أنا الغريب في القلوب والعيون
أنا الحِمل الذي يهرب منه الجميع
أنا اللعبة الذي زهدها صاحبها
أنا الصغير الذي هرم قبل الأوان
أنا التائه بلا وطن يحتضني ويشعرني بالحنان
أنا الدموع المتحجرة في العيون
أنا الصرخة المتجمدة في الصدور
أنا العنيد الذي لن يطلب اللجوء
أنا الوحيد وسط الجموع
إيمان حسن
"بلاش عِند بدل ما أفاجئك بزيارة علشان أشوف حتعرفيني مقامي ازاي ساعتها"
صمت رهيب اجتاح أذنيها للحظات قبل أن يكرر عقلها كلماته, بل فحيحه..
أصبحت على يقين أنه نفذ تهديده وربما هو معها بالشقة الآن..
ورغم أنها فعلياً لم تستشعر حركة واضحة خلفها إلا أن تكرار الصوت أفزعها..
مثل ضربات عشوائية وكأن أحدهم يدخل عنوة, أم ربما يخرج من مخبأ ما..
وحينها فقدت كل شجاعة واهية اصطنعتها يوماً, وكادت أن تفقد قلبها بدقاته
خارج ضلوعها وهي تت ا رجع للخلف وتنقر على هاتفها متوسلة لآخر رقم:
حمزه.. إلحقني.. في حد في الشقة!.
********************
هل أخافها؟.. أم هو من يخاف؟؟.
تلك اللحظة عندما انفرد بها..
عندما اقترب للغاية, أدرك أن كل ما بشأنها أصبح خارج سيطرته..
هي لن تحتمل إذا ترك لنفسه العنان.
مرر أنامله بقسوة داخل خصلات رأسه ولكنها كانت قسوة مشبعة بابتسامة..
ابتسامة تختص كل تفاصيل بشأنها ودون اختيار منه تُهديه لذة..
لذة مٌجهِدة من نوع خاص ممزوج بنفحة شوق
أيشتاقها الآن!
هل يجوز أن يحادثها؟..
يدلل أذنيه بنبرتها ويشاكسها فيمتع تخيلات عينيه.
أم كفاه كل تلك المقدمات وليقترب منها كما يجب أن يكون العشق..
ونوعاً ما أفزعته الكلمة..
هل عشقتها يا حمزه؟!
تختبر لوعة قلب مع المشاكسة ابنة منصور..
والمشاكسة هل تملك حاسة سادسة أم أنها تسيطر على عقله فيصدو هاتفه
باسمها تخيلاً!
وبعد هذا كل خطواته كانت في لمح بصر..
نبرتها المرتجفة..
تصريحها المرتعد عن وجود لص بالشقة..
وصراخه بها أن تخرج حالاً في قفزات موازية على درج البناية حتى وصل
إليها..
كانت قد فتحت الباب بالفعل تتحرك مترددة والهاتف فوق أذنيها رغم أنه أغلق
الخط! تت ا رجع للخلف بنظرات مرتكزة للداخل وهو يركض دون وعي فا رتطم
ظهرها بصدره لتستدير بشفتين شاحبتين وجسد بارد كالثلج...
وضع أصبعه على فمه في إشارة لكي تصمت ودخل هو وحده بخطوات محسوبة
ليتجه نحو مصدر صوت آخر ما قد يوحيه وجود لص..
بل كانت أشبه بقرقعة نافذة تتحرك بعشوائية رياح, وكان محقاً فمع دخوله نحو
المطبخ أيقن أن نافذته مفتوحة على مص ا رعيها مُصدرة هذا الصوت الذي أفزع
ليلاه..
لا ينكر أنه ابتسم بمكر ليستدير عائداً لها وكانت هي تقف بجانب الباب في
قلق واضح..
شحوب شفتيها قضى على اللمعة الصباحية وعيناها تتوسلان بتفسير.
زفر هو ببطء ليرمقها بتفحص ويقول:
ده كان شباك مفتوح!
فجأة غامت عيناها بنظرة أربكته!
ربما راحة.. وربما حزن يعتريه خجل..
وكأنها ارتعبت من هاجس يقلقها وحدها..
اقترب منها ليطيل النظر بحنو تلك المرة ويردد بهمس حنون يناقض ثورته
الصباحية معها:
هي فاتن مسافرة ولا إيه؟
تنهدت هي ببطء لتجيب دون أن ترفع عينيها نحوه:
هترجع بكرة..
ابتسم هو بحنو ولم يعقب ومرت دقائق قبل أن تدرك هي أنها وحدها معه وأن
الساعة قاربت على العاشرة مساءً..
رفعت رأسها على الفور فاصطدمت بعينيه وهذا ما كان ينقصها..
نظرته نحوها تختصر كل شغف تجاهلته منذ ساعات..
بل هي الحمقاء التي هاتفته مستنجدة به ليصعد إليها بعد أن هربت من
اجتياح محتمل بقيادته..
حمقاء..
حمقاء..
كان عقلها يرددها دون وعي..
حمقاء تنهار حصونها أمام تجاو ا زت حمزه..
ترتعد فزعاً من تهديدات الواهي صبري..
تسلم الجميع مقاليد أنوثتها وكل يستغلها بطريقته الخاصة..
ولكن..
حمزه يقترب رغماً عنها..
يلمس قلبها بجنون فتنتفض دقاته تمرداً على المتمردة لقربه..
كانت شفتيها قد بدأتا تعودا للونهما الطبيعي..
هذا الوردي المبهج بارتجافة عشوائية تثير حواسه..
أمال رأسه قليلاً وقد تبدلت عاطفة وجهه ليعود لطبيعته المشاكسة مرة أخرى:
أنتِ لما بتتخضي بتبقي حلوة قوي!
عبارة لم تكن منتقاة ولكنها أيقظت حواسهما سويا هي نظرها مدقق نحوه في توجس وهو يلتهم ملامحها حد الإرتواء..
أذنها تلتقط حروفه بتحفز وهو يسمع ترجمة إحساس صارخ نحوها..
أنفها ممتليء بعبق عطره النافذ وهو يتوسل عطرها هي دون أي رتوش..
يديه تج أ رت لتحيط أناملها..
أجفلها فسحبتها على الفور هاربة من احتواء غير مباح..
أربع حواس..
النظر, والشم, السمع, واللمس..
ألا يحق له اختبار تذوق!
أدارت هي وجهها مسرعة ونأت ببصرها عنه بهروب مرتجف..
اللعنة..
هل أفكاره مسموعة!!
عاد ليمرر أنامله بخصلاته مرة أخرى ولأول مرة يبدو عليه ارتباك.. ليتمتم
مسرعاً:
أنتِ خايفة؟
هل هو سؤال أم جواب..
وهل خوفها منه هو أم من وحدة تحارب قسوتها..
من تيه بأمواج غريبة عنها ألقت نفسها فيها بقرار..
ولا تعلم ما بها فلم تجب..
وكأنها تعطيه أحقية أن يبللور سؤاله بطريقة أخرى بل يبللور جوابه مع اقتراب
آخر..
حنون..
متأمل..
متردد..
وصادق بقسوة..
أنا خايف..
وتقوس حاجبيها بشكل غريب..
ليس خوفاً وليس قلقاً ولكن..
انهيار
هي تُسقط كل حصن أمامه رغماً عنها وتلتزم بصمت عاجز..
صمت يرفض المصارحة ويرفض الهروب
يرفض المواجهة ويرفض الإستمرار
تقف هكذا بين لا شيء سوى أنه يقترب رغماً عنه..
سوى أنها نسيت بشأن صبري ولعنت هلعها الذي استنجد به..
فجأة تحدثت..
ربما لتوقف خطواته..
ربما لتقطع هذا الشغف منه نحوها..
الشغف ليس كلمات..
الشغف هو نظرته الأخيرة نحوها وكأنه يخبرها بوضوح أن وقت اللعب
والتلميحات الجوفاء انتهى.
أن المصارحة آتية شاءت أم أبت.
ولهذا اختارت بضع حروف بنبرة مرتجفة وبأي شيء..
هي لا تمتلك وقتاً لتفكر بذريعة فلتقل شيئاً وبعدها يرحل..
وأغبى شيء
وأغبى همس من فتاة محتجزة مع رجل يضطهدها بعاطفة لا تفهمها وربما هو
أيضاً..
