الأشخاص الذين يقومون بما لا نستطيع ، يصبحون أبطالاً من وجهة نظرنا
ربما كنت أرى عاصف بطلاً بطريقةٍ ما ، لأنه عندما تأكد من الجرائم تحرك بنفسه و حقق العدالة .. لكن ما فعله كان خاطئ .. من وجهة نظر الدين و القانون ، لا يمكننا تحقيق العدالة بأيدينا العارية ، للعدالة أشخاص مسئولون عنها .. الشرطة و رجال القانون و القضاة .. سوف يُسئلون عنها و عن تطبيقها
لا يمكننا أن نستحل دماء القتلة
كنت في المحكمة و كما توقعت لم يستغرق القاضي دقائق ليطلق حكم الأعدام على عاصف
لكن ما فاجأني بحق أمر لم أتوقعه مطلقاً ، ظللت دقائق أحاول التأكد من أنني لا أهذي أو أتوهم .. لقد رأيت تلك الفتاة من حلمي ، كانت تحضر تلك الجلسة
و رأيت مريم .. أردت أن أعتذر منها ، تبادلنا النظرات و أردت أن أتوجه إليها و أحدثها لكنني خشيت أن أفقد أثر الفتاة من حلمي
سعيت وراءها ، تبعتها حتى وصلت إلى شقتها ، في إحدى الأحياء الفقيرة
طرقت الباب .. رأيت ظل يتحرك خلف الزجاج الموجود في باب الشقة
سألت من فأجبت أنني قادم من طرف عاصف
فتحت الباب ، إنها هي تلك الفتاة بحق .. بملامحها الأسيوية
الفتاة " عاصف ملوش أصدقاء "
إرتبكت ، لم أعرف ماذا أخبرها " ممكن أدخل بس ، مش هاخد من وقتك حاجة .. أنا صديق عاصف من سجنه "
تعجبت من كلامي ، لكنها أدخلتني
جلست في الريسيبشن البسيط المهترئ في الشقة القديمة البالية ، سألتني إن كنت أريد شرب الشاي أو أي شيء لكنني رفضت .. لكن عندما لاحظت قلقها و خوفها تكلمت " أنا مش هقعد كتير ، مش مستاهلة الشاي " و ابتسمت
جلست لتسمعني
فبدأتُ و أخرجت من جيبي بطاقتي و كارنيه النقابة " أعرفك بنفسي الأول ، أنا دكتور نضال السيد حسين .. ماجيستير علم النفس و الأخصائي النفسي في سجن المطار اللي فيه دكتور عاصف .. شغلتي أو وظيفتي إني أقيّم الحالة النفسية للمتهمين و أقدم تقارير عنهم "
الفتاة " التقارير دي ممكن تعمل إيه مثلاً "
نضال " لو التقرير و طلبي إتقبل بيتعرض الشخص على لجنة لتقييمه و بيتعرض قرار اللجنة على المحكمة ، ممكن تحكم عليه إنه يتحول لمستشفى الأمراض العقلية و النفسية و يقضي عقوبته هناك بدل الإعدام "
صمتُ قليلاً ، توقعت منها أن تسألني عن شيء لكنها لم تتحدث فأكملت
نضال " أولاً مش معنى تقريري أو قرار اللجنة إن المتهم مجنون ، المرض النفسي مش جنون أو قلة عقل ، المريض النفسي دا شخص عنده مشكلة و ممكن تتحل .. يعني مثلاً في ناس بتشوف أوهام أو تهيئآت بسبب حادثة أو مصيبة حصلتلها ، ممكن بسبب الأوهام دي تأذي حد "
الفتاة " بس عاصف مش مريض ولا مجنون ولا بيشوف أوهام زي ما بتقول "
نضال " أنا بقول لحضرتك مثال ، من كلامي مع عاصف ذكر إنه الجرائم اللي قتلها كانت بسبب أحلام كان بيحلمها .. و ذكرك و قال إنك كنتي في حلم من أحلامه "
الفتاة " إنت متعرفش حاجة عني صح ؟! " هززت رأسي بالنفي فأكملت " مقالكش حتى على عنواني ... "
" إنت كنت بتراقبني ؟!!؟" وقفت و تعجبت و ظهر عليها الخوف ، فوقفت و أكملت
نضال " أولا آسف والله بس ممكن تتفضلي أكمل لحضرتك بس ، أنا كنت فاكر إن كلام عاصف مش حقيقة و متوقعتش إنك تكوني موجودة فعلاً في الحقيقة "
جلستُ ، فجلست أيضاً و قرأت في عينيها أنها لم تعد خائفة و بدأت بسرد قصتها " أنا فاطمة محمود ، ممكن يكون اسم عادي عندكم في مصر لكنه غريب بالنسبة لبنت أسيوية أو بمعنى صينية .. إقليم شمال الصين ، منطقة الإيغور .. مسلمين و أهل سنة و بيتسموا بأسماء المسلمين .. منطقة شمال الصين كلها أو إقليم شمال الصين قرر الإستقلال عن الصين ، الصين رفضت الإعتراف بكدا و حصلت حرب أهلية بين أقاليم شمال الصين و الصين .. من الإجراءات اللي أخدتها الصين هي القبض على الأشخاص اللي ليهم علاقة بشمال الصين و إحتجازهم كرهائن .. كنت موجودة في المكان الخطأ ، دراستي الجامعية كانت في مكان بعيد عن وطني .. هربت مع اللي هربوا ، ناس كتير .. لاجئين ، آخر تواصل لي مع أهلي أعطوني فلوس عشان أعرف أسافر بيها .. لو روحت أي بلد مجاورة للصين هتكون غير معترفة بشمال الصين ، هتترحل للصين و هناك هتتحبس ، مسافرتش بطيارة ، سافرت بحري كنت عايزة أسافر لدولة أوروبية لكننا إتخدعنا ، لأني سافرت بطريقة غير شرعية .. القصة طويلة
لكن قبطان المركب أخبرنا أنه لايستطيع الإقتراب كثيراً من الشواطئ بسبب الحراسة على الحدود البحرية ، لذلك وجدت نفسي على قارب مطاطي بينما رحلت عنا السفينة الكبيرة
إن هذا فقط هو نصف القصة ، و قد يكون هو النصف الأفضل منها
وجدت نفسي في ذلك المكان في مصر ، تعرضتُ لحادث لن تستطيع تصديقه "نضال " أول ما دخلتوا مصر إنضرب عليكم نار ، بس الأول إنتي بتتكلمي مصري "
فاطمة " انت مش مستغرب إني أتعرض لإطلاق نار بمجرد دخولي الحدود المصرية و مستغرب إني بتكلم مصري .. "
نضال " لما تعقدي فترة كبيرة في مصر هتتعاملي مع حاجات تخليكي متعرفيش تميزي بين الغريب و العادي "
فاطمة " بالنسبة للهجة أو اللغة ، أنا كنت بتكلم عربي فصيح و اللهجة المصرية قريبة من العربي الفصيح ..."
" بالنسبة لقصتي ، اللي ضرب علينا النار مكنتش قوات حدودية أو شرطة .. كان أمر غريب ، كإنه صياد أو كإنه شخص إتفق مع صاحب المركب أو مع الشرطة .. أنا لحد دلوقتي مش فاهمة بجد " و بدأت تبكي و تابعت " الناس كانت بتموت و الصراخ في كل مكان ، حتى اللي قفزوا في البحر مكنوش بمأمن من ضرب النار ، أخدت رصاصة بين كتفي و رقبتي و كنت بنزف
كل الأمور بعد الرصاصة كإنها وهم ، كنت بحاول أتمسك بالحياة و خلاص .. وصلتلنا القوات البحرية و اتنقلنا للإسعاف و منها للمستشفى .. فقدت الوعي ، صحيت و كنت في المستشفى ، خفت وقتها و هربت ، لم تكن معي أي أوراق ثبوتية ، فقدتها في البحر .. خِفتُ من أن يتم ترحيلي ..
مررت بأصعب أيامي وقتها ، في بلد غريب كان قاسياً أكثر مما تتخيل "عند كلمتها الأخيرة إبتسمت لأنني أعرف مصر ، إنها بلادي .. إنها أم الدنيا ، قد تكون قاسية لكنها ليست الفاعلة إنهم أشخاص سيئون يعيشون فيها ، هؤلاء الأشخاص السيئون موجدون في كل مكان .. و كما هم موجودون هناك أيضاً أشخاص طيبون ، إنها تلك التركيبة المصرية .. يمكنك أن تجد مثل الأشخاص السيئون في كل مكان ، لكن أصحاب القلوب الطيبة من المصريين إنهم أشخاص مميزون بجد ، لن تجد مثلهم في العالم ، مهما بحثت لن تجد تلك التركيبة الجميلة الطيبة
لكن بينما ابتسمت .. إنهارت أكثر بالبكاء
فاطمة " كنت أهيم في الشوارع بدون مأوى .. بدون مال أو أكل أو شيء ، تعرض إلي بعض الشباب و ... " غطت وجهها بكفيها
نضال " أنا آسف "
فاطمة " وجدني عاصف ، الأمر غريب ، كإنه حلم بمكاني أو بإستغاثتي ..
أواني في شقته ، حماني .. ساعدني في الحصول على أوراق شخصية كمان
إتجوزته .. عاصف ممكن تعتقد إنه شخص سيء أو إنه غريب أو في بعض الأحيان مجنون لكن معي كان شخص مختلف ، كان شخصاً حكيماً و حنوناً .. "نضال " تعرفي قصته بالكامل ، تعرفي ليه هو عمل اللي عمله ، إيه مبرره مثلاً
عاصف قتل خمس أشخاص ، قتلهم ، خنقهم بإيديه "فاطمة " عاصف أخبرك إنه قتل خمس أشخاص فقط .. عاصف قتل أكثر من خمسة أشخاص "
أنت تقرأ
عدالة باللون الرمادي
Ciencia Ficciónيقول فرانسيس بيكون " يميل المرء للإعتقاد بما يفضل أن يكون صحيح" لم تعد هناك ألوان بيضاء و سوداء .. أصبح كل شيء باللون الرمادي و أصبح الصواب و الخطأ متداخلين إلى حد كبير إذا لم يكن هناك أي دليل على الجريمة ولكنك تعرف الجاني و تعرف أنه سيلوذ بالفرار...