أنين القلب

683 137 400
                                    

...

صرخات كثيرة من هنا وهناك، نيران ودماء تملأ كل مكان وكأن يوم الحشر قد آن دون سابق إنذار بالأوان، تهرب بلا دليل نحو رب جليل.

فقد سدت كل المنافذ والطرق، وملئت الأرجاء بشظايا الحطام والجثث، والنار الظالمة تلتهمها بلا رحمة وتتأجج في أوصالها.

لتبعث في نفسها الخوف والرهبة فتهرب الموتة الصغرى عن مقلتيها اللتين سهرتا ليال من الأرق والتوجس والقلق.

وكيف كان للنوم أن يزور جفونها المتهالكة والوحوش الضارية قد تباغتهم فجأة؟ كذلك كما فعلوا الآن بالفعل، فسيوفهم المشتعلة طعنت نفوسهم التي نهب الدهر عنها الإحساس بالألم.

لا يسعها إلا البكاء بحرقة عزاء لمن سبقوها وحسرة على قدرها الذي كتب بدماء الحرب، ليكون ماضيها المفزع الذي ولى، وحاضرها التعيس الذي تعيشه الآن.

وحتى مستقبلها حالك الظلمة الذي ستسير بين جنباته لاحقًا وأبدًا، وعلى طرقاته الوعرة المسيرة بالأشواك المسننة التي ستنغرز في صميم فؤادها فيرتد صريع الأسى.

إنها مِريانا ريداس، الطفلة الشامية المتشردة، ولن ننسبها لأي بلد فلم يبقَ للبلدان الماضية إلا أطلال أسمائها على الخرائط فقط، وزهقت أرواحها وكيانها في الباطن منذ الأزل.

فقد فقدت اعترافها من قبل الشعب، أصبحت راية للوحش وذخيرته لا مؤونة للقطيع المحاصر لتقويه على شتاء القدر، أصبحت جحيمًا يفرون منه إلى الله لا مأوى يحتمون به من شياطين الإنس والجن.

مِريانا التي هربت من مدينة لمدينة، من بلد يأكل نفسه بنفسه، يتآكل من الداخل دون حاجة لمحفز خارجي رغم تفاعله أصلًا، حاربت هذه الصغيرة وغيرها من أمثالها مع أسرهن الذل والخضوع للإحتلال الذاتي لسنوات مديدة.

لكن القدر الحاقد كان يلاحقها طوال حياتها الكئيبة ولم تسلم منه ولو لدقيقة بل حتى لثانية، وهي ملقاة على الأرض كجثة بلا روح، هامدة ساكنة ولهب النار يتطاير من حولها في كل اتجاه.

شعلته تهيج لتلسع روحها بمرارة، التي كانت كشعرها الناري الأشعث، كانت قد حوصرت تمامًا فلا اتجاه سالك لتنفذ منه، ولا أمل يلوح في الأفق لتستمد منه فتيلًا يحثها على السعي للنجاة.

جسدها الساكن كان متجمدًا ومغروسًا في مكانه، محاطًا بذلك الصقيع البارد والذي كان فيما مضى جمرة من دفئ حنون ولكن الآن غادرت شرارة تلك الروح وبقي الجسد كذكرى كابوس مؤقتة ستتحلل هي الأخرى وتزول إلى الأبد.

جسدها الوحيد الذي ينبض في صدره ذلك القلب المجروح، جسدها الذي توقفت عليه لحظة الوقت فقد سلمته للموت قبل أمد طويل وقد حان الأجل لتوافيها المنية هي الأخرى.

نفحات روحها تلاشت منذ الأزل بل احترق رمادها الخامد ثانية حتى واشتعل بشجن منفعل بعد أن تلاقت نظراتها مع عيون والدها المصدومة من الموت المفاجئ.

من الدمعة اليتيمة التي تدفقت من ذلك النبع المالح لآخر مرة وحطت بكل مشاعرها المكبوتة على بشرة صغيرته التي استقبلتها بشلال من الدموع لا دمعة واحدة، فقد كان والدها هو الدرع الحامي لها من هذا الاغتيال.

