انجلى الضياء أمام المقبرة، وخيمت غمامةُ الحزنِ والأسى على أسرةِ الميت، معلنةً إخماد الذكريات، فتلبدت سماؤهم بظلامٍ دامس يقبع جوف صدورهم من فرط ما كدر سرورهم أغمتهم، صاحب الجنازة هو أوس الشاب صاحب العشرين عاماً، لم يزل يافعاً، شابٌ طموح وذكي، يمد يد العون لمن يطلب حتى في أحلك الظروف والابتسامة ترتسم شفتيه، أحبه الجميع لخُلقه الرفيع وفنهِ البديع
توفي في حادثٍ مأساوي ناتجٍ عن غرق في أعماق البحار أثناء رحلة صيد السمك، وه يُجدف بقاربه وسط البحر كعادته يُمسك بصنارة الصيد، وفجأة حدث مالم يكن بالحسبان،انخرق قاربه وغمرت المياه الداخل، حاول أوس أن يسبح نحو الشاطئ بكُل قوته لكن الأمواج حطمت آماله ولم يصل لمناله، وكأنه حديد والبحر مغناطيس يسحبه نحوه ويأخذه شيئاً فشيئاً حتى ابتلعه
كان أمر غرقه مفاجئاً وتلقى أهله الخبر بخيبةٍ وحزنٍ شديد، خاصةً أنه توفي وهو يمارس أكثر الأعمال محبةً إلى قلبهأتى الكثير من الناس لحضور الجنازة من عائلة وأصدقاء وزملاء، لكن أباه قيس كان أكثرهم حزناً، مُنكسر ومحطم فاقد الأمل والكئابة تحيط به، انهمر الحضور بالبكاء بعد ملاقاة المصيرِ المُحتم، ما عدا حافر القبور لم يبكِ أبداً ولم يذرف دمعةً واحدة بل يبدو مبتهجاً وينشر الابتهالات ويبتسم بين الحين والآخر، حملوا الجُثمان وبدأوا بالتشييع حتى انتهت مراسم الدفن، وعندما أوشك الحضور على الانصراف، تقدم قيس إلى حافر القبور سائلاً ويشد قميصه بقوة:لمَ تبتسم؟ ألم تأسف على الحزن الذي أمر بنا؟
عمَ الصمت وحافر القبور مكتظمٌ وحازم لم يُجبْ عن السؤال بل نزع يده وعاد لمنزله حاملاً المال.تقدم شخصٌ من الوراء والغيظ يتناثر من عينيه: ألا تعرف حافر القبور؟ إنه يتمنى الموت للجميع كي يكسبَ المال عندما يدفنهم وينظر للمال الذي دُفع له ويتأكد من العد عشرات المرات
أجاب شخصٌ ثالث مؤكداً: إن علامات الرضا لهذا المصير تُدخل السعادة إلى قلبه
ألجمت نيران الغضب السيد قيس ليرد بحالةٍ بائسة ووجهٍ مكفهر: شخصٌ بغيض أتمنى أن يموت.تتداول الأحاديث بأن حافر القبور يكتنز الأموال لكنه بخيلٌ شحيح لا يظهر غناه على لباسه، ويرتدي الملابس المُمزقة فقد اشتهر بحبه للمال وأنه يكنز الأموال داخل بيته
لم تمر الأيام سريعاً، فسرعان ما ألقى حافر القبور حتفه، فقد توفي على فراشه إثر طعنٍ من قبل اللصوص، كانوا يُحاولون سرقة النال الذي يُخبئه، باتت جثته ثلاثة أيام على حالها، حتى استاء سُكان المدينة من رائحتها العفنة، لم يكن لحافر القبور أي أقاربٍ يهتمون بشأنه أو يدفنونه، إشتد الخصام بين الأهالي على من يتولى أمره، فحافر القبور شخصٌ بغيض مكروهٌ من قبل الجميع ولم يُعرف ما سبب تصرفاته تلك، ازداد فضول قيس للبدأ بالبحث عن هوية حافر القبور أو أي شيء يدلي بالماضي صلةً، حتى سأل أحد الرجال كان يبلغ سبعة عقود تملئ التجاعيد وجْهَه واشتعل رأسه الشيب فأجاب: إن الماضي البائس الذي مرَّ بحافر القبور جعله يتأثر وينعكس ذلك على مشاعره، إنه في كل مرة يدفن فيها شخصاً يُظهر الابتسامة للتخفيف من الآلآم، وعندما يعود لمنزله ينهمر باكياً حتى لا يغمض له جفن، وربما لا يقدر عن التعبير بمشاعره
تأثر قيس لأنه كان يظن بأنه سيء، والفضول يعتريه: كيف كانت حياته؟
أجابه المسن: مات أهله دفعةً واحدة، ولم يملك المال لدفنهم، فحفر قبورهم بنفسه ومنذ ذلك الحين وهذا عمله، أما المال الذي يجمعه فإنه يتصدق بها
حزن قيس كثيراً، بأن الشائعات المنتشرة لم تكن صحيحة، وتحجرت الدموع في مقلتيه وشعر بالندمِ الشديد فعزم بأن يحفر قبره وكتب عنه الرثاء
تمت: ٢٠٢٠/١/١