3. طريقُ العودة يمرُّ من الردى.

103 27 31
                                    

سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم 🌿💞

...

بأطرافٍ مرتجفةٍ ورأس مطرق، بشهقاتٍ خفيضةٍ تفرّ من بين شفتيهِ كلّ هنيهةٍ كان يقفُ وسط الفصل وظهرهُ يوالي مقاعد زملائهِ. صوتُ المعلّم يرتفعُ مقرّعًا إياهُ لإسقاطهِ فرضًا من فروضهِ سهوًا، ومع كلّ حرفٍ يخرجُ عن ثغره يغور رأسهُ بين كتفيه محاولًا صمّ آذانهِ عن الضحكاتِ المكتومة التي استحالت قهقهاتٍ بعد أن خرج مؤنّبهُ مجهزًا على ما تبقّى للصغير من طاقة احتمال.

ثمّ وكأنَّ ما تبادر لمسامعهِ لم يكفهِ إذلالًا تتدافع أكتافهم تقذفهُ جيئةً وذهابًا وهم يشقّون طريقًا للخروج عابرينهُ دون اعتبار، ولا تزال بنانهُ متشابكةً بوطأةٍ تعرب عن قهره، ولا يزال جفناهُ مطبقانِ سعيًا في حجبهِ عن قساةِ الوجوه ورسماتِ الشّفاهِ المبتسمةِ سخريةً حتّى تيقّن أنّه يقفُ وحدهُ بعد أن أقفرَ الفصلُ من سواه.

مسحَ وجههُ بكمّيهِ وتناول الحقيبةَ بيدهِ ليخرج. شفتاهُ ما انفكّت ترتجف وما أقفلت عيناهُ للدموع منفذًا. تجاوز باب مدرستهِ دون أن ينتظرَ شقيقته، ففي ذهنهِ وما يشغلهُ كلمةٌ واحدةٌ وليس من غيرها؛ العودة.

كان الجميعُ يقول لهُ «عُد» دون أن يعرفوا بأنهُ أكثرهم رغبةً بالفرار. فيسيرُ ويسير.. لتتوقّف قدماهُ أمام طريقٍ عريضٍ تمرّ بهِ العربات من أمامهِ ثمّ تتوارى في الأفق.. ويبتغي من يخبره بما وراء الجبال، وأن لو تزحزحت، أتراهُ سيطّلع على أسقفِ القرميد المائلة تريه أن المنزل لا زال هناك قائمًا حيث تركه؟

اقترب، وتجرّه خطواتهُ طوعًا نحو المصير. ينظرُ للسياراتِ المسرعةِ ويتساءل.. أما تأخذه إحداها حيث ينتمي؟

ولأي مكانٍ هو ينتمي؟ وما المرادُ بالانتماء؟ أهوَ حيثُ استنشق أوّل دفعةِ هواءٍ أم أينما يُغمرُ بالألفةِ والأمان؟

أويكون الانتماء لمكانٍ أم لأحدٍ؟ ألأرضُ من تقيمُ ثورةً ضدّ الغريبِ أم هم ساكنوها؟

فأيًّا كان الجواب هنالك حقيقةٌ واحدة، هو لا ينتمي لهذا المكان. فلا قلبهُ متعلّقٌ به ولا احتضنت تربتهُ عزيزًا عليه.

لكنّ شكًّا لا زال ينازعُ في صدرهِ.. أتستقبلهُ بلدهُ التي تنزفُ إثر طعنةِ الحرب؟ أوَ تضمّه أمّه لتربتها الجرداء الباردة؟

إنّه يعلمُ أنّ الحربَ حاصبةٌ تذرو البنى ذروًا لتسوّيهِ بالأرض، لكنّه راضٍ بالتّربةِ ما دامت طينتهُ منها. راضٍ بركام منزلهِ ما دام للحجر ذاكرةٌ يعيشُ بها، ولا بأسَ بحُجرةٍ وجدران خاويةٍ من الروح، صامتة.. إذ أزهقَ عمره ضجيج الشّفاهِ الحاقدة.

