١١ سنه الا ٤ أيام

70 2 2
                                    

كل اهالي الفلوجه يتحدثون بفرحة البارحه ؛ إسقاط  طائرتين حربيه وقتل الطيارين كان شفاء لصدور الكثيرين من اهل المدينه ؛ وكان انكسار لشوكة المتخاذلين والسلبيين الذين لطالما كان الاستسلام والنزوح اول فكره تخطر على بالهم ؛ ذلك لانهم ما امنوا كما أمنا وما جاهدوا كما جاهدنا ؛ لانهم ببساطه قادرون على تحمل الذل والهوان وغير قادرين على الوصول للكرامه وإن رأوا الكرامه امامهم نبذوها والتفتوا الى ما اعتادوا عليه من إنكسار ومسكنه...

لقد رأيتُ دماء الطيارين وهي تسيل على ايدي جيراني المجاهدين ؛ لم اكن لاجرأ على رؤية الدم ؛ فكنت اغمض طرف من عيني وافتحه واتصنع القوه والوقوف امام المشهد ؛ ولكني في الحقيقه خائفه من الموت الحاضر ليأخذ ارواحهم ؛ لقد كانت حضرته مفزعه وكانوا يفارقون الحياة وكأنهم يرون جهنم امامهم بمعنى الكلمه ؛ فقد خرجوا من الدنيا بوجوه شاحبه مفزوعه ؛ لم تكن جثثهم كما عهدتُ من الجثث ؛ لقد كانت جثث نتنه وكأنها خُلقت لتكون حطب لجهنم ؛ وقلت في صدري كيف ستطيق النار هذه الجثث العفنه؟ ؛ وكيف طاقت الارض هؤلاء الناس على سطحها ؟ ؛ وكيف استطاعت ارحام امهاتهم تحمل هذا الكم الهائل من العفن ؟ ؛ تساؤلات كثيره دارت في بالي ....

نظرتُ يمينا وشمالا وكأن الشوق وخزني ؛ وكأنني شعرت بقدوم الجنه او قطعه منها ... ولم يُخطئ شعوري ..

لقد كان اخي (عمر) قادمٌ نحوي ؛ اخفق قلبي وبكيت  ... في لحظتها لا اعرف ما الذي اصابني ؛ وكأنني شعرت ان الجنه اشتاقت لاخي كثيرا كما اشتقت انا ؛ عاتبتها سرا على اخذ من احب اليها ...

جاء ليحتضنني ... ويُسلم عليَّ وعلى فرح ودنيا وليرى ابنه للمره الاولى ..

دخلنا لبيتنا وكأننا نعانقه عناق مودع ؛ لقد كان موحشا وهادئ ... عرفت حينها ان امي كانت شمس مشرقه وكنا في نهار دائم معها  فلما غابت شعرنا بوحشة الليل العميق ...

البيوت ذكريات وآمال وضحكات ودمعات ؛ الابواب تبتسم ان رأت اصحاب البيت يدخلون ؛ النوافذ تُقهقه ان رأت اصحاب البيت منها يقتربون ؛ الارضيات سعيده .. الحديقه تُحَيينا ...

لكن الامان مفقود بفقد ابي .. والنور مفقود بفقد امي ...

نظرت لاخوتي مودعه لملامحهم ... كنت اريد منهم عناق طويل .. ربما لسنين بل لدهور  ...

كان عمر يأخذ ابنه بحضنه بلهفه وشعرت ان قلبه سيخرج من مكانه فرحا بالمولود ؛ كأنه رأى نفسه حيٌ بعد ان يموت ؛ كان متعجبا من كل شيء فيه .. مبهورا بأنفه وعينه ووجناته .. اظافره واصابعه .. وبدأ بالكلام قائلا : هذا الاصابع ستهري الزناد وتلك العيون سيحسدها كل القناصون ؛ وهذه اليد ستُذيق اعداءنا الويلات....

كان عامر وعمار يتجمهرون حول عمر وكأن بيديه امل جديد وحياة جديده وفرحه جديده... كانوا فرحين بل كانوا مغمورين بالفرح...

كان نظري يتقلب بين وجوههم ثم بهتوا في عيني ... وسكنت اصواتهم فبادر عمر بالسؤال : ما بك يا حياة؟ قولي ياغاليه

فبكيت...

عامر (مبتسما): اتغارين حبيبتي؟

عمار (يقترب مني ويمسح دموعي قائلا): اخبريني ماذا تريدين ؟

حياة : اريد ذكرى !

عمر: ذكرى منا ؟

حياة: نعم... اريد ذكرى قبل ان ترحلوا

عامر : اطلبي عزيزتي ما شئتي سأعطيه لك ..

حياة : اي شيء منكم!

عمر (مداعبا وضاحكا): وهل لدينا غير الرصاص يا اوخيه ؟

قلت بفرحه : نعم .. اريد رصاصه ..

عامر : الهذه الدرجه ستسعدي بها ؟

حياة : كثيرا يااخي

اعطاني كل واحد منهم رصاصه وميزتها بواسطة الوان كانت عندي ؛ كنت سعيده وكأني اكتسبت قبسا من الجنه ...
ثم ودعتهم...
ولكني حينها عرفت ان الغياب سيطول .. ولم اعرف الى متى  ... وهل يوجد لقاء في هذه الحياة ؟...
لقد كان كل واحد منهم يُمثل قطعه من قلبي ؛ وغادر قلبي كاملا ليلتها وبقيت بلا فؤاد ... وبلا روح وبلا حياة ...

عاودت الطائرات قصفنا وكأنها تقول فالنقصف الاطفال بدلا عن الرجال ... فالاطفال اخطر ؛ والمستقبل ادهى .. وربما يكونوا اكثر ارهابا من آباءهم ... لقد كانوا يعلمون إننا لن ننتهي...

يتبع
.
.
.
.

ما بَعْدَ القَصفْحيث تعيش القصص. اكتشف الآن