نطقت دون وعي:
خايف من إيه؟
وتصلب..
تجمد على بعد خطوتين منها..
سألته ما لا يود جوابه!
ربما مشاكسة القبلات أفضل في تلك اللحظة..
والحب لحظة
واللحظة متعة
والمتعة عيناها المرتجفتان مع اعترافه
خايف أحبك..
*************
ورحل..
ببهجته وطلته..
بصداحه وهواءه ونبض قلب مجنون ينتفض بين ضلوعها.
رغماً عنها هي تنبض.. كلها تنبض!
وملعون هذا الشعور وكأنه رحل وأخذ قطعة منها معه..
وبرودة ارتعابها أضحت حرارة تلتهم وجنتيها و أ رسها وعقلها المتردد..
حمزه!
هذا الذي أفزعها بليلة مظلمة عندما قررت أن تتخذ من قارب والدها أماناً بجنح
ليل, المقتحم لعالمها بضوضائه وأمواجه وصديقاته وعينيه..
وارتخت ملامحها مع صورة عينيه أمام صفحة من خيال عقلها..
هي تتهاوى رغماً عنها..
تتهاوى به..
تفكر به..
وتشرد به..
هي تحبه.
وربما مرت أكثر نصف ساعة مع صوت أنفاسها وابتسامة..
بل مع جنون وأفكار تعبث بها وتُنسيها إغلاق النافذة..
النافذة!
بهتت..
خيال آخر يرتسم أمام عينيها
قميء.. كريه.. متبجح.
هي لم تغلق النافذة لأنها لم تفتحها من الأساس..
فاتن تكره تلك النافذة وتكره منبعها من الفئ ا رن, الوصايا العشر هي عدم الإقتراب
من النافذة
وارتعشت بفزع..
أحدهم ترك النافذة مفتوحة..
*********************
نحن نعتاد المُتاح..
نبرهن لحالنا أن لنا قرار, اختيار..
والحقيقة أننا نتشبث بذيول متعة لنرضى..
منزلها اعتادته كبيرا, أربع غرف وبهو واسع فزوجها وهي وثلاث أبناء..
وكان يحيى رفيق عمرها يحلم بمكان لأحفاده ولكنه رحل قبل أن يتسنى له
رؤيتهم..
وابتسمت بجزع..
متذكرة أيام قدست فيها وحدتها..
تستيقظ فجرا وتصلي وتنال قهوة صباحية حذرها منها الطبيب..
تتجول بين محطات التلفاز دون هدف وتتناول شريحة جبن ما كإفطار.
وصديقة همست في أذنها بفكرة رفضتها بعنف..
أن تكفل طفل ما..
يتيماً دون ملجأ, تغدق عليه ويهديها حياة..
وبكت ليلتها فمع وجود ثلاث أبناء وحفيدان وثالث في الطريق هي تتسول
عائلة..
ربما مثله..
هذا الشارد الملامح دون عائلة..
ذكرى صديقتها وفكرتها المنبوذة حينها اقتحمتها مع ملامحه..
ورغم أنها اكتسبت عمل بقرار لم تتصور أنه سيهديها اختلاف إلا أن رؤية
محمود أنبتت بداخلها هذا الهاجس وتلك الأفكار القاتمة عن عزلتها..
عن حديث لا تتمتم به سوى لنفسك..
عن وجبة طعام تبتلعها وحيداً..
عن ف ا رق مقيت يلتهمك واحساس مؤلم أنك لم تعد منبع للعطاء.
وهكذا بعد مرور أسبوعين من التفكير الذي حتى منعها عن استف ا زز خالد
ونباتاته خرجت بقرار, وتوجهت في سابقة نحو اسطبلات الخيل حيث يؤدي
الصغير تدريبه هناك و أ رته..
كان يجلس فوق الرمال مرتكزا بظهره على حاجز خشبي حول مضمار الخيل..
وبدا وحده بعيداً عن فوضى العمال وعن الفرسة البندقية المتهادية في الفراغ
خلفه وفوقها الصغيرة ابنة خالد..
مدللة كقطعة سكر تذكرها بابنتها في وقت مضى..
ويبدو أنها تذمرت على السائس وتركت حصانها لتجاور محمود الذي بشكل ما
أشرق وجهه لها, بل ساعدها لأن الحمقاء أفسدت ربطة حذاءها الزهري فأعاد
عقده..
كانت تنظر ليديه بتركيز طفولي مبهج وقد استطاع أن يربط لها الحذاء كما
تريد.. وضحك من طلتها الحمقاء فهي ترتدي سروالاً قصيرا بنقوش زرقاء
مربعة فوق بلوزة صيفية بلون أحمر.. وتُصر فيما يبدو على الحذاء الزهري
برباطه الملون كقبعة بلياتشو..
ولمحت ضحكته فنظرت مغتاظة:
بتضحك عليا!
ا زدت ابتسامته ليحرك رأسه بالنفي دون جواب..
استقامت متذمرة تنظف ملابسها من الرمال وتكرر بغضب تمكن من حاجبيها
الملونان بنكهة فرستها:
لا بتضحك عليا.. مخاصماك!
تركته تميمة ليلحق بها محمود ويسبقها معترضاً طريقها كاتماً ابتسامته:
خلاص متزعليش بقى.. لو مشيتِ حفكلك رباط الشوز.
ضيقت الصغيرة عينيها وقد تفجرت بوجهها جينات العنيدة أمها وتصلب رأي
خالد فثنت جزعها لتحل رباط الحذاء وترحل!!
هكذا لقد خاصمته مجدداً وسيضطر إلى استرضاءها بالسكر..
ورغم أنه يمل دلالها أحياناً إلا أنه لا يستطيع الإستغناء عن صحبتها..
هي صديقته الوحيدة هنا والأولى أيضاً..
هو لم يصادق فتيات من قبل, اعتاد اللعب بالكرة مع أبناء الجي ا رن واعتاد شحذ
قوته ليصمد في الع ا رك معهم.
قطب حاجبيه وهو يتذكر..
بل يتذكر أن له أخت فتاة ي ا رها كل عام مرة وهي لا تعرفه وتبكي كلما اقترب
منها, وربما هو لا يهتم..
لا يكن لها أي عاطفة ولا يحفظ ملامحها..
لا هي ولا التوآمان اللذان استنفذا مجهود أمه على حد قولها..
كما أنه لا يكن أي عاطفة لخالد
بل..
بل هو يكره خالد
ابتسامته وقُبلة أمه على جبينه كل مساء..
جيتاره الأحمق وموسيقاه المزعجة وحضوره المتقطع لدروس الفروسية معه هو
وتميمة..
و..
وتلك الليلة التي أقلقت منامه وصوت أبيه وهو يقترب من ف ا رش خالد
يسترضيه.
يقبل أ رسه ويخرج من جيبه له هدية ويهمس في أذنه كم يحبه!!.. ويتذك ا ر معاً
عطلة الصيف السابق وما قبلها وقبلها وتشهد صو ا رً فوتوغ ا رفية على لحظات
متعة لم يكن له بها وجود..
وانقبض مستديرا متظاهرا بالنوم..
حتى عندما اقترب حسن من ف ا رشه وعندما قبل جبهته وعندما دس تحت غطاءه
هدية أخرى له لم يشعر بالاكتفاء..
شعر أنه مكرر.. مستنسخ..
موجود رغماً عن الجميع.
والعجوز تظهر من جديد..
تعطف عليه وكأنه فقير!!
حتى أنه رمقها تلك المرة بغضب..
غضب تحول لشيء آخر عندما سألته من جديد عن أهله
ما ا زلت لا تعلم أن حسن أبيه..
ما ا زلت تظنه عالة ربما كما يراه هو.
وببريق غامض أكد لها..
أومأ بإيجاب لكل سؤال وغادرته مقتنعة أنه يتيم..
**********************
العرض هو حياة..
بداية وأحداث ونهاية..
ولكن حينها ربما نختار..
في عينيه هروب عميق..
هل قدرها أن تهرب بعينيه للأبد؟.. ترحل دون عودة؟.. تنأى بنفسها عن
مشاعر العشق والاحتياج وتؤدي دورها كما يجب أن يكون؟.
كان لديه بيانو فخم أسود كما ذوقه..
ولعبت أصابعه على الأوتار بحرفية فيبدو أن ريشته ليست فنية الألوان فقط..
ومن دون موسيقى العالم اختارها هي..
المقطوعة التي تُذكرها به..
"مونلايت سوناتا"
أخب رها من قبل أنها لا تشبهها.. هي لا تشبه معزوفته الثمينة..
هي لا تشبه أي ثمين لديه..
ورقصت له م ا ر ا رً على أوتارها..
تمايلت لأجله وهو قابع يشاهد, أهدته متعة وقرأتها في عينيه وتغاضت عن
الغضب
عن نيرانه..
عن جحيم أفرغه فيها ومنها..
مؤلم أن تكتشف أنك مجرد وسيلة بهتت مع انقضاء الغرض.
وكانت تتأرجح باضطراب على مقعد في الجوار..
تاهت عن مراد وعن موسيقاه التي انتهت..
عادت لتلك الذكرى المنغصة الغير منسية..
ربما الموت يُنسيها
ألا يقولون أن الموت سُبات.. فلتنم قليلاً علها تنسى!
ووقف خلفها ليحيط ذراعيها المرتجفين بقبضيته..
كانت هزيلة بل نقص وزنها أكثر في خلال الأيام الفائتة..
ولكن جمالها غير قابل للنقصان..
ورغماً عنه يفكر أحياناً..
كيف يمتلك رجل امرأة مثلها ويرحل؟.
رفع جسدها بتملك لتستقيم واقفة ولكن كانت ما ا زلت ترجُف, ضمها نحوه بغريزة
ضايقتها..
مراد يقترب بشكل يخيفها ويبعثر قناعاتها بشأنه أحياناً..
كانت تشعر بأنفه المدفون خلف خصلاتها وزفرة تلو أخرى من أنفاسه وذ ا رعيه
قد أحاطاها باستحواذ.
همست برفض:
ابعد عني يا مراد
لم يجب ولم يتزحزح..
بل ظل ثابتاً لوهلة ولكنه رفع أنفاسه عن جيدها وأمال رأسه ببطء ليقترب من
أذنيها هامساً بصوت أبح:
شهرزاد ما رفضتش شهريار
التوت شفتيها..
ليست ابتسامة وانما انكسار..
حتى آخر رمق هي لم ترفض شهريار بل هو من أقصاها من جنته وقتما
شاء.
خرجت نبرتها قاتمة:
بس أنت مش شهريار.
تصلبت ملامحه لوهلة..
ربما لأنها ترفض سطوته بعالمها..
تُصِّر أن تسطر النهاية كما يود ولكن ببصمتها هي.
وهذا يزعج غروره..
أمال رأسه أكثر ليزيد همسه بتحدي:
شهريار هو اللي اختار شهرزاد مش العكس!
كانت قد بدأت تفقد احساسه حولها وبدا قيد ذراعيه وكأنه غير موجود..
تجمد نظرها حول نقطة ما في الفراغ وشردت بملامح خالد..
خالد هو شه ريار رغماً عنه وعنه
وان كان يود دور ما بعالمها فلن تعطيه أكثر من مسرور..
وهمست به فأغضبته ليحل ذراعيه من حولها فجأة ويديرها نحوه في انفعال لا
يحظى به كثيرا..
وعيناه مخيفة.. لا تنكر..
ولكنها أكملت مُجازِفة:
مين قتل خديجة؟
ولمعت عيناه أكثر..
ولم يتركها بل كان يعتصر خصرها يقصد الإيلام..
ملامح الألم بوجهها ممتعة..
تسطر بعقله لوحة يود أن يجازف برسمها الآن..
تماماً كما رسم خجل خديجة..
انتفاضتها مع أول لحظة عُري..
اختبارها للخوف من عينيه نحوها..
وتورد ملامحها بين الخجل تارة والشغف تارة..
ولكن اللوحة كانت منقوصة..
لم يكن هذا بكافِ..
لون غامض تحتاجه ريشته ليصبح للوحته معنى, أو كما يقولون بفن المسرح
الختام!
لم ترتبك ملامحه ولم ترمش عيناه..
بل أضاء لونها الأخضر ببريق النشوة التي لا يدرك معناها سواه, وقبل أن تكرر
أجابها دون تردد:
أنا..
******************
ستظل تلك الليلة عالقة بذهن تميمة إلى الأبد, رغم أنها لم تتعدَ السادسة من
العمر بعد إلا أن هذا المساء حُفرت تفاصيله بذاكرتها كما ملامح محمود..
كانت عيناها تجاهد كي لا تنام..
يئست منها إيناس بعد أكثر من عشر حواديت وتركتها تُكمل قصتها للعبتها
المحشوة لأن بابا يريد النوم أيضاً ويريد حكاية!!
ولكن يبدو أن النوم كان ضيفاً محرماً عليهم جميعاً تلك الليلة..
ص ا رخ حاد لامرأة أفزعها لتتشبث بلعبتها المفضلة وتغوص بقدميها الصغيرتين
داخل خُف وردي صغير تركض خلف خيال..
كل ما لمحته واستوعبته خيال..
بل خيالات..
أبيها يركض متعجلا بسروال بيتي وقميص يعقد أزراره على عُجالة وأمها خلفه
تحكم ربطة روب منزلي محتشم في هرولة خلفه والصوت يتكرر..
واستوعبت أنها..
"ماما رقية"
كما تفضل أن تناديها..
"ماما رقية" تضرب بكفوفها على باب غرفة مغلقة, وخالد منكمش بهلع في أحد
أركان المنزل, وأبوها يزيح الجميع ليرتطم بالباب عدة مرات قبل أن يكسره!
والخيالات تدخل الغرفة إلا خالد الصغير الذي ظل منكمشاً على حاله..
وتبعتهم هي بشعرها المشعث ومنامتها الزهرية كخُفَّها الرقيق ولعبتها التي
لمست في احتضانها آمان.
آمان كان أبعد ما يكون عن محمود المنزوي بأقصى ركن بالغ رفة وقد ضم
ركبيته لوجهه في صمت مطبق..
لا شيء..
لا صراخ ولا بكاء..
فقط نظرة ثابتة نحو رجل آخر يقف في الركن الآخر ممسكاً بحزام جلدي غليظ
وقد اشتعلت ثورة وجهه بشكل مخيف..
عيناه جحظتا باحمرار مُجهِد..
أنفاسه متسارعة وشعره مشعث ووجهه في تلك اللحظة فقد وسامته.
العم حسن يبدو مخيفاً!
وصراخ رقية توقف مع دفعة قاسية من خالد نحوه ليبعده عن محمود..
دفعة تبعتها لكمة ثم ص ا رخ..
ومحمود ثابت بجمود مخيف..
محمود الذي كانت آثار زرقة سوط أبيه ملتمعة على أعلى ذراعه..
محمود الذي صمت وصمت ولم يتزحح هارباً من عقابه..
محمود الذي قذفها بوجهه بقسوة بعد حديث امرأة حمقاء عن رغبتها في تبنيه!
نعم صرح بها محمود..
"أنت لست أبي"
وعندما زعق وانتفض واختبر الطفل أول لحظات جنونه كانت عيناه تخبره شيئاً
واحداً لا غيره..
"لا أخافك"
نعم هي ليلة ستظل عالقة في ذهن الجميع..
ليلة لكم فيها خالد صديق عمره ليؤذيه مثلما أذى طفله..
ليلة اختبر فيها الأخوان ثورة وجنون اللامبالي حسن..
ليلة أبدلت مشاعر طفل نحو آخر لتتولد شفقة أمام نبذ..
ليلة طغا فيها غضب مكتوم فوق وجوههم جميعاً..
وسحب خالد محمود بذراع واحدة ليقذفه نحو صدر إيناس بجملة نافذة:
هاتيه وتعالي.
وحمل تميمة دون أن يحيد بصره نحو أحد وعادوا إلى المنزل ومحمود معهم..
لتُحفر بذاكرتها أعقد علاقة صداقة مرت بها في طفولتها
علاقة لم تستمر..
************
أنت تقرأ
صمت الجياد بقلم /مروه جمال
Romanceسلسله عشق الجياد (همس الجياد الجزء الثاني ) تنبيه هام كل الروايات اللي علي صفحتي مش انا اللي كاتباها انا بس عجبتني الروايه و بحثت عنها ملقيتهاش علي واتباد فضيفتها عندي و اسم كل كاتبه لكل روايه موجود مع اسم الروايه