خطوةٌ أخرى متَخذةٌ يدنو بها حيثما تربّص القدر. يخطو ابتغاء العودة ولا يدري أين تقوده أقدامه الصغيرة المتمرّدة..

ثمّ يغشى عيناه نورٌ قويٌّ ينكمش على إثره جفناهُ فيداهُ لتكوّنا قبضةً واحدةً تلجأ لصدرهِ حيثما يرتعش جدارهُ بنبضاتٍ عنيفة لبثّ الهلع، وبضجيج الأصواتِ من حولهِ كان كالأصمّ في تمييزها فتجمّدت قدماه..

اصطدام، كان هنالك بعده الألم، والكثير منه..
حدقتاهُ تنازع لترتفع، وكأن بعلوّها في محجريهِ ستبلغ السماء..
مرآه بات محدودًا ودجنة الليل استأثرت على الضّوء فتسرّبت من تحت أجفانهِ المرتعشة..

كان هنالك دفءٌ يتسرّب منه، يداهُ المتموضعة على وسطه استشعرت ما انبجس من جسدهِ كالسّيل..

أراد العبور للجانب الآخر فحسب، فإلى أيّ جانبٍ من الوجود يأخذه القدر؟

جسدهُ ظلّ يخفقُ كأجنحةِ الطير ارتعاشاً،
ثمّ ها هو الألم يخبو، ويبدأ سكون الموت يتفشّى في أطرافه والرّوح تُخليها ببطء، حشرجةُ أنفاسهِ تنقطع بشهقةٍ ما بعدها زفير... يغمض عينيهِ مستسلمًا مترقّبًا لغيهب الظلمة أن يبتلعه.

أدرك حينها أن قد أزف الرحيل إلى ديارٍ بعيدة. فها هو ذا عائدٌ كما رغب الجميعُ في عودته... دون أن يدري أين يعود؟ لحضن أمه أم لحضن الوطن..

...

انقشع الظلامُ كالغمام مفرجًا عن نور الشمس المنبلج. عيناهُ تبصر البياض ولا شيء سواه.

ثمّ يلتفت لصوتٍ يصدحُ مناديًا إيّاهُ. يجذّ الخطى حيث يقودهُ قلبهُ فيقف أسفل قنطرةً علتها زهورٌ صفراء عرفها ما إن لمحها. كانت تلك شقائق النعمان قد تآلفت في منظرٍ بديعٍ لتكون مدخلًا للجنان.

وجد نفسهُ يقفُ في مكانٍ ساحر، رفع رأسهُ يحدّق بزرقة السّماء وصفاء الغيوم التي بدت كالقطن، ثمّ أصاخ السمع لخرير المياهِ السّاربة بين الشجر الكثيف الملتفّ ذو الأوراق البارقةِ بلثم النّدى، ولزقزقة العناديل وخفقان أجنحة العصافير والفراشاتِ الملوّنةِ إذ يراها متلامعةً في الضوء كالدرر.

يسمعُ ضحكاتٍ عذبة، فيدركُ أن لم يكن هناك وحده..

هو مكانٌ كان يصبو إليه، فكلّ الأطفال ها هنا، مبتسمون، يُعوّضون بالنعيم عن حياةٍ قصيرةٍ اقتطفتها أيدٍ خشنة، ابتلعتها ظلمةُ الحروب والاضطهاد..أرواحٌ طاهرةٌ سُلبت أبسط معاني السّعادةِ ولم تذق للطفولةِ طعمًا..

لكلهم أجنحةٌ بيضاء، وآفاقٌ رحبةٌ تحتضن أمانيّهم البريئة. تملأ قلوبهم المتعطّشة رحمةً ودفئًا.

وها هو حيثُ انتماؤه. حيث المكان الذي استحقّه ورجاهُ على مرّ أيّامهِ المريرة..

...

دجنة، غيهب: ظُلمة.

شقائق النعمان ترمز للطفولة والبراءة.

***

إهداء

للطفولة التي تسلبها الحروب، الغربةوالظلم.

...

أزِف الرّحيلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن