نور وقطعة الشيكولاتة
طفلة صغيرة تتراقص في الطريق تحمل على وجهها ملامح قسوة.. تعبر الطريق أمامك، ولا تعبر..تظل تتراقص بين العربات في قسوة وعنف.. بندول متحرك وهي تمد يدها للمارة بعلبة المناديل.. تتابعك بعينيها المتسعتين، وقد غطى ملامحها الطفولية شيء من الغموض، وكأنها قادمة من عالم آخر..تتعلق عيناك بها لثوان، ثم تتركها؛ لتكتشف أن هناك شيئاً يحدث بداخلك..
تتعلق بك في روحتك ومجيئك، تجد ظلا لطفلة تتشبث بملابسك، تحاول أن تفر منها، ولكن تلاحظ أن الإلحاح شيء من طبيعتها، برغم سنواتها التي لم تتجاوز الخمس، ولكنها كأنما جبلت على الحياة دون قصد.. وكأنها تعرّفك جيداً ما تفعله..
تمد أنت يدك في جيبك، تتحسس أوراقاً مالية ضخمة، تبحث عن فكة وسطها، تجد نصف جنيه أصابه التمزق، تعطيه لها وتنصرف.
تلمحها تتباعد؛ لتتشابك يدها بملابس آخر يعبر الطريق، وهي تمد يدها بعلبة المناديل..
ترى في عينيها ـ ووجهها الذي بدأ الشحوب يرسم معالمه عليها ـ نوعاً من التمرد على الدنيا.. ترسم في خيالك صورة لها في المستقبل..وتتمزق أمعاؤك..
بعد فترة ولمكوثك الدائم بالقرب من مكان تواجدها، تتعوّد عيناك على رؤيتها، تفتقدها أحياناً.. تبدأ تضع في جيوبك فئات صغيرة من العملة تحسباً للظروف، وفي جيب جاكيت البذلة تضع قطعة كبيرة من الشيكولاتة.. بعد فترة تبحث بعينيك عنها، تحاول أن تتقرب منها، ولكن نصف الجنيه الأول الممزق أعطاها إحساسا بأنك غير عطوف..
تهرب هي من طريقك، وقد ترميك بنظرة متنمرة.
تحاول أن تبدو إنسانا تقترب منها، تضع في يدها عملة ورقية كبيرة، وتخرج من جيبك قطعة الشيكولاتة؛ لتمدها إليها، لا تهتم بالعملة الورقية، تنغرس عيناها في قطعة الشيكولاتة، تأخذها بأصابع مرتجفة، تفتح ورقها اللامع، تقضم منها في تلذذ، تنظر إليها في فرح، ترى ابتسامتك، تعيد لك الورقة المالية في أنفة عجيبة،وهي تقسم القطعة نصفين، وتعطيك نصفها لتشاركها، تتوجس نفسك خيفة، وأنت ترى قذارة يدها.. ترى هي تلك النظرة الخائفة في عينيك، وتتنمر ملامحها، تلف القطعة في ورقتها وتدفعها في يدك.. تشعر أنك خيبت رجاءها، تنظر إليها في تسامح لا تعرف من أين يأتي، ثم تخرج قطعة الشيكولاتة من ورقتها، وتضعها في يدها مرة أخرى، ثم تأخذها من يدها وتقسمها نصفين، وتدفع النصف الذي يخصك في فمك وأنت تبتسم، تبدأ هي في استحلاب الباقي.
تعتاد مع الوقت وجودها بجوار عملك، تخرج تبحث عنها دائما.. تعرف أن اسمها نور..
أصبح باكو الشيكولاتة الفاخر أحد أهم الأشياء في جيبك، وكأنه هاتفك المحمول.. تمد يدك دوما تتحسس جيبك لتطمئن على وجوده..
البعض ينظر إليك متشككا أحيانا وأنت تقف بعربتك في الإشارة، وتفتح لها الباب لتدخل، تدلف بملابسها الرثة، يحتل جسدها جزءاً صغيراً من المقعد بجوارك، تدفع يدك في جيبك، تخرج باكو الشيكولاتة، تدفعه في يدها لتقسمه اثنين، وترمي الغلاف الفضي خارج السيارة، تقسمه بيدها؛ وكأنها تؤكد سيطرتها عليك، وتدفع لك النصف تضعه في فمك وتبتسم.. تشعر بنبع من الصفاء الداخلي لا تعرف من أين يأتي.
تتأمل وجهك في مرآة السيارة الأمامي، وتتأكد من نظافته جيدًا، تمد يدها بعلبة مناديل من التي تبيعها إليك وترفض أخذ ثمنها..
أصبحت العادة أن تقف بسيارتك في الإشارة؛ لتتناول أنت وهي قطعة الشيكولاتة في تلذذ غامض غريب، وسط استنكار البعض، ونظرات الفضول..
تمر الأيام، تجد أن التعلق بها أصبح غريباً جداً عليك.
لا تبغي أحيانا وسط ملل الحياة سوى أن تتطلع إلى وجهها الهادئ، الذي هربت منه بعض ملامح القسوة.
تبدأ يومك بإحساس مختلف.. تبتسم وتتذكرها، وتتذكر أن هناك شبه ميعاد بينك وبينها، وكأنها أصبحت من ثوابت حياتك، تتأكد من رابطة عنقك التي تشعرك بالاختناق، تذيل بعض الغبار العالق بالبذلة، وتضع عطرك الفاخر، وتتأمل وجهك، شعور بالانتشاء يشملك.
تشعر أنك تأخرت، تهبط في لهفة،تخرج بالسيارة مسرعاً، لا تريد أن تتأخر على ميعادها، تراها في الإشارة، تلمحها تتنطط بين العربات في سرعتها وشقاوتها، ترى هي سيارتك، تقبل مسرعة ـ وفي عينيها ألق رهيب وطاقة من النور مرتبطة باسمها نور ـ وهي تتراقص بين السيارات العابرة.
لا تنتبه هي للسيارة الفارهة التي تقطع الطريق بسرعة، تتسمر ملامحك على السيارة المسرعة وأنت تصرخ: نور.
تسمع صوت الارتطام كانفجار مكتوم ضرب جسدك كله، الذي انتفض بعنف، وقد طار جسدها الصغير في الهواء لأمتار قبل أن يرتطم بالأرض.. قلبك تتسارع دقاته بفزع.. ترى جسدها على الأرض ينتفض بعنف، تجري وتجري، ترفعها بين يديك تغرق الدماء بذلتك وعلبة المناديل، التي كانت تحفظها من أجلك.
ترى الناس تحدق فيك، ودموعك تغرق وجهك كله، تصرخ بانكسار رهيب، عندما ترى أنها فارقت الحياة.
يتوقف الزمن بك، تضع جسدها على الأرض وأنت تبكي .. تجلس بجوارها على الرصيف تبكي، وتبكي.
تمد يدك في جيبك لتخرج باكو الشيكولاتة، تتحسس جيوبك وتفتشها. لا أثر لقطعة الشيكولاتة، تكتشف أنك نسيتها.. ترى باكو المناديل الذي يخصك قد غرق بالدماء.
تزداد دموعك في الانهمار وللأبد.