~ وحيدة جداًّ ~

25 6 3
                                    

إنها الحادية عشر و تسع دقائق، بتوقيتٍ ليلي مفعم بالعزلة، أضأتُ شمعةً صغيرةً برائحةٍ ليلكية، كانَ نورها خافتاً وشذاها خانقاً، في تلك اللحظة، كلُّ ما بي يندفعُ إلى الكتابة، لكن الأوراق تتطايرُ هرباً من أمامي، ولا طاقةَ لدي على إمساكها أو اللحاق بأفكارٍ تُكتب، جلستُ مُتكئة على فراغي، رحتُ أتأملُ لوحةً أمامي بألوانها القاتمة، كانت تتحدث، أنصتُ أكثر وحدقتُ بها ملياً لأتأكدَ مِن حدودِ هذياني، ولم أعِرها اهتماماً، إذ تمنيتُ لو كانت شخصاً ما، غائباً أو قريباً، فيجردني من اللا شيء الذي يحتويني ..
اقتربتُ مِن النافذةِ ليسعفني نجمٌ قمري، لكن السماء شاحبة جداً، أيعقل أن يتآمر الكون على حزنك؟
تساقطت أمامي ورقة، والحبر مازال مستقراً في يدي، وكتبتُ بنهمٍ دون العوز للتفكير :
"أنا وحيدة، وحيدةٌ جداً، ولا أقصدُ مسمى الوحدة المشاع، لقد حالَ كل شيء إلى أسوءِ ما يكون، السماءُ خالية، الأرضُ خاوية، سقفُ الغرفةِ منخفض، وجدرانها كادت تتطابق، لا ضجيجَ في الخارج، لا قدرةَ لشمسٍ على احتواءِ ذاك الظلام، والعواصفُ تنهشُ حدودَ الفراغ..
لذا أنا مُبعثرةٌ أبحثُ فيَّ عن أجزاءٍ هائمةٍ فلا أجدها، أصرخُ كثيراً كلَّ ليلة، وأثقُ أن ما مِن أحدٍ سيفزعُ لنجدتي وسطَ هذا الفراغ كلّه..
تتساقطُ الأمطار بعنفوانٍ لا يُحتمل، تطرقُ جدران غرفتي ونافذتها بفزعِ الهارب من رصاصِ الحرب، وخوفي بقدرِ السامع لرمي القذائف فوق الحي، أحاولُ الهربَ لكن أعود ألقاني في ذات النقطة، وكأنني لسنينٍ دون حِراك، فكلُّ الأشياء رغم اتساعها ضيقة، تشبهُ كرةَ الجحيمِ القابعة بين أكتافي، وتحمل أفكار باتساعِ فضاءِ الكون، كيفَ لجزءٍ بهذا الصِغر أن يضمَ ما لا طاقةَ لنا به؟!..
بعدَ تشتت قطعَ سُبلَ النجاةِ ، أجلسُ أمامَ المرآة غايةً في أن أجدني، لكن هيئتي رثةٌ جداً، عينيّ غائرتان في دوامات عديدةٍ إثرَ حادثَ أرق، فكادت لا تُرى، أرتشفَ السُمَّ أعضائي فبدوتُ نحيلةً بشكلٍ مقزز، وملامحي فقدت دهشتها إثرَ البكاء، إنه بكاءٌ مفرطٌ غير معتاد، يداهمني بغتةً فلا أجدَ له سبب سوى الرغبة، يستمرُ لدقائق، لساعاتٍ وربما لأيام، حقيقة لا أدري، بفعلِ الأرقِ فقدتُ حاسةَ الوقت، يستسلمُ جسدي للنوم في الرابعة وتسعون دقيقة، ويستيقظُ في تمامِ التاسعَ و التسعون، أحلمُ بفرطِ أفكاري، بكلِّ شيء واللا شيء! أكونَ بكاملِ صحوتي، حد اختلاسِ اللمسات، استنشاق عبير المكان، عناق أحدهم، وسخط آخر، أشعرُ بكلِّ الأفراح و الأتراح، ثم ما بينَ هذا الخراب أفتحُ عيناي بتعبٍ، فأجد سقفَ الغرفة الذي دنى مني، ولا أدري أي الجحيم أقل وطأة، النوم أم الصحوة؟، يمضي اليوم بأكملهِ على تلك الوتيرة، فلا أرى شمساً ولا قمراً لا أعرف فجراً أو غروباً، وجسدي يصارعُ آلامه، رأسي يكادُ يقع لفرطِ ثقله ودواره..
ثم عندما أجدُ شيئاً من محيطِ الأشخاص، أتحدثُ إليهم كثيراً لكن الجميع يسمعُ كلماتي على أنها بلهاء، أشرحُ كثيراً عن حاجتي لمضادات الأرقِ والقلق، ويظنون أني أتوهم، وهذا ما يجعلني أعودُ لطاولتي، لحزنِ شمعتي التي ذابت من الوحدة، وأسألُ في قرارة نفسي، أيعقلُ أن يكونَ جلُّ ما يحتاجه المرء عناقاً طويلاً يتسربُ فيه آلامه، ويلملمُ به بعثراته، ويصححُ به دربَ عثراته، ثم لا يجد؟!"

~ خربشات ~
رأيكم ؟ ..

You've reached the end of published parts.

⏰ Last updated: Aug 14, 2019 ⏰

Add this story to your Library to get notified about new parts!

تائهة ~Where stories live. Discover now