لقد وفى بواجبه الأبوي حتى آخر رمق ومات في سبيله، لكن الآن بقيت لها شمعة واحدة فقط من أمل النجاة، قد يحركها نسيم الفرج لتشعل فتيل الشموع الأخرى، فهل سيرضى القدر ويكتب لها النجاة ويحفرها في كتاب الأجل المتحجر؟

كان هذا أنين قلبها الدامي يبوح بأسرار معاناته للكون حوله، وهي تحارب سكرات الموت والاحتضار على بقعة منه، بدأت روحها بالخروج رويدًا رويدًا لتتجمد أطرافها الحافية.

تراءى أمامها ملك الموت قادمًا من بعيد، لكن كان هناك شعور خفي داخلها يدفعها للمقاومة، لن تضيع تضحية والدها سدى، لهذا طردت اليأس وصفعت الباب في وجه الموت.

قامت مسرعة رغم آلامها الشديدة وجروح جسمها الشبه عاري الذي لا يزال ينزف، أزاحت جثة الغالي عنها ورمقته بعينيها المخضرة كخضرة الهلال الخصب وطنها الحبيب.

تحسست بشرته بوجل وشلال دموعها لم يجف بعد وأما الشهقات فكانت كالسكاكين علقت في حلقها عاصية عن الخروج وآثرت الكتمان على البوح وكسر همة مطلقها، فالآن ليس وقت البكاء والانهيار بل المضي والجريان مع المسار، مسار الحياة والأقدار.

تلفتت حولها لترى بقية الفاجعة، الفصل الثاني من المأساة والمنظر المفزع الذي لن تنساه حتى بعد مماتها، أفراد عائلتها كلهم كانوا صرعى على الأرض، بل وكأنهم عصروا في خلاط، خلاط الكون.

البعض منهم تناثرت أشلائه بالقرب من رأسه، ورجله هناك والإصبع في زاوية أخرى، حتى دميتها دِيبي التي اشتراها لها والدها في عيد ميلادها العاشر لم تبقَ كتلة واحدة.

جيرانها وأصدقائها لم يسلموا أيضًا من ذلك الانفجار المروع الذي باغتهم على حين غفلة منهم حين تجمع الجميع لتوديع ضحايا جنود قريتهم، شبابها الذين عادوا من جبهة القتال.

لكن عادت أشلائهم أو أجسادهم المشوهة فقط، أما أرواحهم فلم تعد جزءًا من هذا العالم، لكن هؤلاء الشجعان الشهداء أحضروا معهم الموت أيضًا لباقي أفراد قريتهم.

لتصبح جنازة لقرية كاملة أبيدت عن بكرة أبيها، ولم يبقَ غيرها هي الشاهدة الوحيدة على هذه المجزرة لذا كادت أن تخور قواها مرة أخرى وتقع هذه المرة صريعة بسبب علة القلب لا الجسد.

لكنها أغمضت عينيها بقهر عن تلك اللوحة الدموية، لتفر منها دمعة حارقة، هل ستكون أنانية وقاسية إن قررت النجاة لوحدها؟ لكن، لكن هم قد رحلوا بالفعل بلا رجعة ولا أمل بعودتهم، لكنها ستكون الأمل والبذرة التي ستنمو وتزهر في أرضٍ جديدة.

لذا عزمت مِريانا على النجاة، فقد منحها الله نعمة البقاء والبقاء للأقوى دائمًا، لذلك شيدت جبال الهمم مرة أخرى ومضت مسرعة وهي تركض بين النيران الهائجة غير ناظرة للوراء بل إلى الأمام فقط.

هذا لأنها تريد أن تعيش وتثبت لنفسها وللعالم بأجمعه أنها قوية لا تنصاع للاحتلال الجائر، وأنهم لن يقدروا على كسر جناح أحلامها، وأنها ستصل يومًا للقمة وإن كثرت أمامها المعوقات.


سيأتي يوم يعيشون فيه بسلام دون حروب وقتال، سيأتي ذلك اليوم إن أبقوا على شمعة الأمل مشتعلة بوقود السعي والمثابرة وواصلوا الجهاد والعمل بغير استسلام.

ركضت لساعاتٍ وساعات، سقطت خلالها كثيرًا وجرحت بذلك بشرتها الشاحبة التي اسمرت من لسع النيران بعد أن كانت بيضاء مخضبة بالدماء، لكن كان السعي وإكمال المسير هو الفكرة الوحيدة التي تجول في ذهنها رغم جهلها بالمسعى الأخير.

وبعد جهاد لساعات وجدت نفسها في مكان آخر بعيدًا عن تلك الهاوية، فقد اختفى هياج تلك النيران وزئيرها، لم تسمع سوى زمجرة الريح التي تعصف بالأشجار وبعدها ظلام دامس ووقعت مغمى عليها.

لا تدري كم مضى من الوقت، فبعدما أشرقت ماستيها من جديد وجدت نفسها بعدها في خيمة صغيرة لعائلة فقيرة أسعفتها فور إيجادها لها في الغابة التي كانوا يبحثون عن الطعام فيها.

طلبوا منها البقاء معهم إن أرادت ذلك فقد كانوا متعاطفين معها ومسالمين، وكانوا بحاجة لها أيضًا فالأم كانت مريضة ولا تقوى على خدمة عائلة من أربعة ذكور لوحدها.

وحتى أنه كان لهم ابنة أكبر منها ولكن الحرب اغتصبت الحياة منها وتركت الأم مفطورة الفؤاد عليها فكانت مِريانا بمثابة مواساة من الرب لها.

كانت مِريانا في مفترق طرق بين خيارين، إما أن تصبح فردًا من هذه العائلة أو تعيش وحيدة في المخيمات القريبة من الغابة والتي هي ليست دائمة حتى.

اختارت الأكثر أمانًا لها وهي هذه العائلة الفضيلة، وربما تكون هذه بشارة خير أو تعويضًا من الله لها على سبق من آلام ومصاعب، ونعمة بعد نقمة أودت بحياة أحبابها وسلبت منها حلاوة الحياة.

ستمضي بقية حياتها مع هذه العائلة الرحالة، أينما تجد الأمن والرزق ترتحل إليها بل هم في صدد السفر إلى ما وراء البحار واللجوء إلى الدول التي تسببت بكل هذا الدمار، لكن أمام الحرب لا خيار، وهكذا كان اتخاذ أصعب قرار.

لأنها تعلم أنه إذا بقيت هنا، ففي يوم من الأيام ومرة أخرى سترى هؤلاء صرعى حولها أو يروها هي بتلك الحال أو يصادفوا مصيرًا واحدًا غارقين في مستنقع من الدماء.

فالحرب لم تنتهِ وستظل تطاردهم، وأينما وجد الخير تبعه الشر إلى أي مكان، فقط تدعو الله القدير أن يجعل من بقية حياتها أكثر سعادة ومفعمة بالأمل والخير لها في الدنيا والآخرة.

فهي لن تتحلل وتنسجم مع الغرب أبدًا بل ستظل تذكر أنهم كانوا السبب في هذا الحال، وستتمسك بتعاليم دينها وبعادات أهلها وأجدادها ولن تركع أمام ترهات الحرية الشخصية والانحلال.

وربما يومًا ما حينما يحط حمام السلام على أشجار الشام، ويكتب الفتح لأرض العرب والإسلام، تعود مجددًا إلى الديار، تعود إلى أحضان الوطن وتنجو من الغربة والتشرد بين البلدان، تعود إلى حيث كبريائها وكرامتها وأنسها الملتاع.

ارتسمت ابتسامة هادئة على ثغرها وانمحى ذلك الوجه العبوس، فقد قال الله تعالى:(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).

لذلك مضت في درب الحياة مع هذه العائلة الطيبة دون حبس نفسها بين صفحات الماضي، طوت تلك الذكريات السيئة ورمتها في بئر النسيان، فالحياة لا تتوقف على أحزاننا.

لذا لنقهر الاحتلال بابتساماتنا العذبة وصمودنا الجبار في وجهه، ونذل الحرب بوقوفنا الشامخ رغم المحن، فأنت نفسك إما الداء أو الدواء لهذه الابتلاءات والنقم، وبيدك الخيار.

إما أن تبصم بنقطة الختام على صفحة قدرك أو تستمر بالكتابة إلى أن يشاء الرحمن، وتحلق نحو جنان الفردوس، حيث أهلك وأحبائك في انتظارك على أحر من الجمر، حيث هم لا يزالون عند نقطة النهاية، لتشرق على دنياهم كفصل جديد يتمم أحلامهم الماضية الباقية على أرض الأحياء 

...

النهاية

....

مرحبًا أيها القراء الأعزاء
قصة قصيرة بمضمون الحرب
أرجو أن تنال إعجابكم

تقييمكم للقصة من ١٠؟

في أمان الله
مع السلامة^-^♡

 سجينة الحرب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن