لم تكن لدي أدنى رغبة في العودة إلى موطني مرة أخرى، هذا الوطن الخَرِب الذي سئمت تفاصيله بكل ما فيه، فقر مُدقع، وجهل مركب، وانحطاط أخلاقي تفشى في المجتمع كالطاعون، واستشرى في كل أنحاءه كورم سرطاني عجز الطبيب عن اكتشافه في مهده، وفشل في علاجه أو كبح جماحه، ثم أصابه اليأس فتوقف تماما عن مداواته!!
لم يكن في الإمكان شيئا غير الذي كان.. مر الوقت سريعا وانقضت سنوات ابتعاثي إلى الخارج، وذلك لدراسة أمراض المخ واﻷعصاب في جامعة نورث كارولينا اﻷمريكية.
خمسة أعوام كاملة.. كانت كفيلة بأن تبدد كل شيء تعلمته فيما سبق قبل مجيئي ضيفا مُكرّما إلى بلاد العم سام.لا أخفيكم سرا، فأنا من سمحت لعوامل الزمن بأن تطمس هويتي، أردت لها أن تزحزح قدماي ناحية الغرب، أن تقتلع جذور الجهل والتخلف التي كادت أن تفتك بي، ليحل محلها غرسا جديدا من العلم والرقي والتقدم الحضاري!
ولكن لم يعد هناك مفر.. حان الآن موعد عودتي إلى مسقط رأسي بأحد أحياء القاهرة الكبري، بعدما فشلت كل محاولاتي في البقاء بعيدا عن فوهة الخَبَل، وعجزت عن حل وثاقي من قافلة العائدين..!
جلس الزملاء على مقاعد الطائرة يتبادلون الضحكات، ويستذكرون الخرافات واﻷساطير الشعبية، بينما بقيت وحدي بعيدا أُعد نفسي لمثولي بين يدي والداي.
أفكر في إجابات محكمة لتساؤلات أبي عن سر تجاهلي لخطاباته المتكررة، ونداءات أمي بين الحين والآخر، التي تحضني على الهرب من الغربة والعودة إلى موطني للبحث عن بنت الحلال..!!
حسنا.. هاقد وجدت الرد القاطع الذي سيجبرهما على غفران خطيئتي والكف عن لومي وتوبيخي.
ألا يكفي ما وضعته في حسابكما البنكي من مال خلال الخمس سنوات الماضية.. خمسون ألف دولارا ربحتها من عملي الإضافي أثناء دراستي، أليست كافية لإنهاء الجدال، وتبرئتي من أي تهمة في تلك المحاكمة.الواحدة بعد منتصف الليل، رحت أطرق الباب مرة تلو أخرى، ولكن لا أحد يرد.
وسط الضوء الخافت خرج أحدهم من الشقة المجاورة، ثم نظر تجاهي وقال: دكتور رائف...؟ أنت الدكتور رائف..؟! مرحبا يابطل..!!
أجبت دون سؤال عن اسمه: مرحبا يارجل.. ثم واصلت حديثي بلكنة عربية فصيحة: أين والداي ياجارنا العزيز.
طأطأ الرجل رأسه ناحية اﻷرض وهمس قائلا: ماتوا من سنين.. كان نفسهم يفتخروا بيك وانت راجع من السفر، ومتخرج من أكبر جامعات أمريكا.شعرت ببعض الحزن ثم قلت: حسنا.. هل لديك حل لهذا القفل الصدء؟
انطلق الرجل بسرعة البرق، ثم أطل بعد خمس دقائق وثلاثون ثانية، يحمل في يده مطرقة ثم قال: ابتعد قليلا دكتور رائف.
لم يصمد الباب طويلا على وقع طرقاته، وكأن الوهن قد أصابه جراء وحدته!
استيقظت من نومي مبكرا، ثم توجهت لإلقاء نظرة على قبر والداي، بعدها مباشرة توجهت إلى المصرف للاستعلام عن رصيدهما فوجدته كما هو، خمسون ألف دولارا كاملة، بل زادت أكثر من ذي قبل.. تُرى ما اﻷمر الذي دفع أبواي لعدم استلام النقود؟!