الفصل الثالث

60 9 2
                                    

غادرت العمل  أو السجن منذهلاً و مصدوماً مما حدث ، كنت أقف منتظراً المترو حينما مر أمامي شخص و اقترب كثيراً بينما كنت أقف بعيداً في المنطقة الآمنة .. و لاحت في نظري تلك الفكرة الغريبة ، أخذت أفكر كيف يكون الأمر لو فقدت السيطرة على نفسي و اندفعت نحوه و دفعته ليسقط تحت عجلات المترو ، في ذلك الوقت كان المترو كان قد وصل الرصيف و عندها ارتبكت لأنني لم أتوقع من نفسي أبداً التفكير بتلك الطريقة ، هل الجنون يبدأ بهذه الطريقة ، أفكار غريبة تلج إلى رأسك ثم تفقد السيطرة و تندفع
حينما وصلت المنزل كانت عهد زوجتي لازالت نائمة
أدركت أنها لازالت لديها أقراص المنوم التي ظننت أنني قد تخلصت منها كلها ، بحثت في كل مكان يمكنها أن تضع فيه تلك الأقراص في غرفة النوم في كل مخبأ في الدولاب و جيوب الملابس و حتى في درج الشرابات و بحثت في حقيبتها و أغراضها و أغراض التجميل و المكياج التي هجرتها منذ فترة طويلة حتى وجدت علبة لبان تشيكليز مخبأة بشكل جيد بجانب أدوات الكُحل هي المكياج الوحيد الذي تستخدمه لتغطي  به عيناها الجميلتان من أعراض كثرة النوم .. بالتأكيد كانت تحتوي تلك العلبة على حبوب الريمينوس المنومة
أخذت العلبة و وضعتها في جيبي و ذهبت إليها ، كانت نائمة كالملاك .. ربما جميع النائمين يبدون كذلك  ، لقد كانت دائماً في غاية الجمال
أردت أن أقوم بإيقاظها لكنني مدرك لتأثير ذلك الدواء ولن أحاول إيقاظها إذا كانت قد إبتلعت الحبة منذ وقت قصير لأنها ستصاب بالصداع و ستبحث عن حبة أخرى ..
كنت أشعر بالجوع لدرجة أن أمعائي كانت تتعارك في الداخل ، توجهت للمطبخ لأجده كما كان منذ أسابيع و الثلاجة فارغة إلا من أشياء فقدت صلاحيتها للأكل أو الشرب عدا المياه ، دائماً ما أنسى هذا الأمر و كأنني أحلم بأن تعود عهد في أحد الأيام كالماضي كما كانت مرحة و جميلة
فتحت اتصال البيانات أو الإنترنت في الموبايل لأقوم بطلب الأكل عن طريق تطبيق اطلب .. و في نفس الوقت بدأت إشعارات الأنستا تطرق سماعات الهاتف ، كانت صديقتي على الإنترنت من الجزائر .. زينات
زينات: أخبارك إيه النهارة و صباح الخير            ( منذ ساعة )
أنا : الحمد لله تمام ، و صباح النور :-)
كانت نشطة كأنها تنتظرني أن أفتح الإنترنت
زينات : أخبار دراستك إيه ، أقصد أبحاثك و الدكتوراة اللي بتحضرها
أنا : المواضيع إتلخبطت معايا شوية أكتر مما كانت
زينات : حتى أنا أيضاً ، أبي و أمي خلاص مفيش أي أمل يرجعوا لبعض تاني لأن خلاص ماما إتجوزت إمبارح ، أنا في الوقت الحالي قاعدة مع بابا علطول و مشوفتش ماما من أكتر من أسبوع
أنا : مش عارف أقولك إيه يا زينات بس إنتي  في الجامعة يعني كبيرة و تعرفي تتصرفي في حاجات كتير لوحدك و لو قررتي تروحي لوالدتك عشان تشوفيها أو تقعدي معاها مفيش حد يقدر يمنعك
زينات : أنا زعلانة من الحال اللي عيلتي وصلته ، مش عارفة ماما هي اللي دمرت العيلة ولا بابا ولا كل دا كان غلطة من الأساس و أنا نتيجة الغلطة دي
أنا : زينات إحنا إتكلمنا في الموضوع ده كتير ، إنتي عارفة إن باباكي و مامتك منفصلين من سنتين و قبل كدا كانت في مشاكل كتيرة ، مامتك مأجرمتش إنها قررت تتجوز دلوقتي ، و حاجة تانية إنتي عمرك ما كنتي. ولا هتكوني غلطة أبداً
زينات : أنا دايماً بوجعلك دماغك بالهري الفاضي ده
أنا : زينات إنت البنت الوحيدة الصديقة ليا على شبكة النت كلها و عارفة أنا بقدرك قد إيه و عمرك ما وجعتي دماغي أبدا ^ ^
