خرجت من المدرسة بعد إنتهاء الدوام، كانت ضجرة، وكان شعرها الأملس مبعثر بعض الشيء، خدودها حمراء من حرارة الطقس، تمشي وفي مشيتها القليل من الغضب، وكانت توجه نظرات استحقار إلى الفتيات في الجهة المقابلة اللواتي يحاولن لفت أنظار شباب لهم، فجأة اصطدمت بشيء جعلها تقع أرضاً، تأوهت لثانية ثم فتحت عينيها لتجد أنها وقعت فوق شاب، انصدمت وتوردت خدودها، نهضت بسرعة، رتبت شعرها بمحاولةٍ منها لإخفاء اضطرابها وتوترها، ثم شجعت نفسها ونظرت إلى من نهض بعد وقوفها مباشرة، تأملته للحظات قصيرة، شعرٌ بنيّ، وعيون عسلية، تباً هذه مواصفات رائعة بالنسبة لها، انتبهت لنفسها انها أطالت النظر، فأنزلت رأسها بحياء، ثم تشجعت ونطقت أخيراً.-آسفة لم أقصد، أنا أقصد أنني لم أنتبه.
لم تسمع جواباً، فرفعت رأسها قليلاً فوجدت ان الشاب ما زال ينظر لها بتأمل، فهو كان منبهراً بعينيها الزرقاء الواسعة، وشعرها الأسود الطويل الأملس، وملامحها الطفولية البريئة، تحمحمت قليلاً، فانتبه لها، وقال:
-نعم، أقصد لا بأس، أنا الذي أعتذر لكِ لأني لم أبتعد.
-لا بأس.قالت ذلك مبتعدة، وأكملت طريقها، تاركةً خلفها شاب في عقل مبهور منها ومن جمالها وحيائها، مشت في طريقها المعتاد ذاهبةً إلى منزلها، فلحق بها الشاب من دون أن تنتبه وحفظ الطريق إلى منزلها الذي يبعد حوالي العشر دقائق عن مدرستها.
وصلت إلى المنزل وطرقت الباب، فتحت لها أمها، فدخلت وألقت التحية، صُدمت قليلاً من تواجد والدها فهو لا يعود من عمله قبل السادسة مساءً، لكنها لم تُعر الأمر اهتماماً.
ذهبت إلى غرفتها، بدلت ملابسها، وغسلت يديها، ثم ذهبت إلى المائدة لتتناول الغداء مع عائلتها، كانت تأكل بشكل طبيعي حتى لاحظت نظرات والديها المسلطة عليها، إرتبكت قليلاً لكنها لم تُظهر ذلك، ظل الوضع هكذا حتى شبعت ووقفت قاصدة الذهاب لتغسل يديها والمباشرة بالمذاكرة، لكن والدها إستوقفها قائلاً:
-إنتظري يا حنين، أريد التحدث معك.
-نعم يا أبي تفضل.
-كلا ليس هنا، اتبعيني إلى غرفة مكتبي، لنتحدث هناك.استغربت حنين قليلاً، لكنها تبعته بصمت وهي مشوشة من شدة التفكير، دخلت خلف أباها وأغلقت الباب، ثم جلست على الكرسي المقابل له، نظرت إلى عيناه مباشرة لتحثه على الكلام.
-اسمعي يا حنين، اليوم جاء إبن عمك أحمد لوحده، قاصداً زيارتي.
-وماذا في ذلك يا أبي.
قالتها متضايقة وقد بدأت تفهم مغزى الحديث.
-اسمعي يا عزيزتي، أحمد يحبك ويريد...
لم تدع المجال لوالدها بأن يكمل كلامه، بل قاطعته قائلة.
-يحبني، هذا شأنه، ولا يهمني أن أسمع عنه شيء، لذلك رجاءً يا أبي لنغلق هذا الحديث.غضب والدها قليلاً من ردها لكنه هدئ نفسه لِألّا يفقد السيطرة على نفسه.
-حنين، أنا لم أنهي كلامي، إسمعيني حتى النهاية ثم قولي ما عندك، هل فهمتِ؟
-حسناً، تفضل وقل ما عندك.قالتها وقد بدأ الضيق يعتريها.
-أحمد جاءني اليوم وقد حدثني كثيراً في البداية عن أنه قدّم امتحاناته الاخيرة في الجامعة وقريباً ستنزل النتائج، وبعد أن يأخذ شهادته مباشرة، سيقدمها على عدة شركات، حتى أنه سيقدمها إلى شركات خارج البلاد.
قال ذلك دفعة واحدة وهي تستمع حتى توقف، نظرت في عينيه فرأت بريق من الفرح والتردد، فقالت
-حسناً هل هذا كل شيء يا أبي، هل يمكنني الذهاب الآن؟
-كلا يا حنين، لم أنهي بعد.
-حسناً، أنا أنتظرك لتكمل كلامك.ونظرت إلى عينيه مباشرة متظاهرة بالإهتمام للحديث.
-سأكمل يا حنين، بعد تخرج أحمد، سيقوم بخطبة فتاة جميلة وخلوقة، وبعد أن يحصل على عمل سيتزوج على الفور، فكما تعلمين أن عمك قد اشترى له منزلاً.
-نعم يا أبي، أعلم كل هذا، فهو دائماً ما يعيد نفس الكلام في كل مرة نجتمع فيها في منزل جدتي.قالتها متضايقة، وقد فهمت ما يشير إليه والدها، فأكملت.
-حسناً أبي ما المطلوب مني تحديداً؟ هل يمكنني أن أفهم؟
-ألم تفهمي يا عزيزتي بعد؟ أنتِ هي العروس التي يريدها أحمد.
-هل هذا كل شيء يا أبي؟
-نعم عزيزتي، أريدك أن تفكري وتقول لي ما رأيك؟
-هكذا إذاً، حسناً، فكرت يا أبي وأنا أرفض هذا العرض، لذلك رجاءً إتصل بأحمد وبشّره بخبر رفضي له رفضاً قاطعاً، وتمنى له أن يجد فتاة أحلام جميلة بعيدة من هنا.
-توقفي يا حنين، ما هذا الكلام؟ هذا ابن عمك أنتم من نفس الدم، أتريدين أن ترفضيه وتجرحي مشاعره.
-آه، قلبي الصغير لا يتحمل، أبي رجاءً، وماذا إن كان إبن عمي، ومن نفس الدم، هل أجبر نفسي به لأرمم سعادته على حساب سعادتي، لا وألف لا، أنا يستحيل أن أفكر به كزوج، هو أخ بالنسبة لي، وليس أكثر، دعه يفهم ذلك، وأنا لا أريد الزواج منه، ولي الحق في أن أكمل دراستي مثله تماماً.
-حنين لا تتعبيني.
-أبي رجاءً، هل أتيت لتسألني، أم لتجبرني، أوه آمل أنكم لم تحددوا موعد الخطوبة وأتيت لتخبرني به.هنا اشطاط والدها غضباً، وقف وصرخ بها.
-حنين، توقفي، بل اخرسي، ألا يتعب لسانك السليط من كثرة الكلام، أنا قلت ما عندي، وهذا آخر كلام.
-أي كلام يا أبي، أنت سألتني وأنا أعطيتك الجواب.
-وجوابك لم يعجبني.
ماذا كنت تنتظر مني أن أنزل رأسي بخجل، ثم أبتسم دليل على موافقتي، كلا يا أبي ليست أحلامي بهذه البساطة، أنا لن أكون مثل كل الفتيات في عائلتي، لماذا لم تكمل فتاة دراستها لتحصل على شهادتها مثل الرجال في عائلتنا.
كل فتاة تصل إلى الثانوية، يفصلها أهلها عن المدرسة ويزوجها بأحد من العائلة، لماذا فقط أفهمني لماذا؟
-لأنه هكذا، لا تسألي لماذا هل فهمت؟
من أين لكِ بتلك الأفكار، من أين؟ لماذا لست مثل باقي بنات أعمامك وعماتك؟ بماذا أنتِ أفضل منهن لتحصلي على الشهادة وهن لا؟
-أبي كفى أرجوك، لا شأن لي بهن، أنا هي أنا، لم أقل أني أفضل منهن بشيء لكن أنا لدي حرية الاختيار، وطالما أني إخترت أن أفعل شيء ليس به خطأ فلا يمكنك أن ترفض.
-إخرسي يا فتاة لستِ من يقرر هنا، بربك فلتأتي وتعلميني، ما رأيك؟وقفت حنين غاضبة وخرجت من الغرفة، وأباها يصرخ باسمها لكنها لا ترد، رأت أمها في طريقها، فسألتها أمها
-ماذا حصل؟
نظرت حنين إليها، نظرة حزن وأكملت طريقها، دخلت غرفتخا وأقفلت الباب، جلست على السرير وانفجرت باكية.
ثوانٍ حتى بدأ أباها بطرق باب غرفتها بشراسة جعلتها تنتفض من مكانها، لكنها أبت أن ترد،
أو تفتح حتى تعب والدها ويأس فذهب وهو يتوعد لها.
أنت تقرأ
فستان أبيض بيوم أسود
Romance"...بينما هي تبكي بالفستان الأبيض... ...وهو يتألم بين الحضور... ...كل ذلك تحت مسمى النصيب..."