يتحرّك سنتيمترًا واحدًا بالاتّجاه المُخالف؟ ولماذا كنتُ أنا، من بين آلاف من أجروا هذه العمليّة، أرقدُ على سرير غرفة الجراحات عندها؟ عضضتُ شفةً عندما وصلتُ لهذه النقطة، وكسرتُ ظفرًا.
لم أبكِ مذ تحوّل حالي، لم أملك القوة للاستيعاب، ولا البكاء. لم أشعر سوى بانعدامِ الجدوى. كلّ شيء صار معدوم الجدوى ولم أعُد أعلم لماذا يدخل الهواء لجوفي النّازف، ولأيّ عذر يخرج. أحلامي التي لم تكُن أحلامًا، من فرط بساطتها، صارت الآن بعيدة للغاية، أبعد من القارّات التي كان يجبُ أن أقفزَ بينها. لم احلُم بغير تجربة الحياةِ الجامعيّة، وأن أفوز بمسابقةٍ ما، وأن أشربَ القهوة في ركنٍ ما من مكتبةٍ في صباحٍ باكر، وأن أكون قادرًا على القفز في الدَّرَج، أربعًا أربعًا، فلمَ تبدو كل هذه الأشياء البسيطة بذلك البعد الآن؟ ولماذا، إن جئتُ أتخيّل نفسي أقرَبُها، وجدتُ مشرطًا ويدًا شاحبةً تقطع المسافة بيننا، فأسقُطُ أنا، وأحلامي، خرقةً بالية؟
ومضَتْ أيامي، هازئة، تُخبرني أن عجزي عن المضيّ لن يوقفها. مضَتْ وأنا بوُجومي وعينيَّ المنطفئتين، وجسدي الذاوي، أجلسُ على مقعدي المتحرّك، الذي لم يتحرّك من أمام النافذة، ناظرًا للأسفل، لضَعفي، للارتفاع الإسمنيّ الذي لا يتجاوز نصف المتر، والذي يفصلُني عن هروبي من هذه المهزلة غير المعقولة. مُستشعِرًا استحالةَ فعلي لذلك، ومستحضرًا عجزي بما أوتيتُ من قوّة.
تمّتْ، على حينِ غرّة!
في الثّامن عشر من يونيو، ألفينِ وتسعة عشر.
أنت تقرأ
منفى | Exile
Short Storyلمْ أحلُم بغير القفزِ على الدّرج؛ أربعًا أربعًا.. فكيفَ بحقّ الله آلَ الأمرُ لهذا؟ #الأخطاء_الطبّية