المهم عايز أسألك على حاجة كدا
زينات : اسأل
أنا : عمرك مرة حلمتي حلم كان شبه حلم حد بالتفصيل
زينات : كتير ، عارف يا نضال ، في أحلام كل الناس بتحلمها أصلاً زي حلم السقوط مثلاً
أنا : عارف أنا قصدي أحلام بتفاصيل كتير حلم شبه حلم حد تاني بنفس التفاصيل
زينات : مش فاكرة بالظبط بس مرة سمعت بابا و عمو أحمد صديقه الصدوق بيحكوا في مرة عن الأحلام و هما الإتنين كانوا بيحكوا عن كابوس عن تجربة في كلية الزراعة كل واحد منهم حلم بيها لأنها كانت في إمتحان العملي و كانوا خايفين يغلطوا فيها .. تقريباً حلموا بنفس التفاصيل مش فاكرة كلامهم بالظبط
في تلك اللحظات استيقظت عهد فارتبكت كأنني كنت أخونها أغقت الشات و لم أرى الرسالة التي وصلت و تابعت عهد
عهد زوجتي التي استيقظت و تحركت مباشرة نحو الحمام ، بادرت لأقول صباح الخير لكنها لم ترد ، انتظرتها لتعود ، خرجت بدون أن تغسل وجهها كنت أنتظرها على الباب
نضال " أنا جددتلك الأجازة من مرضي لبدون مرتب من شهرين و بفكرك إنك لازم ترجعي تاني " لكنها لم تجيب و تحركت تبحث في الثلاجة
نضال " أنا طلبت فراخ بروستيد ، الطلب في الطريق "
عهد " أنا مش هاكل "
نضال " أخيراً رديتي ، كنت فاكر إن المنوم وقف مركز النطق في دماغك "عندما ذكرت كلمة المنوم أدركت أنني كشفت مخبأ التشيكليز
تحركت نحو غرفة النوم و أخذت تبحث عنه
عهد " إنت أخدت علبة التشيكليز يا نضال ، وديتها فين "
نضال" هتفوقي إمتى يا عهد و تنتبهي لبيتك و جوزك "
عهد " أيوة آاه الإسطوانة المخرومة بتاعة كل خناقة "
نضال " يا عهد العملية فات عليها سنة ، إنسي ، هنتسي إمتى "
عهد " نضال أنا دكتورة و أعرف كويس أجيب أدوية الجدول كلها و مش هنفتح الموضوع ده تاني "
نضال " أنهي موضوع ، موضوع إنك بموتي نفسك بالبطيئ كل يوم بقالك سنة ولا موضوع إنك بتجازفي برخصتك كدكتورة  بقالك سنة منزلتيش الشغل لأنك مش عارفة تتخطي أزمتك"
لكنها كفت عن المحاولة عن البحث عن تلك العلبة و بدأت بإخراج علبة سجائر من الدولاب الصغير بجانب السرير و الذي نضع عليه الأباجورة
جلست على السرير و بدأت تشعل سجارتها و أنا أنظر إليها بتعجب
نضال " دي علبتي ، من إمتى بتشربي السجائر  " لكنها لم ترد أيضاً
صمتت قليلاً ظننتها لن تتكلم و لكنها تابعت " إنت فاكر إنك هتمنعني من إني أجيب الريمينوس "
جلست بجانبها على السرير و كنت مازلت ببذلتي لم أغير ملابسي ، تلك الملابس البنطال و الجاكيت الأسودان و القميص الأزرق و تنقصني فقط رابطة العنق أو الكرافاتة بيمنا عهد كانت لازالات بلباس نومها الخفيفة
نضال " عهد إنتي قرري تتخطي الموقف وأنا " لكنها قاطعتني
عهد " إنت فاكرني واحدة من المختلين اللي بتتعامل معاهم و هتحاول بقى تعالجني "
نضال " إنتي بقيتي لا تُطَاقي " وقفت لأغادر فسمعتها خلفي تبكي ، أردت أن أعود إليها لكنني حتى لم أنظر إليها و خرجت من المنزل .. لم أتحرك بعيداً فقط للكافيه أسفل العمارة ، حتى ألاحظ طلب الأكل الذي طلبته ، جلست في الداخل لأن الجو كان غير لطيف ، إنه متقلب كما لو كان غاضباً مثلما الغضب داخلي .. جلست بالداخل أتابع من خلال الزجاج الشارع .. كنت أفكر و أفكر و أفكر حتى قطع حبل أفكاري ذلك الشخص ، كان فريد
إنه شاب يبدو أنه في نهاية العشرينات ، كان يرتدي     تيشيرت رمادي ، بشعر قصير ناعم و تلك النظارات الكبيرة المستديرة .. كانت المرة الأولى التي أقابله فيها عندها وقف أمامي ومال إلي
فريد " معاك ولاعة "
نظرت له بتعجب كيف يتقع أنني أدخن وهو لا يعرفني ولم يشاهدني أدخن ، ربما أدرك تعجبي فتأسف و استدار ليغادر فأوقفته
نضال " استنى ، معايا ولاعة " أخرجت ولاعتي من جيبي و أخذت أبحث علبة سجائري ، كانت السيجارة الأخيرة ، بدأت أشعل الولاعة لكنها كانت قد نفذ غازها فلم تشعل ، فضحكت و ابتسم فريد
نضال "خلصت للأسف ، اتفضل اشرب حاجة تانية طيب "
كان ودوداً على غير العادة  هذا هو الإنطباع الذي أخذته عنه لأنه جلس ، الناس هنا لا يتعاملون بتلك الودية البسيطة غالبا ، فلا أحد يعرف الآخر هنا
فريد " أنا بشوف حضرتك في العمارة .. أنا جارك فريد على عبدالقادر "
تذكرت أنني لاحظته أكثر من مرة وألقيت عليه السلام ذات مرة و كنت وقتها أدخن سيجارة
نضال "  أفتكرت ، حضرتك جارنا صح الشقة اللي في وش شقتنا صح ، أنا  دكتور نضال السيد حسين "
نظر إلي بإبتسامة و رفع حاجبه و أكمل " دكتور و بتدخن "
فابتسمت و أخرجت من جيبي علبة لبان التشيكليز التي أخذتها من زوجتي و قلت بإبتسامة " هقلب السجاير بلبان نعناع .. تشرب إيه ؟ "
فريد" مدام مفيش سجاير بقى هطلب قهوة مظبوط  .. إنت هتشرب إيه يا دكتور "
نضال" مش عارف والله ، أنا بس زهقان من البيت و خلاص ، ممكن أشرب شاي وخلاص "
فريد " مشاكل الحريم برضو ، بيعرفوا يخترعوا النكد " ثم نادى النادل و طلب منه القهوة و الشاي ثم أكمل " لسة متخانقين و بسبب إيه زبونة في الشغل .. أنا بشتغل في مكتب سمسرة بمرتب شهري و عمولة على الشقق اللي بخلصها ، سمسار بس مهندم أو ابن ناس " و ابتسم
نضال"إحنا مشكلتنا أكبر ، كانت حامل و سقطت "
فريد " عادي ، تحمل تاني " فأجبت مقاطعاً لما قد يقوله " شالت الرحم بسبب ورم "
صمت فريد كأنه أحس بتفاهة قصة شجاره مع زوجته بسبب غيرتها من زبونة لديه أمام قصة زوجتي .. صمت كأنه يتأسف على ماحدث
أحضر النادل الشاي و القهوة فأخذت كوب الشاي و ارتشفت منه و أكملت "كان عندها ورم ، اكتشفناه وقت الحمل و الدكاترة قالوا إن الحمل مش هيكمل ، عملت العملية و طبعاً شالوا الرحم كله ، بقالها سنة دلوقتي في نكد و إكتئاب .. خلاص فقدت طاقتي إني أتحمل و أستناها ترجع "
كان عامل التوصيل قد أتى و بدأ يتصل بهاتفي ، فاستأذنت من فريد لأرد على الهاتف و أخبرت الدليفري أنني قادم إليه ، ثم استأذنت من فريد و غادرت و تركت حساب الشاي إلا إنه لم يقبل بذلك مطلقاً
حاسبت الدليفري و صعدت إلى الشقة حيث عهد رغم أنني قد مللت أمر إكتئابها ولكنني لا يمكنني أن أتركها هكذا ..لم نتزوج عن الحب الذي يخلد التاريخ قصته  كقصص العشاق ، بل كان الأمر تقليدياً .. كان إعجاب فقط بالنظرات لكنه كان كافياً من الطرفين ، و كان الأمر ناجحاً ، كنا مثاليين و كانت الأمور تسير بلا أي عثرات حتى ذبلت فجأة و تغيرت و لم أستطع أن أنتشلها من الأمر و لم يبقى أي أحد من أهلها أعود إليه .. كانت الوحيدة و مات أبواها .. الأمر مسئوليتي الآن
عندما صعدت إلى الشقة وضعت الأكل على سور المطبخ المصنوع من الرخام و قائلاً بصوت عالي إن الأكل على رخامة المطبخ و تحركت نحو الشرفة أو كما نسميها البلكونة .. كنت أفكر ملف عاصف و تلك التحريات التي أجريت عنه
عاصف كان من أب فلسطيني عاش كثيراً في مصر و تجوز من مصرية و أنجب إثنين عاصف و عاصي
الأب حاليا في فلسطين والأم و عاصي متوفيان
موجه لعاصف تهم قتل ل٢٣ضحية ، و هي القضية التي يطلقون عليها إعلاميا قضية السفاح الآن ، انه اسم سمعته كثيراً رغم أنه يوحي أنها قضية فريدة

عدالة باللون الرماديحيث تعيش القصص. اكتشف الآن