هناك نوع بسيط من الجمال هو جمال الأشياء التى يصنعها البشر ، لا تحتاج إلى عين فنان ولا إلى لوحة لتلاحظ الأمر .. في كل مرة أصعد بسيارتي للمقطم ليلاً و ألاحظ تلك الأضواء الكثيرة الصغيرة في الأسفل حيث المنازل و الشقق البعيدة المضيئة أنوارها ، أشعر أنني أشاهد لوحة عشوائية اشترك في رسمها آلاف الأشخاص .. و يقطع تأملي تلك النشرة التى قطعت موسيقى مذياع السيارة أو الراديو كما نطلق عليه في العامية ..
عندما تكون في العام ٢٠٣٠ لا يختلف الأمر كثيراً عنه منذ عشرة سنوات
فقط تزداد حدة الشعوب و الحروب الأهلية ، لازالت الحرب الأهلية قائمة في إقليم شمال الصين الذي بدأ المطالبة باستقلاله منذ تسعة أعوام و الحرب الأهلية هناك . ولازالت الشعوب العربية المحتضنة للثروات تنزف في إضطراباتها .. إنه فقط صورة سيئة عن المستقبل الذي ترسمه أحلام الأطفال
و في مصر عادت قصة السفاح من جديد بعد أن وجدوا جثة في المترو قتلت بنفس طريقته ، كيف يتمكن شخص من قتل آخر في المترو الملغم بالكاميرات ولا يتعرف إليه أحد .. إنه عبقري ، أغلقت تلك النشرة الكئيبة و عدت أدندن مع نفسي ، و عدت لتأملي ..
إنه الليل في القاهرة و في منطقة المقطم الجديدة ، الليلة أنا أقوم بإفتتاح معرضي الثالث ، في برج السفير محي الدين و هو أحد الأبراج الحديثة البناء في تلك المنطقة و في الطابق العاشر ذلك الطابق كله و الذي يتسع لثلاثة شقق سكنية هو الآن معرضي لتك الليلة حتى أبيع جميع تلك اللوحات اللتي إستغرقني رسمها عاماً أو أكثر .. في الواقع لست أنا من أقوم ببيعها أنا فقط أرسمها و لقد ساعدني صديقي و مدير أعمالي فريد
بينما كنت أنتظر وصول طردي الخاص كنت أشاهد فريد يتنقل بين اللوحات و الحوائط في المعرض ، ذلك القصير الماكر ، إنه موهوب حقاً .. لديه موهبة في التسويق و إنجاز الأمور ، لا تستطيع أن تلاحظ أن ذلك المكان لم يكتمل تشطيبه فمازالت تلك الشقق قيد التعديل في البناء ، لن ندفع حتى إيجاراً لهذا المكان ، الأمر كله برعاية رجل الأعمال محي الدين و صاحب هذا البرج و عبارة عن إعلان ليرى الناس تلك الشقق و يقوموا بالبحث عن سعرها و شرائها كشراء اللوحات التي أرسمها
إنه الحصاد بالنسبة لي تلك الليلة .. أقف و أتنقل و أشاهد لوحاتي و المعجبين بلوحاتي ، كل لوحة استغرقتني قصة و سهرة و أفكار .. عندما أنظر إليها أكاد أراها تتحرك أمام عيني .. رغم كونها أفكار مؤلمة في أغلبها
كنت أتحرك في معرضي متوجها لأفضل لوحاتي في هذا المعرض لوحة سيدة الكابوس ، كانت هناك امرأة تقف أمامها متأملة تلك اللوحة كانت الوحيدة التي تقف عندها تقريباً بهذا البالطو الأسود الأنيق .. الجميل في أجواء نوفمبر أنها في مصر أجواء خريفية .. حيث تجد الإبداعات في الملابس بين الأشخاص
هناك من يردي الملابس الشتوية و هناك أشخاص مازالوا لا يشعرون بأي برد و يرتدون الملابس الصيفية مثلي ، إنه الوقت حيث يتقاطع الصيف و الشتاء
إقتربت أكثر لأراها و كنت أعرفها و لم أصدق أنها هنا
سألتها " أستاذة مريم " فنظرت إلي و إبتسمت
مريم " دكتور نضال ، لسة فاكرني "
نضال " الفنانين مبينسوش حد "
ابتسمت بخجل ، ثم قالت " مكنتش أعرف إن الدكاترة ممكن يكونوا فنانين موهوبين كدا "
نضال " بس الأخصائين النفسيين " مبتسماً أيضاً ثم شكرتها على تقديرها لرسمي " و شكراً على المدح ، دا من زوقك .. إنتي عارفة في جريدة نشرت بتنتقد معرضي القديم كأسوأ معرض لأسوأ لوحات .. قالو معرض الفن المعاق "
ضحكت و هي خجولة تحاول إخفاء ضحكتها بيدها فأكملت " فقررت أفاجأهم بقى بلوحات أكتر إعاقة "
مريم " بس ليه بجد كل لوحاتك كدا ، كإنها فلم رعب " كانت كل لوحاتي لأشخاص جرحى و معاقين و مبتوري الأطراف و مصابين و أشخاص ينزفون و كان بها الكثير من اللون الأحمر أو الدماء
نضال " ممكن تقولي إن الرعب دلوقتي موضة العصر "
مريم " أنا اتعرفت على السيدة في اللوحة دي ، تفتكر ممكن يكون رأيها إيه لو شافت نفسها في اللوحة من غير ما تقولها .. أو لو حد إشتراها هل دا شيء صح"
نظرت إلي يديها و أدركت أنها لا ترتدي خاتم الزواج
نضال " لو حضرة الضابط وليد شافك ممكن يعملي جريمة على اللوحة صح ؟"
مريم " أنا إطلقت منه "
نضال " ممكن يكون بيراقبك برضو لسة "
مريم " انت بتتهرب من السؤال صح "
نضال " مش عارضها للبيع " رددت و أنا أبتسم و رافعاً حاجبي ثم نظرت للوحة حيث تلك المرأة المصابة بجرح ناتج من رصاصة بين كتفها و رقبتها و الدماء تلونها و الماء يبللها و نظرة الهلع و الخوف في عينيها
ثم أكملت
" هحتفظ بيها مع لوحاتي الأصلية "
نظرت إلي بتعجب و سألت " الأصلية "
فأجبتها و أنا أحرك يدي لأشرح لها الأمر " المسودات يعني .. " نظرت للوحة و أكملت
" في لوحات بعد ما برسمها ، بحاول أرسمها تاني .. اللي بيخلي الرسمة الأولى عندي الرسمة الأصلية "
مريم " سمعت إن في جرايم قتل بتحصل بنفس طريقة السفاح تاني "
نظرت لها بتعجب مصطنع و إبتسامة " مش السفاح إتعدم "
مريم " يعني في سفاح تاني غيره ، سفاح جديد "
نضال " بس إنتي ليه بتسألي ولا خايفة تكوني ظلمتي السفاح القديم و حكمتي عليه زي ما الناس حكمت عليه "
مريم " مش أنا اللي بحكم على المتهمين " ظهرت عليها علامات الجدية و كأن كلامي قد استفذها .. و تابعت " أنا حاولت أترافع عنه و هو اللي رفض .. حاولت أساعد و معرفتش "
نضال " في إحتمالات كتيرة جداً .. ممكن يكون كلامه كان حقيقي و يكون في سفاح حقيقي و هو كان مظلوم أو يكون هرب من السجن و متنفذش فيه حكم الإعدام وكمل مشواره الفني كسفاح "
مريم " بس إدارة السجن أكدت إنه إتنفذ فيه الحكم "
أنت تقرأ
عدالة باللون الرمادي
Science Fictionيقول فرانسيس بيكون " يميل المرء للإعتقاد بما يفضل أن يكون صحيح" لم تعد هناك ألوان بيضاء و سوداء .. أصبح كل شيء باللون الرمادي و أصبح الصواب و الخطأ متداخلين إلى حد كبير إذا لم يكن هناك أي دليل على الجريمة ولكنك تعرف الجاني و تعرف أنه سيلوذ بالفرار...