متأمل في سكون الليل؛ يجلس صديقي (ناصف) وحيداً يحاكي النجوم بعينيه بعيدا عن اي ضوضاء؛ لقد اصبح لا يحب الجلوس مع احد بعد
خروجه من السجن؛ ستة اشهر قضاها ناصف بين المجرمين والظالمين في قضية المذنب الوحيد فيها هو القدر؛
فكل ما ارتكبه من جرم هو خروجهُ ليلا ليبحث عن زبون يوصله بالتاكسي الذي اشتراه قسطاً في السنة الماضية؛
ركب معه احد تجار المخدرات؛ كان يحمل معه صفقة صغيرة من الكوكايين وعندما تفاجئ بكمين الشرطة
القى ما معه من مخدرات في التاكسي؛ وبعد التفتيش؛ اُخذ فيها صديقي ناصف وتاجر المخدرات للحبس؛ وكتب بمحضر الشرطة انهم شركاء في الجريمة؛
حتي قضوا ستة اشهر محبوسين ولم يحكم في قضيتهم حتي الان؛ منذ اسبوعين تم اخلاء سبيل ناصف هو وتاجر المخدرات بكفالة خمسة الاف جنية لكل منهم؛ ومازالت القضية قائمة،
لقد ظلموه واطفئوا شمعته التي كانت تضيء لجميع من حوله الطريق؛ دمروا بيته واولاده؛ حتي زوجته طلبت الطلاق وترك البيت لتذهب لأبيها المشجع علي طلاقهم،
ارى ناصف الان شيخ في الستين من عمره يرتدي جسد رجل لم يكمل الثامنة وثلاثون بعد؛ فقد شحب وجهه وبان عليه الكبر؛
سحبت الكرسي وجلست قريبا منه؛ سألته بحزن ليخرج لي ما عنده فيرتاح؛
لماذا نحن بهذه الدنيا ياصديقي؟
نظر الي ثم نظر لبعيد ولم يهتم بالرد؛ لكنه يكتم شيء لا قاسياً؛
فما كان لي الا ان اجاوب علي سؤالي: لقد خلقنا ياصديقي ليبتلينا ويخرج منا الصالح ليصتفيه والسيء ليعاقبه؛
(اي ابتلاء هذا (ياعماد) نحن في ظلم وانتقام)
قالها وهو ينظر بعيدا؛ ينظر لشيء لا اعرف ولا افهمه؛ انه يتكلم بهدوء شديد ولا اشعر انه يتألم
ربما هو يتألم ولكن يخفي ما بداخله؛
=وضعت يدي علي كتفه وقلت: ان الاحوال ستتحول وتنقلب الآلام الي افراح ياصديقي،
-رد ببرود وهو يشير بإصبعه السبابة الي قلبه وقال "لا توجد به آلام ولن تدخل اليه افراح"
=عرفت انه يتألم ولكن من كثرة الوجع لم يعد يشعر؛ كمريض دخل في غيبوبة من شدة الآلم فهدأت اوجاعهُ،
طلبت منه بهدوء ان يحكي لي عما حدث معه في السجن وكيف قضى الستة اشهر السابقة،
اعتدل في جلسته ولف الكرسي نحوي فصرنا وجهاً لوجه، فأسند ظهره علي كرسيه واشعل سيجارته وقال بسخرية:
"كانت ايام رائعة"؛ كنت كل يومٍ اشعر بأنني شخص مهم جداً؛
ففي الصباح يأتون لي برغيف خبز واحد لا يعطوني غيره طول اليوم؛
وبعد الاكل بخمس دقائق يأتي الشاويش فيقف كل افراد غرفة الحجز "انتباه" بدون حركة او صوت؛
حتي ينطق اسمك فتقول له "افندم" فينتهي من الاسماء ويتمم العدد ويخرج؛ لننام بعدها قليلاً علي الارض متزاحمين من كثرة العدد الذي كان بالغرفة؛
فغرفتنا كانت صغيرة جدا وبها حمام صغير بدون باب وبها ما يقارب اثنان واربعون شخص؛ كنت اعرفهم جميعهم لاننا كنا نبدل النوم سوياً؛
"فهناك من يقف علي قدمه لأنام انا؛ وهناك من ينام لأقف انا" ونحو الساعة الثالثة عصراً يوقظنا الظابط ليخرجنا جميعا من غرفة الحجز الي صالة التعذيب؛ وما ادراك ما صالة التعذيب؛
تجلس فيها مضموم الركبتين رأسك بينهم؛ ويدك علي رأسك؛ وهناك من يمروا علينا بعصيان ليضربونا بدون سبب؛ ليأتي الظابط بخرطوم المياه
فيكون فخوراً بنفسه وهو يرش علينا الماء البارد بدون اي سبب؛ فقط لانه يريد هذا؛ او ربما تكون اوامر من قائدهُ بتعذيب المساجين حتي لا يفكروا بالهروب او التمرد؛ لااعرف حقيقةً لماذا كان يفعل كل هذا؛ لماذا كل من تقع عينه عليه يأتي به ويعذبه ويذله امام الجميع ؛لا اعرف ما حبه في تعليق المساجين من كيعان اياديهم وربط مطفأة حريق في اقدامهم كي تسحبهم للاسفل فنشعر بآلام مجاني لن تجدها في اي مكان اخر