دقات على باب القدر

7.5K 54 2
                                    

<P>رواية دقات على باب القدر دافني كلير روايات أحلام الملخص: تلك الفتاة تحد ينبغي أن ينتصر عليه. كيف لا وهو غابرييل هادسون رجل الأعمال لأنجح في نيوزيلندا. أيعقل أن ترفضه!! ومن هي التي تجرؤ على ذلك! سيحاول بكل ما أوتي من نفوذ و سحر أن يخضعها حتى لو اقتضى ذلك أن يعرض عليها العمل في شركته... إحساسه الداخلي ينبئه بأنها نوع مختلف من النساء. وسيكون عليه أن يقدم على شيء لا يمكن لأي رجل متمرس بمسائل النساء وفخور بنفسه أن يفعله. عليه أن يتقدم ببطء وحذر تماما كنمر حتى تأمن له وعندئذ ينقض... لكن غابرييل الساحر الذكي الذي لا يغفل شيئا لم يتوقع أن تكشف له ريانون أمرا لم يحسب له حسابا... الفصل الأول: 1- لقاء متعثر ريانون تكره المصاعد, إلا أن الطوابق السفلى في مواقف المبنى كانت مزدحمة حين وصلت هذا الصباح, وهي ليست مستعدة لصعود أكثر من أربعة طوابق, حاملة بين يديها صندوقا مليئا بالبلاط وأي إنسان عاقل يغتنم الفرصة الأكثر سهولة ويدخل إلى المصعد. لقد أمضت خمس سنوات من عمرها تحاول أن تكون متعقلة وطبيعية. أخذت نفسا عميقا, ودخلت إلى المصعد, ثم ضغطت على الزر الرابع وقد تملكها الارتياح لأنها بمفردها في المصعد. وما إن أوشك البابان على الالتقاء حتى باعدت بينهما يد, ودخل إلى المصعد رجل يرتدي بذلة رمادية اللون. تراجعت ريانون بسرعة إلى الخلف, والتصقت بالجدار البعيد عن باب المصعد. نظر القادم الجديد إلى الأرقام المضاءة. قالت في نفسها: لا بأس, إنه مجرد رجل عادي وبغية التأكد من هذا, رمقته بنظرة خفية, فوجدت ولدهشتها أنه ينظر إليها نظرة استكشاف, فيما يتكئ إلى جدار المصعد مكتوف اليدين, نظرت إليه, فإذا بأهدابه تخفي عينين فضيتين تتأملان وجهها, وشعرها البني الغامق, وقميصها الأبيض وتنورتها الخضراء. اقشعر بدن ريانون, وتسارعت دقات قلبها. حاولت أن تتنفس بانتظام. وان تحافظ على هدوئها, فأمسكت العلبة التي تحملها بين يديها بإحكام, وركزت نظرها على الأرقام المضيئة المتغيرة, إلا أن عقلها كان يردد لها بأن صحبة هذا الرجل ليست اعتيادية. بدا قميصه الأزرق المخطط وربطة عنقه القاتمة اللون تقليديتين ومتلائمتين تماما مع تفاصيل جسمه. أما وجهه فيشبه بوجوه تماثيل الآلهة اليونانية القديمة: وجه نحيل يميل إلى الشقرة, وشعر لوحته أشعة الشمس فزادت إلى جمالة رونقا. أضاء الرقم اثنين على لوحة الأرقام في المصعد, تلاه الرقم ثلاثة, فأربعة. تنحى الرجل ليسمح لريانون بالخروج أولا من المصعد ثم تبعها, فتوجهت مسرعة إلى الدرجات التي تقود إلى الطابق ب. وما إن وصلت إلى أسفل الدرج حتى أمسك بيدها:" يبدو هذا الصندوق ثقيلا, فدعيني أساعدك". كانت قد وضعت رجلها على الدرجة الأولى, فتراجعت إلى الخلف لترفض عرضه, إلا أنها فقدت توازنها ووقعت عن الدرج, فصدمت كوعها بحافة من الإسمنت, وأفلتت الصندوق من بين يديها. تبعثر البلاط وتكسر. شعرت بشيء من الدوار جراء الألم, فجلست على إحدى الدرجات تتفحص كوعها, وهي تصر على أسنانها وتعتصر عينيها لتمنع نفسها من البكاء. -أنا آسف!.. بدا الصوت قريبا جدا منها, فاتسعت عيناها وهي ترى الرجل ذا الوجه الشبيه بوجه آلهة اليونان, يبعد بضعة إنشات عنها. ركع الرجل أمامها على ركبة واحدة على الأرض الوسخة وتابع: -لم أقصد إخافتك. عن قرب, بدت عيناه زرقاوين, لكنهما ليستا باردتين, بل مليئتين بالشعور بالذنب: -هل أنت مجروحة؟. ونظر إلى يدها التي تغطي كوعها النازف: "دعيني أرى". أحنى رأسه حتى باتت ترى الفراغ بين خصل شعره, ولفها عطره الأخاذ. مد يده ولمسها مجدد, فتراجعت ريانون إلى الخلف وهي تهز رأسها. -سأكون بخير بعد لحظات. رد فورا:" لكنك شاحبة" لم يفاجئها كلامه, فهي تشعر بأنها شاحبة. لكن دوارها بدا يتلاشى. -أنا بخير. ولتثبت له صحة قولها حاولت الوقوف. -لا تتحركي. امتدت يد قوية لتثبتها في مكانها, فيما أضاف:" يستحسن أن ترتاحي لبرهة". وعندما قاومته لتقف, قال:" هوني على نفسك!". لم تعرف ما إذا كانت ملاحظته الأخيرة استكمالا للأولى, أم أنها أتت كرد فعل على محاولتها الهرب. إلا أن نبرة صوته المهدئة هدأت من روعها. هذا الرجل لن يعتدي عليك! بذلت جهدا لتهدأ, ولاحظت أن اليد التي تأسرها دافئة, لا بل مطمئنة. وبعد لحظات, أفلتها وراح يجمع القطع المبعثرة على الأرض ويضعها في الصندوق. -انكسر البعض منها, لذا سأستبدلها لك أو أدفع ثمنها. -ما من داع, كنت أنوي كسرها على أي حال. وفيما كان يضع بلاطتين في الصندوق, نظر إليها مبتسما ومتسائلا:" أتكسرينها لتهدئة أعصابك؟". ردت:" أستعملها للموزاييك". وتابعت عل الكلام يخفف الألم الذي تشعر به في كوعها:" معظمها مكسور على أي حال". -هل الموزاييك هواية أم مصدر رزق؟ وترددت ريانون. لا تترددي! إنه مجرد سؤال تقليدي, لا تتصرفي بغباء! -ليس تماما. -هل لي أن أعرف اسمك؟. -لا أظن ذلك!. وحين لم تجب على سؤاله, رماها بنظرة ثانية, وحدق إلى شفتيها المرسومتين, ثم أغلق الصندوق وسأل:" كيف تشعرين؟". -أنا بخير. سوت حقيبة يدها وحملتها جيدا ثم استعدت للوقوف ثانية, إلا أنها تلوت ألما. عبس الرجل:" هل أنت واثقة من أنك لم تكسري يدك؟". حركت ريانون ساعدها, لترى ما إذا كانت يدها مكسورة, فشعرت ببعض الألم,إلا أنها قالت:"إنها مجرد رضه قوية". إلا أن حمل الصندوق سيشكل لها مشكلة. -تفضلي وسأحمل الصندوق عنك. لم تملك حلا آخر, لذا صعدت الدرج وهي تشعر بخطاه خلفها. وحين وضع الصندوق في شاحنتا الصغيرة, سأل: -هل من شيء آخر أساعدك به؟. -لا شكرا, لقد فعلت ما يكفي. فرد بلطف:" حقا؟". -لم أقصد... ضحك, فيما تابعت ريانون بسرعة:" كان لطفا منك, وأقدر مساعدتك". -هذا كرم بالغ منك, إذ كنت السبب في ما أصابك. -لا, لم يكن الذنب ذنبك! ونظرا لطلته البهية ووسامته, أي امرأة كانت لتقبل مساعدته برحابة صدر , عوضا عن التعثر والوقوع أرضا في محاولة للهرب منه. سألها وهو يشير إلى الصندوق:" أثمة من بإمكانه أن يساعدك على تفريغه؟". -نعم. ومن دون أن تعطيه المزيد من التفاصيل, فتحت باب سيارتها وصعدت إليها. أغلق باب سيارتها بنظرة كئيبة, ولوح لها مودعا, ثم ارتد إلى الوراء. نظرت في المرآة فرأته ينظر إليها. وعند اختفت الشاحنة الصغيرة, فرك غابرييل هادسون يديه ثم وضعهما في جيبيه. أحسنت هادسون, لقد غيرت أسلوبك هذه المرة! فهو لم يعتد التعرف إلى النساء في مرآب السيارات, إلا أنه رفض اليوم رفضا قاطعا حتى قبل أن يشتري شركة فاشلة, ويغير أسمها ويقودها إلى القمة جاعلا منها إحدى أفضل شركات نيوزيلندا. كان مدللا من قبل الجنس اللطيف, إذ لطالما كان مظهره الوسيم مصدر نجاح وإحراج له على حد سواء, وهو لم يخف النساء يوما. لكن ما إن دخل إلى المصعد حتى تراجعت إلى الخلف ووقفت في الزاوية من دون أن تنظر إليه متيحة له فرصة أن ينظر إليها للحظات قبل أن تكتشف أنه يراقبها. بدت خائفة. عيناها الخضراوان اللوزيتا الشكل حدقتا إليه للحظة طويلة, وشفتاها الجميلتان سحرتاه, فهما مغريتان,ناعمتان, وزهريتا اللون. كان شعرها لامعا مقصوصا بطريقة بسيطة ليلامس بشرة ناعمة, وردية اللون, لون استحال شحوبا عندما تعرضت للأذى. أخفى الصندوق الذي كانت تحمله قوامها, إلا أن تنورتها كشفت عن ساقين جميلتين. أشاحت بنظرها بسرعة وهي تعض على شفتها, وقد لا حظ أنها ابتلعت ريقها وراحت تحدق إلى لوحة الأرقام في المصعد كما لو أنها قادرة على جعلها تزيد من سرعتها. شعر بتيار من المشاعر يجتاحه, وقد فاجأه رد فعله الشبيه برد فعل المراهق. فرغبته بمساعدتها على حمل الصندوق لم يكن عملا يخلو من الأنانية, فهو لم يشأ إغوائها على السلالم, إلا أنه لم يرد أن يراها تذهب, فنظرة واحدة منها كانت كفيلة بأسره وإثارة اهتمامه. لم يكن عليه أن يلمسها, فقد أخافتها لمسته وجعلتها تقع على السلالم. وتذكر وجهها الشاحب وعينيها اللتين ازداد لونهما عمقا تحت تأثير الصدمة, وفمها الجميل, فشتم منزعجا. لقد خسر فرصة التقرب منها, إذ جعلها تقع وتتألم إلى حد كاد يغمى عليها. وبعد كل ما جرى, لم يبق سوى مساعدتها في الصعود إلى سيارتها بأمان, ونسيان هذه المقابلة التي اتخذت طابع كارثة. *********** قادت ريانون بحذر وبطء, وهي تدرك أن يدها لن تحتمل الكثير من الضغط. كانت عضلات كتفيها متشنجة, وعند الضوء الأحمر في إشارة المرور, استغلت الفرصة لتمارس تمارين التنفس, كما أفلتت المقود لتريح أصابعها. حين مررت أصابعها على المقود, تذكرت بوضوح يد الغريب وهي تلامس يدها. كانت يدا قوية لكن مطمئنة. تذكرت عينيه, وكيف تغير لونهما من الرمادي الفضي, إلى ازرق شبيه بلون صبيحة نهار في الشتاء. كانت عيناه تشعان دفئا. حين أمسكت به يحدق إليها, بدت عيناه ممتنتين, ثم استحالتا معتذرتين, فقلقتين, ولاحقا فضوليتين. أصبح ضوء إشارة المرور أخضر, فداست برجلها على البنزين بتردد, ثم انطلقت. أحست وكأنها تقف على طرف حافة, وبشعور غريب في معدتها وبنبض غريب في عنقها. شعرت بحرارة تجتاح جسمها, وبتعب شديد وضعف. لقد هزها الحادث من دون شك, وستحتاج إلى بعض الوقت لتستعيد عافيتها بالكامل. وصلت ريانون إلى الفيللا القديمة في (( مونت ألبرت)) التي تتشاطرها مع شابة أخرى, وراحت تحمل البلاطات تدريجيا وتنقلها إلى غرفة نوم في الطابق الأعلى حولتها إلى مشغل. قد تتمكن لاحقا من إنجاز بعض أعمالها الصغيرة في صالت العرض الجديدة وسط المدينة, إلا أنها تتقاضى الآن أجرا مقابل لوحة كبيرة. بعد أن نقلت البلاط, نظرت إلى كوعها, ووضعت كمادة باردة في المكان المتورم. وفي وقت لاحق من الأمسية, أصرت مدبرة منزلها وهي ممرضة سابقة, على تحريك يد ريانون مرات عدة. -يدك ليست مكسورة,ولكن يستحسن أن تذهبي إلى الطبيب ليفحصها. هزت ريانون رأسها:" أعدك بالذهاب إلى الطبيب إذا لم تتحسن". بعد العشاء, غلفت ريانون البلاط بورق جرائد وحطمتها بالمطرقة بيدها اليسرى. وكما قالت للرجل الغريب في مرآب السيارات, فإن معظمها محطم أصلا. بعد أن وضعت بعض القطع المحطمة داخل التصميم, أحست بعدم رغبة في العمل فتوقفت. بعد أسبوع, ونهار الجمعة تحديدا, كانت تدخل الطابق الأرضي من المرآب حين استوقفها صوت عميق مرح, صوت رجل جعلها ترتجف إنه الإله اليوناني. لحق بها ورماها بابتسامة:" مرحبا مجددا! كيف حال يدك؟". ونظر إلى يدها الظاهرة تحت فستان لونه بيج. أجابت مندهشة قبل أن تبتسم: " بخير شكرا". -لا تزال الكدمة ظاهرة. لقد مرت المرحلة الأسوأ, إلا أن لونا بنفسجيا ما زال باديا. مرر أصبعا رجوليا على الكدمة, فاجتاحتها رجفة غريبة. -آسف, هل لايزال كوعك يؤلمك؟. -كلا. قالت هذا, وابتعدت قليلا إلى الوراء, مخلفة مسافة بينهما. رمقها بنظرة مازحة: " إذا, أعتذر لأنني تخطيت حدودي". قالت ببرودة:" لا بأس!". لا يمكنها اعتبار لمسته عدائية, فغالبا ما يلمس الناس بعضهم بشكل طبيعي, بشكل لا يثير مشاعر حميمية. توجهت إلى السلالم, فعلق على الموضوع قائلا:" ألن تستقلي المصعد؟". هزت ريانون رأسها, وعوضا عن الاعتراف بخوفها من المصاعد. قدمت عذرها المعتاد: -صعود السلالم يساعدني على الحفاظ على رشاقتي. استدار ليرافقها. -يبدو أن الأمر ينجح. وجال بنظره على قوامها, فراح كل عصب في جسمها يصرخ أشاحت بوجهها ولم تجب. سأل بنعومة, وهو يصعد السلالم إلى جوارها:" هل أعتذر مجددا؟". هزت رأسها, وانقبض حلقها, بالرغم من أن عقلها كان يردد لها أنها تتصرف بسذاجة. فأمامها رجل جذاب يعلمها أنه معجب بها. قد تسر غالبية النساء بهذا, كما أن غالبية النساء كن ليبتسمن له, ويتساهلن قليلا. كانت ريانون تدرك تماما بأنها مختلفة عن باقي النساء. وبعد قليل قال:" أشعر أنني أدين لك بنوع من التعويض. هل لي بدعوتك لشرب القهوة أو ما شابه؟ أو ربما لتناول العشاء؟". ردت بحزم:" أنت لا تدين لي بشيء". سأل:" هل أنت متزوجة؟ أو مرتبطة؟". دفعها السؤال المفاجئ إلى الرد دون تفكير:" لا!". -أنت حتما تكرهينني جدا, وأنا لا ألومك, فبعد الحادث... -أنا لا أكرهك... فأنا لا أعرفك حتى. قال بخفة:" إذا شئت..". أشكت أن تقول له إنها لا ترغب, لكنها ترددت. إذا أرادت أن تكون امرأة طبيعية, فقد حان الوقت لتبدأ بالتصرف كسيدة, آن الأوان لتنسى الماضي. وصلا إلى فسحة الدرج, فتوقف كما لو أنه يعيق مسارها بالرغم من وجود مسافة تقارب نصف المتر بينهما. سحب بطاقة من جيبه وناولها إياها قائلا: -غابرييل هادسون. أعمل في مجال النقل الجوي. اسم معروف, فغابرييل هادسون يملك إحدى أكبر الشركات الخاصة في البلد. أكدت البطاقة شكها, فالشعار المألوف مرسوم في زاوية الباقة, وقد وضع اسمه بالحرف العريض وسط البطاقة. تتمحور كافة إعلانات الشركة حول العناية والسرعة, فتصور الجناحين يحملان برفق أغراضا ثمينة ويحلقان بها في كافة أرجاء نيوزيلندا والعالم. كانت هذه الشركة ذات شعبية لأنها, وخلافا لغيرها من الشركات, توصل الغرض إلى المنزل. إنه رجل أعمال محترم, ذائع الصيت لنجاحه الباهر وهو لا يزال في العشرينات من عمره, وقد رشح العام الفائت لنيل جائزة الرجل الأغنى والأكثر تواضعا أما حياته الخاصة, فقد بقيت خاصة ولم تنشر للعلن. قالت:" استعنت بخدماتك". ومن لم يفعل فكل من له صلة بمجال الأعمال في نيوزيلندا, استعان لمرة على الأقل بخدمات شركة(( آنجل إير)) . -هل نقلنا لك لوحات الموزاييك؟. شعرت بحاجة لأن تغطي ملاحظتها السخيفة فقالت: -وأعمال فنية عائدة لأناس آخرين أيضا, بالإضافة إلى الكتب. -كتب؟. -نعم, فأنا أملك صالة عرض ومكتبة. مال برأسه قليلا:" أين؟". شعرت بأنها أعطته الكثير من المعلومات, فردت باستخفاف: -انتقلنا منذ أسابيع إلى شارع هاي. كان إيجار المكان رخيصا بالنسبة لوسط (( أوكلاند)) بالرغم من أنه ضعف ما كانت تدفعه كإيجار المحل الصغير في الضاحية, إلا أنها أملت أن يعوض عليها هذا المكان المال الذي دفعته. -ما أسمه؟ ما من جدوى من التراجع الآن: -موزاييكا. صعد شاب السلالم ومر قربهما, فاقترب غابرييل هادسون منها ليفسح له الطريق, فشكره الشاب وتابع سيره بعجل. لا مست كتفها يد قاسية مليئة بالرجولة, واشتمت رائحة عطره الزكية التي سبق4 أن لاحظتها في لقائهما الأول. بدأ بدنها يقشعر, وحنجرتها تضيق, لكنه ابتعد عنها وسمح لها بمعاودة السير, فأسرعت إلى السلالم. عندما وصلت إلى الطابق التالي, توقفت لتفسح المجال لسيارتين بالمرور وفتح باب المصعد فخرج منه عدد من الركاب سأل غابرييل: " هل ستطلعيني على اسمك؟". -ريانون, ريانون لويس. كرر, كما لو أنه يجرب وقع اسمها على السمع. -ريانون, أنت من ويلش أليس كذلك؟. -نعم في الأصل. -أرغب برؤية صالة العرض يوما ما, وقد نخرج أيضا لشرب فنجان من القهوة. كانت نبرة صوته ودية, ومطمئنة. إنه رجل متحضر, معروف, محترم, ووسيم, وناجح, وهو لن يلقى صعوبة في إيجاد امرأة أخرى في حال صدته الآن. لعله سينساها بعد لحظة واحدة, وبالرغم من ذلك ترددت: -لا أحب ترك الموظف بمفرده لفترة طويلة. اقترح:" بعد العمل إذا؟". -علي أ أراجع الحسابات وأجري الجردة. مال غابرييل برأسه وخفض عينيه, وزم فمه. ظن أنها تشعر بالحياء وبعد أن تذكرت القرار الذي اتخذته سابقا, قالت ريانون بسرعة: -يستغرق هذا الأمر عشرين إلى ثلاثين دقيقة. نحن نقفل في السادسة كافة أيام الأسبوع باستثناء السبت, إذ نقفل عند الثانية. هل قالت ما ظنت إنها قالته؟ هل قبلت دعوة رجل ما للخروج؟ قفز قلبها من مكانه ثم عاد. أومأ غابرييل يحفظ المعلومات التي قالتها له. رافقها إلى سيارتها, وكان لسانها مربوط لشدة دهشتها مما أقدمت عليه. لم يلمسها, بل انتظر حتى جلست ووضعت حزام الأمان, ثم أغلق الباب, وتراجع إلى الخلف, ملوحا لها. توجه إلى السلالم سم إلى سيارته مقطب الجبين. فبعد لقائهما الأول, ظن أن هذه المرأة تشغل تفكيره لأنه يشعر بالذنب بعد أن كان السبب في سقوطها أرضا. ولكن, حين لمحها مجددا اليوم, شعر بالحماسة تغمر قلبه, ثم أحس بضيق يعتصر صدره, وتعرقت يداه لم يختبر مثل هذا الشعور منذ المرة الأولى التي دعا فيها فتاة للخروج, حين كان لا يزال مراهقا. أما اليوم, فها هو الشعور يعاوده. أراد أن يمسك بها, أن يتأكد من بقائها بجواره إلى أن يعرف كل شيء عنها. إلا أنه تذكر, وهو يضغط على زر جهاز الإنذار في سيارته, أنها ستخاف وتهرب إذا ما لمسها. صعد في سيارته وأدار المحرك. ريانون! أحب انسياب اسمها, تماما كما أعجب بها منذ اللحظة الأولى التي وقع فيها نظره عليها. نظر في مرآته, ورجع قليلا إلى الخلف, ثم قاد سيارته في الممر إذا, لم تكن تعرف هويته! ولكن أهذا سبب كاف لتتصرف بهذه الطريقة الجافة؟ أتتصرف هكذا مع الرجال كافة؟ ترى ما الذي يدفع المرأة للتصرف بهذا القدر من الحذر؟. تبادر احتمالان إلى ذهنه, ومن دون أن يعي شد بيديه على المقود آلمه فمه فأيقن أنه يصر على أسنانه. حاول الاسترخاء, وفضل عدم الوصول إلى استنتاجات قد تكون خاطئة. فلمجرد أن امرأة ما لم ترتم بين أحضانه منذ اللحظة الأولى, ولم تتأثر بوسامة وجهه وسحره, لا يعني أنها تشكو من علة ما. لعل هذا هو ما أثار اهتمامه في ريانون, فهي لم تتصرف كغيرها من النساء, بالرغم من أنه أظهر اهتمامه بكل وضوح. لم تعكس نظراتها أي اهتمام, كما أنها لم تحب أن يلمسها. وهذا أمر ينوي تغييره. الفصل الثاني2-صفقة فنية وضع غابرييل خطته بحذر, فبعد مرور أسبوعين دخل إلى موزاييكا قبل وقت قليل من موعد الإقفال. كانت ريانون وراء الصندوق تحاسب زبونا, ولم ير أي أثر للمساعد الذي تحدثت عنه. راح ينظر إلى اللوحات والمنحوتات, وغيرها من الأعمال الفنية, ويتأمل بإمعان لوحات الموزاييك, ثم جال بنظره على رف الكتب وهو يسترق السمع إلى الحوار الجاري عند الصندوق. بدا صوت ريانون دافئا وينم عن ثقة كبيرة, وهي تصف عملية صناعة قطعة السيراميك التي اختارها الزبون, وتعرض عليه لفها وتوصيلها وحين أنهت الصفقة, شكرته وودعته بود ولطف. غادرت شابة ووالدتها المتجر بعد أن كانتا تنظران إلى المعروضات, فانتقى غابرييل كتابا عن منحوتة تقليدية من البحر الهادئ وحضر إلى الصندوق. رفت عينا ريانون حين تعرفت إليه, وعلى التوتر وجهها. لم يعجبه أن تتوتر لرؤيته, لكنه رضي بالأمر الواقع إذ أيقن أن له نوعا من التأثير عليها. بادرها بابتسامة مطمئنة, ووضع الكتاب على المنضدة, ثم أخرج من محفظته بطاقة اعتماد. بدت غير متأكدة, ولعلها تساءلت عما إذا كان قد نسيها. إنها أجمل مما يتذكر, وهي لم تفارق تفكيره منذ لقائهما الأخير حسمت المبلغ من بطاقة الاعتماد, وغلفت الكتاب برقة وناولته إياه حاول غابرييل جاهدا ألا يلمس أناملها الناعمة وهي تسلمه الكتاب. -شكرا لك. ريانون. لاحظ اتساع عينيها عندما ناداها باسمها, ثم أشار إلى لوحة موزاييك معلقة على حائط تجسد عصفورا طويل الساقين, ريشه أزرق, يقف قرب جدول ماء تحيط به نباتات وأزهار: -أهذه اللوحة من تصميمك؟ هزت رأسها:" لا, ليس هذه". -اللوحات التجريدية عند المدخل إذا لك؟ أكدت له:" نعم, إنها لي". -لقد تأثرت بها حقا!. قليل من الكلام يهدف إلى جعلها ترتاح, وينم عن مشاعر صداقة في الوقت عينه. جال بنظره في أرجاء المكان. -صالة عرض راقية وجميلة. -أشكرك. آمل أن يعجبك الكتاب. -أنا واثق من أنه سيعجبني. أيمكنك تخصيص بعض الوقت كي نخرج سويا لشرب القهوة كما وعدتني؟ ابتسم مجددا, ابتسامة مصطنعة جعلته يحتقر نفسه. ترددت ريانون, ثم قالت على عجل:" عليك أن تنتظر قليلا ريثما أنهي الحسابات". -ما من مشكلة, أأساعدك في إغلاق الأبواب؟ بدت مرتبكة قليلا. -سأغلقها حين أخرج. أتخشى أن تبقى بمفردها في مكان مغلق معه؟ لم يعرف ما إذا كان عليه أن يشعر بالإهانة أو السخط أو المرح. أغلقت الباب الزجاجي الكبير, وأدارت لافتة دون عليها ((مغلق)) ثم أخرجت المال من الصندوق, وتوجهت إلى غرفة خلفية قائلة: -تصرف بحرية وتفرج على المعروضات. وهكذا, أوضحت له تماما أنه ليس مرحب به في الغرفة الخلفية. ترى أتخفي أسرارا هناك؟. استغل غابرييل الوقت لينظر إلى المعروضات عن كثب, وقد أثارت انتباهه لوحة موزاييك كبيرة معلقة إلى الحائط. كانت الأحجار الملونة, والرسومات الفضية, والأشرطة النحاسية الملتوية تضفي غنى وأناقة على العشوائية البادية, والألوان المتضاربة والخطوط المنكسرة. حين انضمت ريانون إليه, كانت تحمل في يدها سترة رقيقة وحقيبة يد كبيرة, وقال بقوة: -أريد هذه اللوحة. إنها من صنعك أليس كذلك؟. -هل رأيت توقيعي؟. لم يكن قد فعل, إلا أنه لاحظ وبعد قولها هذا,حرفي اسمها في أسفل اللوحة على قطعة رخام. فكر في أن يقول إنه تكهن بذلك, إلا أنه ابتسم, وهز كتفيه كما لو أنها ضبطته وهو يحاول أن يتحاذق. سألت:" هل أنت جاد؟". -نعم. تماما. أذهلته المشاعر المتناقضة التي بدت على وجهها, مشاعر مزجت بين الشك, والقلق, إلا أنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها. -قد أمر لآخذها في أي وقت لاحق, لكنني أستطيع دفع ثمنها الآن إن شئت. -لا بأس, سأضع ملصقا صغيرا عليها و أدون (( مباعة)), ولكن إن عدت وغيرت رأيك........ -أنا لا أغير رأيي حين أرى شيئا يعجبني. حدق إلى عينيها, وقرأ فيهما علامات حذر. فحذر نفسه: تراجع! هذه الفتاة مختلفة عن سواها. ابتسم وقال: -هلا ذهبنا؟. -نعم -هل تحتاجين إلى هذه؟. وتناول السترة من يدها ليلبسها إياها. -لا, لا أظن ذلك. إنها أمسية دافئة, لكنه تساءل ما إذا كانت لتدعه يلبسها السترة إن كانت ترتجف من البرد. ترى بما يقحم نفسه؟ ضغطت ريانون على القفل الآلي, ونظرت إلى غابرييل وهو يغلق الباب خلفهما. بدا شعره برونزيا لا بل مائلا إلى الذهبي تحت أشعة مصابيح الإنارة في الشارع. في الشارع الضيق, تصاعد صوت موسيقى من ملهى شبه مظلم نظر غابرييل إلى اليافطة المعلقة فوق باب الملهى وقال:" أفضل أن أجد مكانا أكثر هدوءا إن كنت لا تمانعين". أومأت ريانون: -على ألا يكون صغيرا جدا. علت وجهه نظرة تساؤل, فقالت: -أريد مكانا أستطيع أن أتحرك فيه بحرية, ألا توافقني الرأي؟ إنه رجل طويل القامة, ولا بد أنه يريد مكانا يفرد فيه ساقيه. -أعلم تماما ما عنيته, فتلك الأماكن الضيقة حيث لا تسع ركبتيك, وحيث يتعين عليك الانتباه كيلا تصطدمي بجارك ليست مريحة كثيرا. مشيا جنبا إلى جنب وكان يرتدي بذلة داكنة اللون من دون ربطة عنق, وقد كشف قميصه المفتوح عن بشرته البرونزية. مشى في الاتجاه المعاكس لهما شاب وفتاة يعانق أحدهما الآخر غير عابئين بغيرهما من المشاة, وكادا يصطدما بريانون إلا أن غابرييل أمسك بخصرها بإحكام وأبعدها عن طريقهما ثم أبعد يده على الفور. وبعد أن استدارا ليتجها إلى الشارع المقابل, توقف أمام باب مضاء. -ما رأيك بهذا المكان؟. رأت ريانون عبر الزجاج العريض مساحة كبيرة و أناس يجلسون إلى طاولات مرتبة يضيء كل واحدة منها شمعدانان رائعان. أجابت:" مكلف جدا". ضحك وفتح الباب. -أستطيع أن أتحمل, ولكن هل يفي بالغرض؟. وافقت ريانون بسرعة ودخلت. قادهما النادل إلى طاولة فسألها غابرييل:" ألا تفضلين شيئا غير القهوة؟" -لا, قهوة فحسب. شكرا. -هل تناولت العشاء؟ -نعم. لقد تناولت صحن سلطة بسرعة في صالة العرض, عندما لم هناك زبائن. -وماذا عن التحلية؟ أرغب بتناول شيء ما. طلب من النادلة أن تحضر لهما قائمة التحلية, وراح ينظر من فوق قائمته إلى ريانون. -أنصحك بتناول الكاتو بالشوكولا مع الفريز, إلا أن طبق كريما الشوكولا الساخنة لذيذ للغاية إن شئت تناول شيء أخف. لم تكن ترغب في تناول شيء, إلا أنها بعد أن نظرت إلى اللائحة شعرت برغبة في تناول الحلويات. -هل ترتاد هذا المكان غالبا؟ -من وقت إلى آخر, فهو قريب من منزلي, والخدمة فيه سريعة. هذا دليل على أنه لا يملك الكثير من وقت الفراغ, أو لا يحب هدر وقته سدى وهو ما كان ليحقق ما حققه إن كان يمضي وقته في تناول التحلية والقهوة. قررت:" سأتناول كريما الشوكولا الساخنة" أراد غابرييل تناول الكاتو بالشوكولا, فطلبا اختاراه مع القهوة, ثم وضع يديه على الطاولة وقال:" أخبريني عن نفسك" أخفضت ريانون نظرها وكتفت يديها وأجابت: -صالة العرض هي مصدر رزقي, وأقوم بصنع بعض لوحات الموزاييك من وقت إلى آخر. -هل تطلب منك أعمال خاصة؟ -أحيانا.. غالبا ما أقوم بالعمل في المنزل و أبيع اللوحات في المعرض. -وأين هذا... أعني منزلك؟ رمته بنظرة غريبة:" في منطقة ماونت ألبرت". رجع غابرييل إلى الخلف:" إذا أنت من أوكلاند؟" بدا سؤاله تقليديا, مجرد حديث إلا. هزت ريانون رأسها -ولدت وترعرعت في (( بوكيكوه)) -فتاة ريفية إذا؟! -ليس تماما, فعائلتي لم تكن تعمل في مجال الزراعة. وبذلت جهدا لتسترخي ثم أضافت:" كان والدي يعمل في مجال الخدمات الكهربائية" -كان؟ صمتت قليلا ثم ردت:" إنه في دار للعناية الآن, لقد تعرض مع والدتي لحادث على الطريق السريع". سأل غابرييل بلطف, وقد ضاقت عيناه تأثرا:" ووالدتك؟". -توفيت. أصيب والدي بضرر في دماغه, وهو يحتاج إلى رعاية على مدار الساعة. حزنت عندما تذكرت كيف كان والدها وكيف أصبح الآن. -لا بد أن الأمر صعب عليك وعلى والدك. وتوقف غابرييل عن الكلام لبرهة, ثم نظر إليها و أردف:" متى حدث كل هذا؟!" -منذ نحو ست سنوات. أخفضت نظرها وتراءى الحادث أمام ناظريها من جديد. -مر من الوقت ما سمح لي بتخطي الأمر. هذا في حال استطاع المرء تخطي مثل هذه الأمر. مرر إصبعه على غطاء الطاولة للحظة, ثم نظر إليها وسأل : -هل قدم لك أحد أفراد عائلتك المساعدة؟. -جدتي, كانت رائعة معي. لولاها, لما تخطت ريانون الأحداث المروعة التي ألمت بها ذلك العام. هزت ريانون رأسها, وسألته:" هل تملك إخوة وأخوات؟." -شقيق أصغر مني وهو يعمل معي ويترأس مكتب أستراليا وأخت في الولايات المتحدة. والداي مطلقان ويعيشان في نيوزيلندا مع شركاء حياة جدد. بدا الأمر طبيعيا بالنسبة إليه, كما لم يبد متأثرا بما جرى, سألته:" كم كان عمرك؟". -عشر سنوات. لا بد أنه كان ضعيفا في سن العاشرة, وتساءلت كم عانى ليتخطى محنة انفصال والديه. تابع:" والآن, أنا في الثانية والثلاثين من عمري". فقالت بحذر:" أنا في الثالثة والعشرين". بدا حزينا:" ليتك أكبر سنا". كان عليها أن تضحك, لكنها وعوضا عن ذلك أشاحت بنظرها وراحت تلهو بملعقة موضوعة على الطاولة. -أشعر أنني أكبر سنا. -ولم هذا؟ بعد أن جالت بنظرها في أنحاء الغرفة أجابت: -أنا أدير عملا منذ كنت في السابعة عشرة من عمري وحتى قبل ذلك. -طموح مبكر؟. -ليس تماما. لاحظت أنه يتوقع المزيد من التفسير, فأردفت: -بعد الحادث ووفاة والدتي, قررت جدتي التقاعد وتعييني مكانها. اضطرت عندئذ للتوقف عن متابعة دراستها الجامعية, وقد ندمت على قرارها, لكنها اضطرت إلى ذلك. حينذاك, كانت تحت صدمة وعاجزة عن الدرس والتحضير للامتحانات, كما أصبح والدها عاجزا عن العمل. فباعت محله لتسديد متطلبات رعايته, واضطرت للعمل لكسب رزقها. سألها غابرييل:" كانت جدتك تدير صالت عرض؟" -لا , بل كانت تملك محلا في منطقة أونيهانغا, حيث تبيع أدوات الحياكة والسيراميك, وبعض اللوحات والمنحوتات. بعت أولى لوحات الموزاييك التي صممتها بعد أن استلمت العمل هناك وتطور المحل وكبر تدريجيا. وبدأ الناس يتوافدون إليه من كافة أنحاء المدينة. توقفت ريانون عن الكلام لبعض الوقت ثم تابعت:" ورثت المحل عن جدتي بعد وفاتها". رمقها غابرييل بنظرة سريعة: -ومتى حدث هذا؟ -منذ نحو ثلاث سنوات. كان مرض السرطان الذي الم بجدتها فتاكا جدا, فأودى بحياتها بسرعة إلا أن موتها ترك فراغا كبيرا في حياة ريانون. علق:"الحياة صعبة". وأيقن أنها لا تريد الكلام في هذا الموضوع أكثر, فقال:" افتتاح صالة عرض في هذا الشارع خطوة جريئة". -إنها مخاطرة... ولكنني اكتسبت خبرة كافية تؤهلني للمضي قدما. نظر إليها مفكرا:" أنت لا تستخفين بالمخاطر, أليس كذلك؟". استقامت حذرة:" أحب أن أعلم إلى أين أتجه". -من الممتع أحيانا أن يخطو المرء خطوة في المجهول, فلا أحد يعلم إلى أين قد تقوده. تحولت عيناه إلى لون فضي مشع في ضوء الشموع, فأسرها جمالهما لوقت طويل. أحضرت النادلة طبقي الحلوى, وانكسر جدار الصمت والتأمل. أمسكت ريانون بملعقتها وحولت انتباهها إلى الصحن الموضوع أمامها, وبعد أن تناولت ملعقة سألها غابرييل:" كيف تجدينه؟" أجبرت نفسها على النظر إليه, ولم تر في عينيه سوى نظرة تساؤل بريئة. -لذيذ جدا, بل رائع. نظر إليها وهي تتناول ملعقة ثانية من كريما الشوكولا, ثم وضع ملعقته في قطعة الكاتو قبل أن يسألها:" ألا تؤلمك يدك؟" -إنها مجرد رضه. سألها:" هل لك أن تخبريني لما خفت إلى هذا الحد؟" شدت على الملعقة وشعرت ببدنها يقشعر, أخذت نفسا عميقا وأجابت: -لقد أخفتني ليس إلا. وتابعت تناول الحلوى. وبعد أن تناولت بضع ملاعق, رغبت في إن تغير الحديث فسألته:" كيف بدأت العمل في مجال النقل الجوي؟". رماها بنظرة حماسية وقال:" بدأت العمل في هذا المجال صدفة كنت أعمل في المطار في قسم خدمة الزبائن, حين علمت أن شركة نقل جوي توشك أن تفلس. بدت لي فرصة جيدة, فقررت شراءها والعمل على إنهاضها من جديد". -أكنت تملك المال الكافي؟. -عاملني المصرف بكرم. لكني اضطررت أولا إلى إقناع المسئولين فيه بقدرتي على قلب هذه الشركة رأسا على عقب, وتحويلها إلى استثمار ناجح. -لابد أنك كنت مقنعا جدا. كان يمسك فنجان القهوة في يده, فنظر إليها وقال: -أستطيع أن أكون مقنعا جدا إن شئت ذلك. رأت نظرة التساؤل في عينيه مجددا, وبذلت جهدا كبيرا كيلا تشيح بنظرها. -وعرض جدي, باركه الله, أن يكفلني لأحصل على القرض من المصرف. إذا, فهو متعلق بجده!لعل الأمر ساعده عند انفصال والديه. تناول قطعة حلوى, وأردف مطرقا:" لقد رحل جدي الآن. كان يملك كرة أرضية كبيرة في صالة الجلوس, وقد شرح لي مبدأ السفر حول العالم والانطلاق من نقطة ما والعودة إليها". -كم كان عمرك حينذاك؟. -حوالي خمس سنوات. ومنذ ذلك الحين, أتذكره كلما رأيت كرة أرضية. ولعله السبب في اختياري النقل الجوي. رفع فنجان القهوة إلى شفتيه, فحدقت إلى عنقه وراقبت نزول القهوة في حلقه, ثم راقبته مأخوذة حتى أخفض الفنجان من يده, فركزت انتباهها بسرعة على صحنها وعلقت: -لم يكن سهلا عندما بدأت, أليس كذلك؟. -كان تحديا. وراح يقص عليها قصة مهنته, وكيف انطلق بالعمل, والعقبات التي واجهها, وكيف صار النجاح حليفه. شعرت باندهاش لحماسته وأسرها حديثه. توقف عن الكلام: -أظنك ما كنت تريدين معرفة هذا القدر من المعلومات. -إن كلامك مثير للاهتمام. رفع حاجبيه ولوى شفتيه قليلا:" أهذا ما يثير اهتمامك؟ الحديث عن الأعمال؟". ارتبكت ريانون لهذا التلميح فضحكت عيناه, فيما علا الاحمرار وجنتيها. شعر بالتسلية, فقال:" أعتبر التزحلق على الجليد, والهبوط بالمظلة والقفز من الطائرة نشاطات مثيرة للاهتمام, لكن الكلام عن الأعمال لا يندرج حتما في هذه الفئة". وهز رأسه ثم أضاف:" أنت لا تعرفين معنى الحياة يا صغيرتي". شددت ريانون على الكلمة الأخيرة:" أنا لست بطفلة صغيرة!". ذكرها:" أنا أكبر منك بتسع سنوات". -نعم, يا جدي!!! وبخها مازحا:" وأنا لست بجدك أيضا". ارتشفت ريانون رشفة كبيرة من قهوتها. لا, إنه لا يبدو جدا! -هل مارست ما تحدثت عنه؟ أعني التزحلق على الجليد, والهبوط بالمظلة, والقفز من الطائرة... -وغيرها! بدا أنه يحاول ألا يضحك. تسمرت ريانون بفعل نظرته الثاقبة وتحديه الواضح, وباتت عاجزة عن التنفس. إلا أنها لم تخف. لم يضغط عليها أكثر, وقد سرت بذلك, فهذا جديد عليها ويجب ألا تستعجل الأمور. لم يقل المزيد إلى أن أنهى قطعة الكاتو, ورجع إلى الوراء ينتظر ريثما تنهي صحنها ثم سأل: -ماذا فعلت بقطع البلاط تلك؟. أخبرت9 عن طلبية الكنيسة, وأجابت عن أسئلته عن الأدوات والتقنيات المستخدمة في صنع الموزاييك. وحين ذكرت أنها تستخدم بلاط ألابنيه التي تهدم, قال: -المبنى المجاور لي يهدم الآن. -أحقا؟ مضى وقت طويل لم تذهب فيه إلى تلك المنطقة. فقال وهو يبعد فنجان القهوة الفارغ:" ربما عليك الذهاب إلى هناك علك تجدين ما يثير اهتمامك. هل تريدين فنجانا آخر من القهوة؟". رفضت, فهي لا ترغب بمزيد من القهوة, لكنها لا تريد المغادرة أيضا, وقد دهشت لهذا, وأيقنت أنها تمضي وقتا ممتعا. إلا أنهما لا يستطيعان قضاء الليل بطوله في هذا المكان فحملت حقيبتها وارتدت سترتها. -شكرا على دعوتك, كان هذا لطفا منك. فيما هما في المطعم, انهمر المطر. وما إن خرجا من المطعم حتى شعرا بالأرض الرطبة, وكان البخار يتصاعد فليلا من الإسفلت الدافئ بسبب أشعة الشمس في النهار. قال غابرييل, وهو يضع يده خلف ظهرها:" حذار, قد تكون الأرض زلقة! هل سيارتك مركونة في الموقف؟". نعم, ولكن لا داعي لمرافقتي. -أنا ذاهب لإحضار سيارتي, كما أنني لن أتركك بمفردك في الشارع ليلا. كانت تشعر بيده خلف ظهرها, ولم يزعجها هذا, كما لم تبتعد عنه إلى أن وصلت إلى سيارتها, وأطفأت جهاز الإنذار. وقبل أن تصعد إلى السيارة, استوقفها وأدارها نحوه, وجال بنظره على وجهها. أحست بانقباض في معدتها لم تعهده من قبل, وعجزت عن الحراك فتسمرت في مكانها تصارع شعورا من القلق والفضول. قطب غابرييل حاجبيه, ثم لامس خدها بخفة: -عمت مساءا ريانون. فتح لها باب السيارة وتراجع إلى الخلف بعد أن أدارت المحرك وقف ينظر إليها تختفي وهو لا يزال يشعر بحرارة جسمها على يده وبدأ يتخيل ملمس بشرتها الناعمة. لقد بذل الكثير من الجهد لئلا يقربها منه ويعانقها. شعر بارتجافتها الصغيرة حين وضع يده على ظهرها, ما منعه من التصرف بجسارة أكبر. فلو كان برفقة امرأة أخرى, لأدرك أن هذا الارتجاف دليل على الرغبة, ولكن ليس مع ريانون... لقد بدت جامدة جدا وباردة منذ دخل إلى صالة العرض. اتجه إلى المصعد, وضغط على الزر. تبا, لقد بدت باردة, باردة للغاية! باردة وخدرة. لم تفصح عن الكثير إلا حين أبدى تلك الملاحظة المستترة, فاحمرت وجنتاها كفتاة مراهقة. هل البرودة غطاء وواجهة؟ واجهة لتخفي ماذا؟ الخوف! نعم الخوف. ما كان ليشتبه بالأمر لو لم يفاجئها في لقائهما الأول, وقد بدت مرتعبة عندما عرض عليها المساعدة بشكل بريء خال من أي نية سيئة لم تستطع تمالك نفسها, وقد تجردت من سلاحها فورا. فتح باب المصعد, وفي الداخل, رأى فتاة جميلة ابتسمت له ابتسامه عريضة وهو يضغط على الزر. شعر بنظراتها تراقبه إلا أنه لم يبادلها النظر. حين تواجد مع ريانون في الوضع نفسه, تراجعت تلك الأخيرة ووقفت في الزاوية. أما المرأة التي شاركها المصعد الآن. فتقدمت حين توقف المصعد ورمته بنظرة إعجاب وخرجت, كان لديه متسع من الوقت ليتبعها قبل أن يقفل المصعد أبوابه إلا أنه لم يفعل. في صالة العرض, بدت ريانون واثقة تماما من نفسها, إلا أنها تغيرت كليا حين اقترب غابرييل منها, بالرغم من محاولتها الحفاظ على هدوئها بارتدائها قناعا تختبئ خلفه. سقط القناع حين تحدثت عن عملها, إلا أنها عادت ولبسته كلما لمح إلى أمر يتعلق بالمشاعر والأحاسيس. بدا وكأنها لا تجيد التعامل مع هذه المواقف. فتح باب المصعد وخرج منه ثم ابتسم من دون أن يعي السبب. لعله يستطيع أن يلقنها الغزل. شكل شراء اللوحة حجة اغتنمها غابرييل ليزور صالة العرض في نهار السبت قبل إقفال الأبواب بعشر دقائق. وجد ريانون واقفة وراء الصندوق, تدقق في دفتر موضوع أمامها. -مرحبا! نظرت إلى الأعلى وتسمرت عيناها عليه للحظات, ثم ابتسمت بتردد: -أهلا! ونظر إلى لوحة الموزاييك ورأى عليها ملصقا أحمر. -لقد تذكرت. حاولت ريانون تمالك أعصابها, والظهور بمظهر شخص محترف. -كنت سأتصل بك يوم الاثنين لأسألك إن كنت تريد أن نوصل اللوحة إليك. -سآخذها بنفسي. -الآن؟ طبعا. سمعت صوت جرس الباب, فالتفتت وإذا بثنائي ياباني متوسط العمر يدخل. عندئذ, استدارت إلى الباب المفتوح جزئيا خلف الصندوق ونادت:" بيري؟". ظهر شاب عريض الكتفين, بشرته داكنة ناعمة, وعيناه واسعتان سوداوان, وشعره مربوط إلى الخلف. كان يرتدي قميصا ضيقا. يبرز عضلاته, وسروالا من الجلد بنفسجي اللون. رمى ريانون بنظرة ساحرة وسأل:" نعم, سيدتي؟". -سيشتري السيد هادسون لوحة الموزاييك تلك, فهلا وضبتها له من فضلك؟ -طبعا!. تقدم بيري من اللوحة وحملها بسهولة وحذر, ثم اتجه من جديد إلى الباب الذي خرج منه. تنحنحت ريانون ثم نظرت إلى غابرييل فرأته مقطب الجبين, وسألت: -كيف تريد أن تسدد ثمن اللوحة؟. مد يده إلى محفظته ليخرج بطاقة اعتماده, وقد شعر بالانزعاج لأنها تعامله كشخص غريب. كما أن رؤية بيري أزعجته قليلا أيضا. فحين تحدثت ريانون عن مساعد في صالة العرض, توقع أن يرى رجلا مسنا, وليس شابا مفتول العضلات, يفعل كل ما بوسعه ليظهر مفاتنه. وراحت أفكار غريبة تدور في خلده, إن كانت لا تمانع في رؤية هذا الشاب يوميا, فهي حتما لا تخجل من الرجال. لعلها تخجل من بعض الرجال فحسب, منه على سبيل المثال. رآها تحمل بطاقة الاعتماد لإتمام عملية البيع, وقد أحنت رأسها قليلا, ثم تذكر أنها قالت له إنها ليست مرتبطة. كان الثنائي الياباني يتجادل حول إناء خشبي يحملانه, ويدققان فيه. أعادت ريانون بطاقة الاعتماد إلى غابرييل, وقالت:" لن يتأخر بيري في إحضار اللوحة". ثم اتجهت نحو الثنائي الياباني. لف بيري لوحة الموزاييك وأحسن توضبيها. -تفضل يا رجل! أعني يا سيدي! رمى ريانون بنظرة مرح إلا أنها كانت تركز على السائحين, فهما لا يجيدان الانكليزية. -أتريدني أن أوصل اللوحة إلى سيارتك؟. -لا, شكرا, دعها هنا. فأنا أنتظر لأتحدث إلى ربة عملك. جاء رد غابرييل مختصرا وحازما فهو لا ينوي أن يمشي برفقة كتلة العضلات هذه في الشارع. -طبعا. وضع بيري اللوحة أسفل الصندوق ونظر إليه نظرة حادة. قرر الثنائي شراء الإناء الخشبي, وفيما كانا يقتربان من الصندوق ليسددا ثمنه طلبت ريانون من بيري توضيب الإناء في علبه وتحضيره للشحن. حمل بيري الإناء إلى الغرفة الخلفية ليوضبه, فوقفت ريانون بهدوء تنتظر ريثما يعطيها الزوجان العنوان. وبقي غابرييل واقفا في مكانه. بعد رحيل الثنائي, استدارت ريانون إلى غابرييل وسألته مشيرة إلى اللوحة: -هل سيوصل بيري لوحتك إلى السيارة؟. واستدارت لتنادي بيري, لكن غابرييل مد يده ليمسكها ثم انتبه فأسدل يده وقال: -لا أحتاج بيري. وصمت لبرهة, ثم أردف:" هل تناولت الطعام؟" -غالبا ما يكون المعرض مكتظا يوم السبت, لذا لا أتناول الطعام حتى أعود إلى المنزل. -إذن تناولي الطعام معي! -لم؟. ألا تعرف معنى الخروج في موعد؟ رفع حاجبه, وبدت ريانون مرتبكة وهي تعض شفتها السفلى, وقد احمرت وجنتاها. عندئذ, انتقل غابرييل إلى الخطة البديلة. -أريد أن أتحدث إليك بخصوص بعض الأعمال!. اتسعت عيناها:" أي نوع من الأعمال؟". -اسمحي لي أن أدعوك لتناول غداء متأخر, وسأخبرك بذلك. أخفضت ناظريها, فرأى قميصها يهتز وهي تأخذ نفسا عميقا. ثم رفعت رأسها والتقت أعينهما و أجابت:" حسنا". لم يكن غابرييل مستعدا للحظة الانتصار هذه, ولشدة فرحه, تمنى لو يضمها إلى صدرها بكل حنان وحب. إلا أنه أومأ وقال:" يمكننا أن ننصرف متى شئت". اختار طاولة تظللها شمسية وقد سرت ريانون لأنهما جلسا خارجا. وفيما كانت تتناول السلطة, وغابرييل يأكل الدجاج المحمر, سألها: -منذ متى يعمل لديك بيري؟ -منذ أن انتقلت إلى صالة العرض الجديدة. لقد بعت بعض أعماله في السنتين الماضيتين وكان يحضر لمساعدتي في فترة عيد الميلاد: -أهو نحات؟. -علمه عمه فن النحت النيوزيلندي, إلا أنه مهتم بشكل خاص بالمزج بين هذا الفن والفن الحديث. عمله هذا لا يدر عليه ما يكفي من المال ليقتات, وبما أنني كنت أحتاج إلى مساعد عندما انتقلت إلى هنا عرضت عليه الوظيفة. فرح بيري كثيرا بعرض العمل الذي قدمته له ريانون, وهي لم تندم يوما على ما فعلته. جاءت نظرات غابرييل حادة, ثاقبة. -أراهن على أنه مفيد لصالة العرض. -إنه متوقد الذكاء وقوي البنية. بعض الأعمال الفنية المعروضة في صالة العرض ثقيلة ودقيقة جدا كاللوحة التي اختارها غابرييل, لذا ترتاح ريانون لوجود بيري للمساعدة, فأردفت: -وقد نال شهادة في الفنون. أومأ غابرييل وتناول حبة بطاطا. من جهتها, تناولت ريانون قطعة زيتون أسود ووضعت البذرة في جوار الصحن بتأن: -ما هو العمل الذي أردت أن تحدثني عنه؟ عندئذ, تذكر أنه دعاها لغداء عمل قال: -ثمة حائط إسمنتي فارغ في مبنى ((آنجل إير)). في الواقع, أصبح هذا الحائط فارغا منذ الأمس فقط حين قرر أن السجادة الموضوعة عليه قديمة الطراز ومليئة بالغبار, وأمر بنزعها. وتابع: -يحتاج هذا الحائط إلى عمل فني لتزيينه, كلوحة موزاييك على سبيل المثال. لو ظن أنها ستقفز فرحا لمجرد أنه عرض عليها تزيين حائط في شركته, فهو مخطئ تماما. بدت هادئة جدا, وتناولت بشوكتها حبة زيتون أخرى, وسألت:" لم أنا؟". لأنني عاجز عن إبعادك عن فكري! لأنه يريد أن يتعرف إليها عن كثب, وأن يتأكد من أنها لن تفلت منه بسهولة فيما يزيل القناع الذي تضعه أمام الناس, ليكتشف جوهرها. لأنه يريد أن يضمن عدم هروبها منه إذا عرفت كم يرغب في التعرف إليها, التعرف إلى كل جزء منها, بكل ما للكلمة من معنى. لأن سحره الذي لا يقاوم لم ينجح مع هذه المرأة. قال:" أحب عملك!". بدت مشككة. -أتريد أن تقوم فنانة غير معروفة بهذا العمل؟. -لقد عرفت الكثير عنك, و... -ماذا؟. أخفضت الشوكة من يدها, واستحال وجهها شاحبا, ثم سألت: -كيف؟. رد عليها, وهو ينظر إلى عينيها اللامعتين:" سألت عنك في الوسط الفني". ارتاب من رد فعلها, لذا لم يخبرها عن عدد الأشخاص الذين سألهم عنها. -قالوا إنك فنانة واعدة, ومن الممتع رؤية أعمالك. هذه هي المعلومات التي تمكن من معرفتها. بدت متفاجئة, وعاد اللون إلى وجهها تدريجيا. نظرت إلى صحن السلطة وأبعدت قطع الخس. -ألا تفضل أن يعمل لديك شخص ذائع الصيت؟. -أشعر بسرور أكبر عندما أدعم فنانا ناشئا. ابتسم وتابع:" وهكذا عندما تصبحين معروفة, يسعني أن أقول إنني كنت من أوائل الذين تنبهوا إلى موهبتك". -وماذا لو لم أصبح مشهورة أبدا؟. -ألا تعتقدين أنك ستصبحين مشهورة يوما؟. -لم أفكر يوما في هذا, فأنا أستمتع بالقيام بعملي الآن. قالت له إنها ليست طموحة بالرغم من نجاحها النسبي. ترى ما الذي يسيرها؟ أهو حبها للفن أم حاجتها إلى المال؟ لعله قادر على الاستفادة من هذه النقطة الأخيرة. -هل ستفكرين في اقتراحي؟ أنا مستعد لأن أدفع لك مبلغا كبيرا من المال. -لا أملك الكثير من الوقت حاليا مع افتتاح صالة العرض الجديدة. كما يتوجب علي إنها العمل الذي أقوم به حاليا. بدت صعبة المنال. -أنا مستعد للانتظار. إذا اضطر لذلك!لم يكن غابرييل صبورا بطبعه, إلا أنه تعلم أن الصبر مفتاح النجاح. شعر غابرييل أن ريانون تحاول تأجيل الموضوع إلى أجل بعيد. لكنها سألت وهي تلهو بصحن السلطة:" ما مساحة الحائط؟". -ثلاثة أمتار ضرب خمسة تقريبا. اتسعت عيناها: -أهو حائط كبير إلى هذا الحد؟. لاحظ نظرة الاهتمام في عينيها وتابع:" إنه صعب, فهو ليس أملس كما أنه نصف دائري. يمكنني أن أريك إياه بعد الغداء إن شئت". تناولت حب زيتون أخرى, وراحت تحدق إليها كما لو أنها كرة من الكريستال, فقالت:" حسنا, سألقي نظرة عليه". قادها غابرييل إلى مبنى آنجل إير, ولاحظت أن مكاتب الشركة تقع في الطابق الثالث, في حين تشغل غيرها من الشركات الطوابق الأخرى من المبنى. -من هنا. وأشار غابرييل إلى السلالم حيث يظهر حائط نصف دائري من الاسمنت. -يقع المصعد الرئيسي وراءه والجهة الثانية زجاجية. تذكرت هذا الحائط بشكل غامض إذ زارت المبنى من قبل, إنه تحفة هندسية. سأل غابرييل:" هل يسعك صنع لوحة موزاييك تتناسب وهذا الحائط؟". حذرته ريانون وقد بان عليها بعض الحماس: -هذا العمل تحد على صعيدي التصميم والتنفيذ, وعلى الصعيد المالي أيضا. -ما من مشكلة!. سألت وهي تصعد السلالم: -أظنك تفضل الحصول على تصميم متعلق بشركتك, لأنكم تملكون المبنى. اقتربت من الحائط, ورفعت نظرها إلى الأعلى لتكون فكرة واضحة عن مدى ارتفاعه, ثم مررت يدها عليه تتحسسه. نظر غابرييل إلى يدها, ثم حدق إلى وجهها كالمسحور. -هذه فكرة جيدة, و لكنني لا أريد أن تكون اللوحة عبارة عن شعار الشركة. ابتسمت ريانون:" أرحتني بقولك هذا!" -ألا يعجبك شعار شركتنا؟. -لم أقصد هذا, كل ما في الأمر أنني لا أريد تكرار تصميم شخص آخر أو نسخه. -كنت أفكر في شيء أكثر تفردا وإبداعا. -سيحتاج هذا إلى بعض الوقت, كما أنني لا أستطيع تخصيص وقتي كله لإتمام العمل. -قلت لك إنني مستعد للانتظار حتى تتفرغي. ظهر العزم في عينيه, فجعلتها نظرته الثاقبة تتنفس بشكل غير طبيعي. وخيل إليها أنها تقف على حافة هاوية وليس على أرض متينة صلبة. حصرت تفكيرها بالعمل كي تسيطر قليلا على نفسها, ثم قالت بعد أن استعادت رباطة جأشها: -علي أن أعمل على هذا المشروع بعد ساعات الدوام الرسمي. -سيكون هذا أفضل, كما أن أفكارك لن تتشتت بسبب المارة والعاملين في المبنى. -كما سأحتاج إلى سقالة, لكنها ستحتل بعض المكان. -حسنا! نظر إلى الحائط وتابع: -نستطيع تدبر هذا الأمر. سأتحدث إلى العمال الذين وضعوا السقالة في المبنى المجاور حين بدأوا بهدمه, لعلهم يهتمون بعمل صغير. -ما اسم الشركة التي تقوم بهدم المبنى؟ أود التحدث إليهم والحصول على إذن باستعمال البلاط المكسور. دون لها اسم الشركة ثم سألها مشيرا إلى الحائط:" إذا, ما رأيك؟". ما من سبب منطقي يدفعها إلى رفض اقتراحه, فهذا عمل مريح, وغابرييل مستعد لدفع مبلغ كبير من المال. كما أن فكرة العمل مثيرة للاهتمام, وعرض عملها في مكان يزوره مئات الأشخاص يوميا ليس بفكرة سيئة, إذ ستصبح معروفة, وقد تستقطب بهذه الطريقة زبائنا جددا. وفي حال جنت مالا كافيا من عملها الفني, فقد توظف موظفين جددا في صالة العرض وتخصص المزيد من الوقت لفنها. حسمت الأمر قائلة: -إن كنت واثقا من رغبتك في تسليمي هذا العمل, فأنا مستعدة لقبوله. ابتسم كما لو أنها تسليه:" أنا واثق من أنني أريدك يا ريانون". بدا صوته منخفضا, فأثار فيها شعورا غريبا بالشك, والاستغراب والدهشة والمرح. حاولت السيطرة على نفسها:" ألديك أفكار محددة؟" عض على شفته السفلى, ورفع أحد حاجبيه, ثم قال: -أتعنين بخصوص التصميم؟ لك الحرية المطلقة, ولكنني سأكون ممتنا لك إذا استشرتني. -طبعا. سأضع بعض الرسومات الأولية, وأحدد التكاليف, والمهلة التي أحتاج إليها لإتمام العمل. -سأترقب هذا بفارغ الصبر. رماها بابتسامة ودودة, ساحرة, فانقطعت أنفاسها لبرهة. وضعت يدها على الحائط الأملس لتحافظ على توازنها, وهبطت السلالم على مهل, وهي تنظر إلى رجليها. وقف غابرييل بجانبها, وهو يضع يديه في جيبيه من دون توتر: -لابد أن القدر جمعنا, الثنائي المثالي! أوشكت أن تتعثر, فاستدار بسرعة نحوها, ومد يده ليمسك بها. وقف أمامها, وتقابلت أعينهما. -أنت وحائطي! هل أنت بخير؟. -نعم!. لكن قلبها كان يقفز من مكانه. لم يبتعد بسرعة عنها. -أنت بأمان معي!. ابتلعت ريانون ريقها:" لم أكن سأقع!". ابتسم ابتسامة ساحرة صغيرة:" لا أمانع, كما أنني هنا مستعد للإمساك بك". -لا أحتاج لأن يمسكني أحد. بدا صوتها وكأن شيئا ما يخنقها. -ولا تريدين أن يمسكك أحد. تحدث غابرييل ببطء وهو يتأمل وجهها. هزت ريانون رأسها, وهي عاجزة عن الكلام, فق غمرتها أحاسيس جديدة, شيء من الحماسة ممزوج بالخوف وبشعور آخر, غريب تماما عنها. أحست بدفء في رجليها يضعفهما, دفء يرتفع إلى خديها ويجعل حلقها جافا رطبت شفتيها فتسمرت عينا غابرييل عليها. وازدادت نبضات قلبها سرعة فخالة أنها ستختنق. قال بصوت يرتجف:" يستحسن بنا أن نخرج من هنا!". مشى أمامها, فأسرعت الخطى وراءه متجاهلة اليد التي مدها لها حين وصلت إلى آخر السلم. لم يعلق على الأمر, إلا أن الانزعاج ظهر في عينيه, لم تتجرأ ريانون على التكلم إلى أن خرجا من المبنى مستخدمين بابا جانبيا متخصصا للموظفين. قال وهو يطفئ جهاز الإنذار:" هذه طريق مختصرة إلى صالة العرض خاصتك". -لا بد أنك تريد إحضار لوحة الموزاييك من صالة العرض؟. عندما وصلا, فتحت قفل الباب ووقفت تنظر إليه يحمل لوحة الموزاييك. قال:" سأعلمك بما يستجد عندما يتسنى لي الوقت لدراسة المشروع الذي عرضته علي". -ألن تغادري الآن؟ -لدي بعض الأعمال التي علي انجازها هنا. كانت لا تزال تجهز الغرفة الخلفية لكي تتمكن من تنفيذ أعمالها الفنية فيها. -أراك لاحقا إذا!. ابتسم غابرييل ووقفت تراقبه يغادر. مرت ثواني طويلة قبل أن تتمكن من التوجه إلى الغرفة الخلفية لصالة العرض. في الأيام القليلة التالية, أوشكت ريانون على الاتصال بغابرييل مرات عدة لتخبره بأنها عاجزة عن تسلم المشروع الذي عرضه عليها. كانت تشعر بالضعف وهي معه, ولقد أيقنت أنها لن تستطيع الحفاظ على الجدار الواقي الذي بنته حول نفسها طالما أنها بقربه. إنه الرجل الأول الذي يهدد أمنها. لم تكن تعلم كيف تتعامل مع بريق عينيه, وبسمته عندما يبدي ملاحظة تحمل معنيين, ويتظاهر بأنه لم ينتبه لارتباكها. ففي تلك الليلة, عندما رافقها إلى سيارتها بعدما تناولا القهوة والحلوى, و أحنى رأسه باتجاهها, عرفت أنه سيعانقها. وقفت مبهورة, ولم تبد أي تجاوب معه, ولم تشجعه, فعاد ولامس وجنتها بخفة. وبعد مرور ساعات على فراقهما, خيل إليها أنها لا تزال تشعر بدفء أصابعه على خدها. إنه انجذاب جسدي, هذا ما قالته لنفسها صباح الثلاثاء, وهي تنحني على أرض مشغلها لتوضب آنية زجاجية داخل علبة. إنه انجذاب جسدي ليس إلا, وهو شعور طبيعي, طبيعي للغاية! جلست على الأرض مذهولة, متفاجئة من التحليل الذي توصلت إليه ومضت دقائق عدة عليها وهي جالسة على الأرض عاجزة عن الوقوف لشدة ذهولها. بعد أن أقفلت العلبة, تناولت ملصقا لشركة النقل الجوي, وتلمست الجناحين, شعار الشركة, ثم وضعت الملصق على العلبة بكثير من التأني. غابرييل, هذا اسم ملاك. لكن غابرييل هادسون رجل, رجل بكل ما للكلمة من معنى. أدركت ريانون هذا منذ أول لقاء لهما. كان رد فعلها إنذارا لها, لكن عندما اهتم بها بعد أن وقعت, تحول شعور الإنذار إلى مشاعر أخرى لم تعرف لها مثيلا قط, مشاعر غريبة عنها إلى حد أنها لم تعرفها ولم تتمكن من تحديدها. شعرت بانجذاب نحو غابرييل. لم يكن انجذابا عاطفيا رومانسيا أو افتتانا بحسن معاملته بل انجذابا جسديا أيضا. أما هو فأظهر لها اهتمامه بوضوح. تذكرت أنها شعرت بالصدمة عندما قال لها إنه سأل عنها, وبضرورة توخي الحذر. تناولت القلم, إلا أنها انتظرت قليلا ريثما تتوقف يدها عن الارتجاف, ثم عادت ودونت العنوان على ملصق شركة آنجل إير. كانت مخطئة في تحليل السبب الذي دفعه إلى التحري عنها, فقد أراد غابرييل معرفة ما إذا كانت جديرة بإنجاز عمل فني على حائط مبناه. هذا أمر طبيعي للغاية, ومشروع أيضا. فهي لا تستطيع المضي قدما في حياتها, وهي تشكك في دوافع كل رجل يعترض طريقها. الخوف سجن. لعل ما يجري معها الآن هو فرصتها للخروج من هذا السجن. فنساء كثيرات في سنها عرفن عددا من الرجال ومن العلاقات العاطفية. وانزلق القلم من يدها. العلاقات العاطفية؟ أحكمت الإمساك بالقلم, و أخذت نفسا عميقا, ثم تابعت تدوين العنوان بإتقان إلى أن سمعت جرس المحل يقرع مشيرا إلى دخول زبون, ثم سمعت صوت بيري يعرض المساعدة. لم يقل لها غابرييل إنه يريد أن يصبح صديقها. أكانت تفسر ابتسامته الدافئة ونظراته الودودة على هواها؟ أتراها تمنح لتصرفه اللائق أبعادا خيالية؟. هذا تغيير جذري. وضحكت ضحكة متوترة, فعلى أي حال, لا بد أن غابرييل هادسون يصادف نساء رائعات الجمال. وبالرغم من معرفتها أنها جميلة القد والوجه, إلا أنها لا تعير اهتماما كبيرا لمسألة الإيقاع برجل. تمتمت:" انتظري على الأقل حتى يطلب منك أن تصبحي صديقته". ضجت الأفكار في رأسها, وشعرت بنوبة من الخوف تجتاحها. ما زال بإمكانها أن ترفض. وقفت على مهل, فهي لا تزال تشعر بالقليل من الدوار. النساء الحقيقيات, النساء اللواتي يتحكمن بحياتهن تماما كما تريد أن تفعل, لا يهربن عندما تسنح لهن فرصة جديدة. لقد أثبتت جدارتها عندما خاضت مجال الأعمال. أثبتت لنفسها عندما استأجرت صالة العرض الجديدة أنها قادرة على العمل وخوض التجارب الجديدة. فأيقنت بأن عليها تطبيق هذا على حياتها الشخصية تماما كما طبقته في حياتها العملية. كانت صالة العرض مكتظة بالزبائن تلك الليلة. وحين خف الضغط, سمحت لبيري بالمغادرة باكرا, كما تفعل دوما عندما لا يتمكن من أخذ فرصة للغداء. بعد الساعة الخامسة, دخل زبون واحد إلى صالة العرض وغادر من دون أن يشتري شيئا. نظرت ريانون إلى ساعتها. إنها السادسة إلا عشر دقائق, وما من ضير في الإقفال قبل بضع دقائق من الموعد وفيما أوشكت على إغلاق الباب, وجدت غابرييل أمامها. سأل بعد أن نظر إلى ساعته:" أتقفلين الآن؟". توقفت ريانون:" أنا لا أصد زبونا أبدا". -هل لي بالدخول إذا؟ تراجعت ريانون إلى الخلف وتركت الباب مفتوحا. -وصلتنا مجموعة جديدة من الأواني الزجاجية صممها فنان من إيرلندا. بالكاد نظر غابرييل إلى حيث تشير وقال:" في الواقع, أردت التحدث إليك". ما اكتشفته هذا الصباح جعلها تخشى أن يعرف ما يدور في خلدها. فسألت بسرعة:" أبخصوص العمل الذي أوكلتني به؟" سألها بعد صمت دام ثوان:" هل تسنى لك أن تفكري في الموضوع؟" -ليس بعد, إلا أن لدي بعض الأفكار الأولية. طبعا لم تفكر في العمل, فكل ما يشغل تفكيرها هو غابرييل وحده. -لا تدعيني أستعجلك. -أنت لا تفعل. -أنا أحاول ذلك. جال بنظره في أنحاء صالة العرض كمن يبحث عن الإلهام, وأردف: -هل بعت لوحة موزاييك أخرى؟ فالمكان الذي علقت فيه لوحة الموزاييك قد زين الآن بلوحة غريبة. -كان اليوم يوما حافلا. -ألهذا تقفلين باكرا, هل أنت متعبة؟. -نعم, كما أود أن أزور والدي قبل أن أعود إلى المنزل. -لن أؤخرك إذا. -أرغب في التحدث إليك, أريد معرفة رأيك في اللوحة قبل أن أسترسل في أفكاري. لذا هلا انتظرت لحظة. توجهت إلى الغرفة الخلقية, وعادت وهي تحمل في يدها ورقة, وضعتها على المنضدة بينهما. -وجدت هذه على الانترنت. إنها صورة للملاك جبرائيل مأخوذة من أيقونة روسية. رماها بنظرة تساؤل قبل أن يتأمل الصورة: -قلت إنك لا تحبين النقل عن الآخرين. -لن أنقل شيئا, بل أريد استخدام الألوان وبعض عناصر هذه الصورة كنقطة انطلاق فحسب. برز الملاك في الصورة أمام خلفية زرقاء ترمز إلى السماء, وضمن إطار أزرق وقرمزي. كان ثوبه الطويل أخضر داكنا, وقد طرز الكمان باللون الذهبي الفاتح. نظر غابرييل إليها:" الألوان رائعة, مناسبة ولكن غنية". -يسرني أنها أعجبتك. ابتسم لها ولمعت عيناه ببريق أخاذ. -نعم يعجبني ما أرى ريانون, يعجبني كثيرا. أخفضت ريانون نظرها وتناولت الرسم. -إذا, سأبدأ العمل مستعينة بهذا الرسم, ولكن علي أن آخذ المقاييس بدقة قبل أن أمضي قدما في عملي. -طبعا, متى تريدين أخذ المقاييس؟.. -لا يهم, في أي وقت بعد الدوام, وعلي إحضار سلم أيضا. -سأتكفل بالأمر, أتحتاجين إلى أي شيء آخر؟. -لا, سأحضر شريط القياس معي. -غدا, أم الوقت مبكر جدا؟. -لا, الوقت ليس مبكرا. لا يسعني العمل هنا, ولكن قد أعرض عليك بعض الرسوم الأولية عندما لا تكون منشغلا. -سأنتظرك بعد السادسة إذا. ********** لاقاها غابرييل كما اتفقا أمام الباب الجانبي, فدخلا إلى الردهة سويا وصعدا السلالم الأساسية. كان أحدهم قد وضع سلما على الحائط. وحين وصلا إليه, قال: -أأستطيع مساعدتك؟ كانت ريانون قد بدلت ملابسها قبل الخروج من صالة العرض, فارتدت سروالا من الجينز, إذ لم تحب فكرة صعود السلم وهي ترتدي تنورة. -هلا أمسكت شريط القياس عند طرفه. حين انتهيا, انحنى غابرييل إلى جانب السلم فيما كانت ريانون تدون القياس الأخير. نظرت مطرقة إلى الحائط وهي تضع قلمها بين أسنانها, فسأل: -أمن مشكلة؟ -أنا أحسب درجة المنحنى, علي أن أحضر نموذجا كي أرى ما الذي يظهر في مختلف الزوايا. -هل ستفيدك التصميمات الأساسية للمبنى؟ إنها في مكتبي. -أحقا؟. -أظن أنه كان علي التفكير في هذا سابقا, فكل القياسات مدونة عليها. -كنت سأدقق فيها بنفسي, فالتصاميم تتغير عند البناء, لكنني أرغب برؤيتها على أي حال. -تعالي إذا. سألته:" الآن؟". مال غابرييل برأسه قليلا واقترح بلطف, وقد امتلأت عيناه بتساؤلات عن ترددها:" ما من وقت أفضل من اللحظة الحاضرة". تسمرت ريانون في مكانها وقالت في نفسها إن البقاء معه في مكتبه لا يختلف البتة عن تواجدها معه هنا في هذه الردهة الفسيحة. وقد تصرف معها منذ وصلت بطريقة مهنية صرف, وهي لا تملك سببا يبرر رفضها الذهاب معه. سمع دوي قوي وترافق الصوت مع اهتزاز تحت أقدامهما جعلهما يستديران ناحية الصوت. يبدو أن الفريق العامل على هدم المبنى المجاور يعمل حتى ساعة متأخرة. أكد لها غابرييل وهما يصعدان السلالم:" هذا المبنى مضاد للهزات الأرضية, ولن تؤثر فيه بعض أعمال الهدم. هل حصلت على أي بلاط منهم؟". -اتصلت بالمدير, لا يريد أن يقترب أحد من موقع البناء إلا أنهم أعطوني بضع قطع انتشلوها من بين الأنقاض. بعد أن مرا في صالة استقبال فسيحة, أرشدها غابرييل إلى مكتبه, فإذا به غرفة كبيرة مزينة باللونين البني و البيج مع بعض لمسات من اللون الذهبي القاتم, يتوسطها مكتب عليه كومبيوتر محمول فوق رزمة من الأوراق . تذكرت مكتبها, وصالة عملها, والمخزن الذي بدا فسيحا للغاية عندما استأجرت المكان الجديد. سأل غابرييل:" أثمة ما يضحكك؟". لم تدرك أن ابتسامتها بادية على وجهها. -كنت أتأمل مكتبك ليس إلا. -يعجبني, إنه عملي ومنظم. نعم وأنيق للغاية أيضا. مشيا فوق سجادة سميكة, واتجها إلى أريكتين مريحتين وضعتا بشكل زاويتين وتتوسطهما طاولة مربعة. وعوضا عن الجلوس كما طلب منها, جالت بنظرها في أرجاء المكان. -لابد أنك اخترت مصمم ديكور ممتازا. -لا أوظف أشخاصا لا يتقنون عملهم. -أعلي أن أشعر بالفخر؟. ابتسم غابرييل: -ما من فخر في اختيار الأفضل لأداء العمل بالطريقة الفضلى. -آمل ألا أخيب ظنك!. -أنا على ثقة بأنك لن تخيبي أملي يا ريانون. نظر إليها نظرة سريعة وسأل: -أترغبين ببعض القهوة؟ -شكرا لك. واتجه نحو الآلة لتحضير القهوة موضوعة جانبا في المكتب. نظرت إلى الحائط فرأت عددا من تصاميم المبنى موضوعة في إطارات. بالإضافة إلى صور ومجموعات من الناس. وفي الممر المواجه للمكتب, رأت لوحة الموزاييك التي اشتراها غابرييل منها. -ظننتك ستعلق هذه اللوحة في منزلك. استدار غابرييل نحوها وقال:" أقضي معظم ساعات اليوم هنا". تناول مجموعة من تصاميم البناء وسواها قبل أن يضعها على الطاولة. -ستساعدك واحدة من تصاميم البناء هذه حتما. بعد أن جلست, عاد بكوبين ساخنين من القهوة, وجلس قبالتها على الكنبة الأخرى ينظر إليها بطرف عينه. ارتشفت ريانون القليل من القهوة وانحنت إلى الأمام لدراسة تصاميم البناء. ساعدها لتقارن التصميم بالقياسات التي أخذتها, ثم لفا التصاميم. وسأل: -هل تشعرين بالانزعاج إذا شاهدتك تعملين أحيانا؟ أرغب بمتابعة تقدم العمل عن كثب. سيزعجها هذا الأمر, لكن عدم رؤيته لأيام لم يمنعها من التفكير فيه بحثا عن الراحة أحيانا. لعل الألفة تولد الرضى, أو شيئا آخر! كذبت: -لا, لن يزعجني هذا, فأنت من يدفع ثمن هذا العمل. لذا لا تستطيع رفض طلبه!!!. وخطر لها أنه سيسأم بسرعة, فالأمر أشبه بانتظار الطلاء إلى أن يجف. تناول ممحاة وراح يمررها على الأوراق الملفوفة. -ألديك فكرة تقريبية عن التكاليف؟. -بعد أن أخذت القياسات الصحيحة, قد أمكن من وضع كشف حساب لكن الكلفة لن تكون بخسة. كما قد أحتاج إلى شراء بلاط جديد للحصول على الألوان التي أريد عوضا عن الاتكال على ما أجده من بلاط مستعمل. -لا تهمني الأمور الرخيصة الثمن. تراجع إلى الخلف وتابع: " لطالما دفعت ما يلزم لأحصل على ما أريد". بدا مسترخيا. وقد وضع يدا على الكنبة والأخرى بجانبه, إلا أن بريقا ظهر في عينيه, فراح قلبها ينبض بسرعة وقالت:" فلنفرض أنني رفعت السعر؟". ضاقت عيناه وقطب جبينه:" أنا لست غبيا يا ريانون, كما أنك لن تخدعيني". لقد استعلم عن خبرتها العلمية. فهل تحقق من أخلاقها أيضا؟ أو لعله يوجه لها إنذارا! ومن دون أن تفكر في الموضوع أكثر, سألته:" هل تثق بي؟". مرت لحظات قبل أن يجيب:" نعم, وأنت هل تثقين بي؟". رفت عينا ريانون وارتشفت القليل من القهوة لإخفاء ارتباكها, ثم قالت:" أثق بأنك ستدفع لي أتعابي, فشركة آنجل إير تتمتع بسمعة طيبة". راقبت حركة شفتيه, فلم تر أي ابتسامة. وبدت عيناه باردتين. -هذا ليس ما عنيته, بل قصدت على الصعيد الشخصي. فاجأها كلامه, لا بل صعقها. حاولت جاهدة التوصل إلى جواب, لكنها لم ما تقول سوى:" هل من صعيد شخصي بيننا؟". -أود لو يكون, ظننتك تعرفين. نظرت إليه محدقة, وقد تأثرت بتعابير وجهه وبرغبته باستفزازها للتطرق إلى الموضوع. فتح فمه قليلا, وارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة, لا بل دعوة. ارتعبت, وسألت بعد أن رفعت ذقنها إلى الأعلى: -أتعني أن عرض العمل مرتبط بالاتفاق بيننا؟ مرت لحظات لم يتفاعل فيها مع كلامها, ثم ضاق فمه واستحالت بشرته شاحبة, ووقف بسرعة فخافت وتراجعت إلى الوراء لكن وبدلا من التوجه نحوها, خطا بضع خطوات بعيدا, ثم استدار نحو مكتبه وهو يضع يديه في جيبيه. -لم أعتد ابتزاز النساء. بالرغم من حفاظه على رباطة جأشه, ظهر عليه الغضب وتابع: -سبق أن اتخذت قراري فيما يختص بالموزاييك وأنوي الالتزام به طالما لا تطالبيني بسعر خيالي. رماها بنظرة حادة, كما لو أنه يتحداها لاستخدام الكلفة كذريعة للابتعاد عنه, وأردف:" إن شئت يمكننا أن نوقع عقدا". اتجه إلى الجهة المقابلة من المكتب, وفتح درجا وتناول منه ورقة وقلما. وضعت ريانون كوب القهوة جانبا ووقفت. -هذا ليس ضروريا, قلت لك إني سأقدم لك كشف حساب أولا. للحظة لم يتحرك, وبقي مسمرا على الأوراق الموضوعة أمامه ثم نظر إلى الأعلى وقال:" كما تشائين!" تلاقت أعينهما, فابتعدت عن طاولة القهوة وراحت تمشي في أنحاء المكتب. -أعتذر. بعد لحظات, لانت ملامحه ورقت:" اعتذارك مقبول, ما كان علي أن أفاجئك هكذا. فأنا لا أتصرف بهذه الطريقة عادة. إنني أخرق جدا". -لست بأخرق. إنه ليس أخرق بل رجل ذكي كما أدركت أنه يفوقها خبرة بأشواط في مجال الحياة العاطفية. رفع أحد حاجبيه: -شكرا لك, سأحاول أن أتذكر هذا في المستقبل. اسمعي ريانون, أحب التواجد برفقتك أكثر, والتعرف إليك, ولكن إن كان شعورك مغايرا. تستطيع أن تصده وسيتركها وشأنها... أليس كذلك؟. يا للدهشة! إذ أثارت فكرة خروجه من حياتها انقباضا في معدتها. ففي أعماقها, كانت تعلم أنها برفضها ستفوت على نفسها فرصة لا تعوض. تدخل غابرييل بعد أن طال الصمت: -إن كنت تعتبرينني شخصا بغيضا, فالوقت ملائم الآن لقول هذا. ابتسمت ريانون بجرأة أكبر -أنا لا أعتبرك شخصا بغيضا. استرخت تعابير وجهه: -أحقا؟. استدار حول المكتب ووقف أمامه, ثم استند إليه, وكتف يديه وسأل: -إذا, ما المشكلة يا ريانون؟. نظرت إلى أحد التصاميم المعلقة على الحائط. -أنا لست ناجحة في العلاقات العاطفية. -هل مررت بتجربة سيئة؟ أكثر من تجربة سيئة؟. أجبرت نفسها على النظر إليه, من باب اللياقة وحسب: -أنا . . . لست مهتمة كثيرا بالرجال. نظر غابرييل إليها والشك يملأ عينيه: " أنت شابة جميلة, لا بد أن رجالا كثر دخلوا حياتك. . . أو على الأقل حاولوا أن يكونوا جزءا من حياتك". هزت ريانون كتفيها. -كنت أؤسس عملا. لم يتسنى لي الوقت للقيام بأي شيء آخر. قطب من جديد. -إذا, هل أنت مهتمة بي؟. حان وقت الحقيقة. شعرت ريانون بوجهها يشحب, وبوجنتيها تبردان. أحست بدوار, وأيقنت أن هذا الشعور ينتابها كلما تواجدت بقرب غابرييل هادسون. وأخيرا اعترفت:" أنت... تعجبني". -أعجبك؟. رفع حاجبيه ثم ضحك. لابد أنها بدت ساذجة للغاية, لكنه لا يعلم مدى صعوبة هذا الأمر عليها. رفعت ذقنها, وحدقت إليه متحدية. فتوقف عن الضحك وتسمرت عيناه على وجهها, ثم مد يده نحوها ودعاها: -اقتربي قليلا!. ابتلعت ريانون ريقها بصعوبة, واتسعت عيناها, وارتجفت شفتاها. كان يطلب منها أن تقوم بالخطوة الأولى. وبعد لحظة تردد, خطت الخطوة الأولى ببطء, وحذر, كما لو أنها تسير على حافة واد سحيق حيث ستودي أي زلة, مهما كانت صغيرة, بحياتها. بعد أن خطت خطوتين, مدت يدها ولمست يده, فأطبقت أصابعه القوية على يدها. وعوضا عن الشعور بالخوف, غمرها إحساس بالأمان والدفء, شعور جعلها تهتز من الداخل. توقعت أن يضمها بين ذراعيه, ولكنه فاجأها من جديد, حيث رفع يدها ببطء, وأحنى رأسه ليطبع قبلة ناعمة عليها. اجتاحتها موجة من الدفء وشعرت برعشة قوية. رفع غابرييل رأسه, ونظر إليها فتسارعت نبضات قلبها. أمسك بيدها الثانية, وشدها نحوه بهدوء إلى أن التصقت به. شعرت يدفئه وحرارة جسمه. حاولت التنفس بهدوء, لكنها عجزت عن ذلك, ولم تتجرأ على النظر إليه, بل سمرت نظرها على الستائر خلفه. -ريانون؟. شعرت بأن عينيها ستغمضان, إلا أنها أرغمت نفسها على النظر إليه. نظرت إليه عن كثب إلى حد أنها رأت انعكاسها في بؤبؤي عينيه. قال مجددا:" ريانون؟ أتريدين أن أعانقك؟". تلاشى الحذر, وباتت الآن هادئة, واثقة بشكل غريب. وضعت رأسها قرب قلبه وهمست:" نعم". الفصل الثالث: 3- حررني أرجوك لم تتوقع ريانون ما جرى. وقف غابرييل مسمرا في مكانه لفترة طويلة فخيل إلى ريانون بأن الزمن توقف. وقف من دون حراك يحاول التأكد من أنها قصدت ما قالته. لم يعانقها بقوة كما توقعت, بل شبك أصابعه بأصابعها, وعانقها للحظة ثم ابتعد قليلا إلى الوراء. تسنى لها بعض الوقت لتشعر بخيبة أمل, إلا أنه سرعان ما ضمها إليه. ضمها إلى صدره بقوة وحنان وغابا في عالم من الأحلام والأماني. لم تظن يوما أن عناقا واحدا من رجل قد يكون مليئا بالحنان والرقة. بدا وكأنه خال من أي أنانية فجل ما يريده هو منحها الحنان من دون مطالبتها بشيء. بدت وكأنها... بدت وكأنها لم تعانق رجلا من قبل! حين رفع رأسه مجددا ونظر إليها بغموض, لم تستطع مبادلته النظر لشعورها بالدوار. لامس خدها واقترح مازحا: " تستطيعين مبادلتي العناق؟!". شعرت ريانون بالخجل واحمرت وجنتاها. لإخفاء خجلها أبعدت رأسها واستدارت مفلتة يدها من يده, ومسوية شعرها. تمتمت:" علي أن أغادر". حين تحرك تراجعت إلى الخلف, إلا أنه اتجه نحو الأريكة لإحضار حقيبة يدها. أعطاها الحقيبة ورماها بنظرة غامضة:" أرى أنك منشغلة هذا المساء". -وعدت زميلتي في السكن بمرافقتها للتسوق. -تعيشين مع زميلة في السكن؟ أهي فنانة مثلك؟ -جانيت ممرضة. -ممرضة إذا! رافقها إلى خارج المبنى, ثم إلى سيارتها. وقبل أن يغلق باب سيارتها وراءها قال: -أنا مسافر إلى أستراليا غدا لزيارة مكتبنا في سيدني, لكنني سأتصل بك بعد عودتي. ستتمكن من أن ترتاح ومن أن تفكر, إلا أنها شعرت بنوع من خيبة الأمل. لم تصدق ماذا جرة منذ بضع دقائق. ظلت طيلة رحلة العودة تفكر بعناقه, وتسترجعه بكل حذافيره, وقد شعرت بفرح كبير وهدوء إلى أن أيقظها سائق دراجة نارية من أحلام اليقظة ليخبرها بأن ضوء الإشارة استحال أخضر وأن عليها الانطلاق. اتصل بها غابرييل في نهاية الأسبوع التالي وقال:" عدت مساء أمس, وقد سلمتني سكرتيرتي بطاقتي دعوة لحضور عرض الرقص الأفريقي الليلة. فهل تودين مرافقتي إن كنت غير مرتبطة؟". -الليلة؟ -أعلم أنني أدعوك في اللحظة الأخيرة, إن كنت مشغولة... -لا... أعني نغم, شكرا لك. -هل أمر لاصطحابك من منزلك؟. -لا, لاقني إلى هنا. في أي ساعة؟. -هل تناسبك الساعة السابعة والربع؟ نستطيع عندئذ تناول وجبة سريعة قبل العرض, ثم الخروج لتناول العشاء بعد انتهاء العرض. وفيما كانت تضع سماعة الهاتف, سألها بيري بفضول:" أتخرجين في موعد؟". -لحضور عرض الرقص الإفريقي. -يقال إنه عرض جميل, وحسبما سمعت, يصعب الحصول على بطاقات بسهولة. -حصل غابرييل على بطاقتي دعوة. رفع بيري حاجبيه:" غابرييل هادسون؟ ماذا سترتدين؟". نظرت إلى تنورتها الضيقة وقميصها الأخضر. -لا أملك الوقت الكافي لأذهب إلى المنزل وأبدل ملابسي. نظر إليها بيري رافضا ما تقوله. -يا عزيزتي, عليك أن ترتدي شيئا مميزا إن كنت ستخرجين مع غابرييل هادسون. لما لا تذهبين للتسوق في فرصة الغداء وتجدين لنفسك ثوبا خلابا؟ اسمعي, لما لا نذهب سويا إلى السوق, فإن تركتك تذهبين بمفردك, ستشترين حتما ثوبا تقليديا لن يلائمك. كانت ريانون تعلم أن ثيابها تقليدية فهي لم تشأ أن تسترعي الانتباه. -لا, لا أستطيع أن أفعل. -هيا يا راي, ثمة العشرات من المحال التجارية على مقربة من هنا, وأنا واثق من أننا سنجد لك ثوبا ملائما. كما أننا لن نفقد عددا كبيرا من الزبائن إن أقفلنا لنصف ساعة. وافقت بعد جهد جهيد, فهي لا تحبذ فكرة التسوق بمفردها. استمتع بيري بوقته وهو يرفض كل ثوب تقليدي, و أخيرا وافق على فستان أزرق قصير قال إنه يبرز لون عينيها بروعة وسترة من الساتان زرقاء اللون, كما اشترت حذاء عالي الكعبين. -تبدين رائعة. قال لها بيري هذا لاحقا حين أقفلت صالة العرض, وأخذت حماما سريعا في حمام المكتب, وارتدت ثيابها, ثم وضعت القليل من الزينة التي اشترتها تحت إشراف بيري. بقي بيري معها بعد أن أقفلت الصالة وراح يتأمل ما صممه. بدا وكأنه بقي لئلا تغير رأيها وتخلع هذه الملابس لتعود وترتدي ثيابها التقليدية. قالت ريانون:" أشعر و كأنني سندريلا, أنا لا أبدو على طبيعتي". -تبدين جذابة جدا, لطالما أخفيت أنوثتك وقد حان الوقت لإظهارها من جديد. وقف خلفها وسوى بضع خصلات من شعرها. وبعد قليل, سمع أحدهم يدق الباب فعرف أنه غابرييل, سألها وهو يتراجع إلى الخلف:" هل أدعه يدخل؟". -نعم, شكرا. انهمكت في إحضار حقيبة اليد المصنوعة من الساتان التي أصر بيري على شرائها, إلى حد أنها لم تلحظ النظرة التي وجهها غابرييل إلى بيري عندما دخل صالة العرض. عندما استدارت, قال لها بيري:" سأتركك الآن, استمتعي بوقتك". لاحظت ريانون النظرة التي ظهرت في عيني غابرييل عندما رآها, نظرة ملؤها الاستحسان والسرور, وسأل:" هل أنت جاهزة؟". أومأت وتساءلت إن كانت ستجهز يوما لملاقاة هذا الرجل. كان يرتدي بذلة رسمية, وقد بدا وسيما, وسيما للغاية. سأل:" هل يدعوك عدد كبير من الناس باسم راي؟". -بعض الأصدقاء المقربين فحسب, هل يناديك أحدهم غاب؟. -عائلتي فقط, ولكن يمكنك أن تناديني غاب إن شئت. -أنا لست فردا من عائلتك. نظر إليها مفكرا للحظة ثم سأل:" هل أستدعي سيارة أجرة؟". -لا, يمكننا السير إلى المسرح. -وأنت تنتعلين حذائك هذا؟. ونظر إلى حذائها الرسمي العالي الكعبين. إنه محق في كلامه. فهي لم تعتد انتعال حذاء مماثل, وقد لاحظ هذا الأمر بسهولة. لعله خبير في الأمور النسائية, وقد ذكرها هذا بمدى افتقارها للخبرة مع الرجال. -سأكون بخير. أكدت له هذا وهي تتجه إلى الباب وتحضر المفتاح. تمتم وهو يخرج من الباب:" لا تفهميني بشكل خاطئ, يعجبني حذاءك كثيرا". -لقد تأنقت لـ... لهذه المناسبة. أوشك أن يزل لسانها وتقول "لك" لعله عرف ما يجول في خلدها, فقال:" استحق الأمر العناء, فأنت تبدين خلابة". -وأنت أيضا تبدو رائعا. حين وصلا إلى المسرح ودخلا الردهة سرت ريانون لأنها أخذت بنصيحة بيري. كان البعض يرتدي ثيابا غير رسمية إنما باهظة الثمن وأنيقة, فيما البعض الآخر متأنق حتى أنها رأت نساء يرتدين الحرير والجواهر أيضا. عند دخولهما المسرح لفتت وغابرييل بعض الأنظار, فافترضت أن السبب في ذلك شهرته, أو سحره ووسامته. مشت إلى جانب هذا الرجل الطويل القامة الذي طوق كتفيها بذراعه بثقة واتجها إلى المطعم الصغير, حيث جلسا إلى طاولة وطلب غابرييل بعض العصير و المقبلات. بعد انتهاء العرض, والموسيقى الصاخبة والرقص, شعرت أن رأسها مليء بشتى الصور الغريبة الملونة, من ملابس مزركشة, وأشخاص فرحين لا يرقصون على أنغام الموسيقى فحسب بل يعيشونها أيضا. خرجت من صالة المسرح وهي تشعر بأنها قضت ساعتين من الزمن في عالم آخر. حيا أحدهم غابرييل, فقدمها إلى رجل وامرأة بالكاد سمعت اسمهما, ثم أصغت إلى حديث لم يدم إلا بضع دقائق, قادها غابرييل بعده إلى مطعم قريب من المسرح. سوت ريانون كرسيها ووضعت حقيبة يدها على الطاولة. وحين رفعت نظرها إلى غابرييل, وجدته يحدق إليها متأملا, ثم قال:" بعض الرقصات كانت جريئة والملابس أيضا... ألم تنزعجي من هذا؟". هزت ريانون رأسها:" طبعا لا, كان العرض رائعا". -أظن أن الفنانين لا يتصرفون بحياء. ووصل النادل, فسأل غابرييل ريانون ماذا تريد أن تشرب. -عصير طماطم من فضلك, فهو يمنحني النشاط, إ سأقود إلى المنزل. حين رحل النادل, قال غابرييل:" كنت آمل أن تدعيني أقلك إلى منزلك". -سيارتي في المرآب, ولا أريد إبقاءها هناك. ظهرت نظرة شك في عينيه, إلا أنها ما لبثت أن اختفت, فتحدثا عن العرض إلى أن حضر الطعام, ثم راحا يتحدثان عن مختلف أشكال الفنون. حين غادرا المطعم, كان الشارع أكثر هدوءا بالرغم من وجود عدد لا بأس به من الناس والسيارات. وفيما كانا يسيران على الرصيف, علق كعب حذائها بين بلاطتين وتعثرت. وحدها ردة فعل غابرييل السريعة أنقذتها من السقوط أرضا, فتمسكت بذراعه بسرعة. بقيت نحو نصف دقيقة قريبة جدا منه إلى حد أنها استطاعت أن تشتم رائحة عطره الزكية. كانت راحة يدها على صدره الدافئ فشعرت بنبضات قلبه, إلا أنها سرعان ما أبعدت يدها. خفف غابرييل من قبضته التي تمسك بها, إلا أنه لم يرخها تماما:" هل أنت بخير؟". -نعم, شكرا لك. كل شيء بخير, ما عدى قلبها, فهو ينبض بسرعة كبيرة. -صحيح أن هذا الحذاء مثير للغاية لكنه خطر أيضا. -مثير؟. جاء رد فعلها عفويا ونظرت بسرعة إلى الحذاء. -هذه الأزرار الصغيرة على جانبي الحذاء... مثيرة مال برأسه قليلا, وقد ظهرت نظرة غريبة في عينيه, ثم سوى رأسه ونظر إليها معتذرا بصمت. لم تشأ المضي قدما في الحديث, بل أرادت أن تنسى الحادث وتكمل الأمسية. إلا أنها شعرت بنوع من التمرد ولم تشأ التراجع. فأخذت نفسا عميقا, ثم أرغمت نفسها على النظر مباشرة إلى عيني غابرييل, وقالت باستخفاف: -أنت لست من أولئك المهووسين بالأرجل, أليس كذلك؟. سرت لرؤية الدهشة في عينيه, ثم ضحك فشعرت بالدفء والطمأنينة مجددا. -لا تقلقي, لست مهووسا بأي شيء, جل ما في أن حذاءك يعجبني. وكشفت ابتسامته و تعابير وجهه عن مشاعره, مشاعر حركت في داخلها مزيجا من الخوف والارتياب, والفرح الحذر. إنها قادرة على الاستمرار في هذا, تماما كغيرها من النساء. كل النساء قادرات على الخروج لتناول العشاء وحضور عرض مسرحي مع رجل جذاب, وتبادل أطراف الحديث معه. جل ما تحتاجه هو بعض التمرين والخبرة. وبدا غابرييل مستعدا لمساعدتها على اكتساب هذه الخبرة. حين تابعا السير, بقيت يده حول كتفيها. كانت قد ركنت سيارتها في الطابق الثاني, وحين رفضت استعمال المصعد رافقها من دون الإدلاء بأي تعليق. فتح غابرييل باب سيارة ريانون فيما راح بعض الشبان يصرخون ويتفوهون بكلام بذيء موبخين رجلا يسير ببطء. ارتعبت ريانون فأدخلها غابرييل بسرعة إلى مقعد السائق, ووقف بجانبها يحميها إلى أن مرت سيارة الشبان بقربهما وهي تنفث دخانها عليهما. انحنى نحوها وأدار وجهها بيده يتأملها ثم أغلق الباب. وفي صباح اليوم التالي, اتصل بها في صالة العرض:" هل أنت مشغولة الليلة؟". -وعدت أن أساعد في تنظيم حفلة في المستشفى حيث يعيش والدي. كان المرضى في المستشفى يحضرون لهذا الحدث منذ أسابيع. وبالرغم من أن ردات فعل والدها لا يمكن التنبؤ بها, إلا أنه يستمتع بالموسيقى. -هل يمكننا تناول الغداء سوية بعد أن تنهي عملك في صالة العرض؟ أرادت القبول لكنها ترددت:" علي أن أعمل على لوحة الكنيسة في نهاية هذا الأسبوع إذا أردت تسليم العمل في الموعد المحدد". قال بعد صمت قصير:" مرة أخرى إذا". -نعم. بدت مشتتة الأفكار, فقد كانت الصالة العرض تعج بالزبائن صباح هذا السبت, -أهذا وعد؟ ستتصلين بي ما إن يستجد شيء بخصوص لوحتي؟. -نعم, طبعا. اتصلت به نهار الثلاثاء قائلة: " لدي بعض الرسومات الأولية التي يجب أن تراها عندما يناسبك". قال بسرعة:" ماذا عن الليلة؟ يمكننا مناقشتها على العشاء, لا تنسي أنك وعدتني بالخروج معي". -حسنا, سأنهي العمل حوالي السابعة". -أتفضلين نوعا معينا من الطعام؟ طعام بحري؟ أو غريب كالطعام التايلندي أو طعام لبناني مثلا؟. -أترك لك الخيار, فأنا أحب كافة أنواع الطعام. -أنت امرأة يسهل إرضاءها. قال هذا كما لو أنه استغرب الأمر. اعترضت:" هذا ليس بالأمر النادر, لا أظنك ستواجه مشكلة في إرضائي". لم تتفوه ريانون بسوى الحقيقة, وقد تكلمت بعفوية فصمت غابرييل للحظات ثم ضحك:" شكرا لك, سأبذل جهدي لإرضائك". فكرت ريانون وهي تضع سماعة الهاتف, في ما إذا كان عليها تأجيل الموعد لتتمكن من تبديل ملابسها. كانت ترتدي فستانا أخضر طويلا بأزرار وياقة عالية, وتنتعل حذاء متوسط الكعبين. إنه ثوب ملائم للعمل, لكنه غير مناسب أبدا للخروج لتناول العشاء. غالبا ما كانت تخرج لتناول العشاء برفقة فتيات أخريات, وكانت الكلفة العنصر الأساسي في تحديد المطعم. أما اليوم, فهي لا تملك أدنى فكرة عن المكان الذي ينوي غابرييل اصطحابها إليه. وصل بسيارة أجرة ولوح لها لتوافيه, قائلا: -آمل أن تطيلي السهر الليلة, ولم أشأ أن تقودي بمفردك ليلا لذا جئت في سيارة أجرة. حذرته:" أنا لا أرتدي ثيابا ملائمة للذهاب إلى مكان أنيق". رمقها بنظرة سريعة: -ثيابك ممتازة, تبدين خلابة. وبالرغم من أنه جلس بعيدا عنها في السيارة, إلا أن رائحته الزكية داعبت أنفها, وأيقظت فيها شعورا غريبا, شعورا بالدفء والسلام والأمان. سألها عن والدها فردت:" يبدو راضيا, كما أن العاملين في المستشفى يحسنون معاملته". -أظن أن هذا الأمر يعزيك ولو قليلا. -نعم. تمنت لو تستطيع أن تفضي بسرها إلى والدها, أن تخبره عن غابرييل, وعن المشاعر المتناقضة التي يثيرها فيها, وأن تطلب النصح منه. صحيح أنها تخبر والدها عن حياتها اليومية آملة أن تدخل بعض المعلومات إلى عقله المصاب, إلا أن ردوده غالبا ما تأتي غير متعلقة بالموضوع. أما إذا بدت مستاءة, فيستاء بدوره مما يزيد الطين بله. قالت:" أحضرت معي بعض الرسومات الأولية, سأريك إياها ما إن نصل إلى المطعم". كان المطعم الذي انتقاه يطل على المرفأ. جلسا إلى طاولة قرب النافذة, متأملين الناس يعبرون. وفيما كانا ينتظران الطعام ارتشفت ريانون القليل من العصير, ثم أخرجت بعض الرسومات وقالت:" إنها مجرد رسومات, لم أعتمد أيا منها بعد". رماها غابرييل بنظرة وابتسم, ثم تصفح الأوراق التي قدمتها له, وسأل: -لم أسألك يوما كيف بدأت العمل في الموزاييك. -ذات يوم, بعد أن استلمت العمل مكان جدتي أوقعت, صحنا جميلا جدا فتحطم تماما. وتوقفت عن الكلام تتذكر ثم تابعت:" كنت أرتجف وأبكي بسبب الضرر الذي ألحقته بالصحن إلى أن دخلت سيدة إلى المحل وأنقذتني. عرضت علي هذه السيدة أن أستخدم هذه القطع في لوحة موزاييك, وتطوعت لتعليمي, وما إن بدأت بهذا الفن حتى علقت". -تحويل شيء جميل إنما محطم إلى تحفة فنية. بدا نظره ثاقبا, كما لو أنه يرى أكثر مما تنوي البوح به. قالت بسرعة: -أنا لا أستعمل دائما قطعا مكسورة. أستطيع أن أعمل بواسطة بلاط مقطع كما يفعل فنانو الموزاييك التقليديون. لقد أخذت بعض الدروس في مدرسة الفنون وتعلمت تقنيات مختلفة وجربتها جميعها. -وأي تقنية تفضلين؟. -غالبا ما تتلاءم اللوحات التشكيلية مع مختلف الأشكال, إلا أن البلاط المقطع مسبقا ممتاز للدقة واللوحات ذات الطابع الرسمي. رفع غابرييل حاجبه, ورد:" أظن الدقة والرسمية هما ما تحتاجينه". هذه الكلمات لم تكن ما تريد سماعه, لذا أكدت له:" لوحة الموزاييك التي اخترتها لك ستكون ذات طابع مغامر وجريء, لتعكس شخصيتك". مال برأسه, وقد ضاقت عيناه:" أيسهل حقا كشف شخصيتي؟". فكرت مليا في السؤال ثم قالت:" لقد رسمت شركة الإعلان صورة معينة لشركة آنجل إير رسختها في عقول الرأي العام". -أهذه هي الصورة التي كونتها عني؟. -أنت وشركة آنجل إير واحد, أليس كذلك؟. -أنا رجل يا ريانون ولست مجرد شركة!. -لا يمكن إلا أن تنعكس شخصيتك على شركتك. -تماما كما انعكست شخصيتك على لوحة الموزاييك. -أظنك محقا. وافقت على كلامه, وتناولت كوب العصير لترتشف منه جرعة. قال غابرييل: -علي أن أعيد النظر في الديكور المحيط بلوحة موزاييك التي في الممر. إنه ذكي للغاية وبشكل مخيف أيضا. رفعت ريانون كوب العصير بسرعة, فانسكب بعض العصير على يدها وعلى الطاولة. -آه!.. وضعت الكوب من يدها على عجل. فتناول غابرييل فوطة بسرعة وأمسك أصابعها بقبضته وراح يمسح يدها, ثم أشار إلى نادل يمر بالقرب من طاولتهما, وقال له بهدوء:" هلا نظف أحدهم هذا". نظر النادل إلى السائل الذي غمر الطاولة وانصرف, وكانت ريانون تجلس وعلى حضنها فوطة, فقالت:" شكرا لأنك أنقذتني!". -هل وقع العصير على ثيابك؟.. -لا، أنا آسفة. وبحذر وضعت الفوطة على الطاولة. -لم تعتذرين؟ لم يحدث أي ضرر. -أشعر أنني بلهاء. -أنت لست بلهاء يا ريانون, بل بعيدة كل البعد عن هذا. تناولت ريانون كوبها بحذر، وارتشفت العصير الباقي فيه وحين وضعت الكوب جانبا ولحست شفتها العليا لاحظت أن غابرييل يراقبها. عندما التقت أعينهما، انتاب ريانون شعور غريب. أحست أن الزمن توقف وأن العالم من حولهما تلاشى. حاولت التخلص من الشعور الغريب الذي غمرها فسألته: -هل أعجبتك الرسومات؟ إنها مجرد مخططات أولية، ولكن إن أعجبتك فسأعمل على تنقيحها وتحسينها. حول انتباهه إلى الرسومات, وحاولت ريانون الاسترخاء. لقد ساعدها الطعام على الاسترخاء, فقد بدا لذيذا, طازجا, كما قدم بشكل مميز. قال غابرييل:" تعجبني أفكارك كثيرا ولكن قولي لي كيف انتقلت من الأيقونة الروسية لتصممي هذه الرسومات؟ قولي لي ما هي مراحل الإبداع التي مررت بها؟". حاولت أن تفسر له مراحل عملها, فيما أخبرها عن عمله وكيف أوصل مؤخرا طردا إلى قوات الصليب الأحمر العاملة في منطقة تسود فيها الحروب. -نحب دوما أن نؤدي عملنا بإتقان. -ألا تستسلم أبدا؟. نظر إليها مفكرا وقد التمعت عيناه أكثر من قبل: -حين أعقد العزم على شيء ما, نادرا ما استسلم. وإن لم تنجح إحدى الطرق في إيصالي إلى ما أريد، أظل أحاول إلى أن أجد طريقة تنجح. حدقت ريانون إلى كوب العصير، ومررت إصبعها حوله، وقد اقشعر بدنها. سألها غابرييل بلطف:" ما خطبك؟". -لا شيء. أبعدت هذا الشعور الذي استيقظ في داخلها, فالارتياب والخوف لن يوصلاها إلى أي مكان. فتصميم غابرييل جزء من شخصيته ومن ما عاشه في حياته. إن لم يولد والتصميم جزء منه, فلا بد أنه اكتسبه مع مرور الأيام. نظرت إليه: -أنت ناجح للغاية. جال بنظره على وجهها:" وأنت كذلك وأنا أحترم هذا". أشعرها مديحه بالدفء. صحيح أنها لا تحلم بامتلاك شركة تساوي ملايين الدولارات مثله، إلا أنها قطعت شوطا كبيرا منذ أن تسلمت تلك المراهقة العصبية العديمة الخبرة محل التحف. لقد تعلمت كيف تتعامل مع البائعين اللجوجين, والفنانين المزاجيين, والزبائن الغريبي الأطوار, بدلا من أن تسمح لهم بإخافتها والسيطرة عليها. وبالرغم من أنها لا تزال تخاف أحيانا, إلا أن ثقتها بنفسها ازدادت مع مرور الوقت. كما أنها تجنبت التعاطي مع الرجال على الصعيد العاطفي والشخصي طبعا. لم يترك لها غابرييل أي مجال للشك, فهو ينوي حتما التقرب منها. لكن عالم العلاقات الحميمة مجهول بالنسبة إليها ومخيف بعض الشيء. لقد خاضت معركة عاطفية طويلة وموحشة, وربحت, وتمكنت من تخطي الكابوس, فأسست لنفسها حياة رتيبة ومنظمة. لكن, وعقب كل انتصار, تظهر وحوش أخرى فتحارب من جديد؟. لعل غابرييل هو الشخص الذي سيساعدها على محاربتها. لعله الملاك الحارس الذي سيرسل كافة الوحوش إلى الجحيم ويعتقها. ابتسمت وتساءلت عما سيكون عليه رأيه إن عرف ما تفكر فيه. رفع حاجبه متسائلا:" بم تفكرين؟". هزت ريانون رأسها:" لا شيء". لا شيء تستطيع البوح به. فالرغبة في اقحام غابرييل في معركتها الشخصية ما هي إلا لحظة ضعف. هذه معركتها وحدها، معركة ستخوضها متسلحة بقوتها وشجاعتها فحسب. ما من أحد قادر على خوض هذه المعركة بدلا منها، لقد سبق أن حاولت ذلك, إلا أنها وصلت إلى طريق مسدود. شربا القهوة, ورفضت ريانون أن تشرب كوبا آخر. نظر غابرييل إلى ساعة يده: -هل ترغبين في نزهة قصيرة؟. هواء الليل منعش ومهدئ للأعصاب, كما أنها بحاجة إلى بعض الرياضة بعد وجبة الطعام الدسمة التي تناولتها. فلطالما استمتعت بالتنزه ليلا لكنها لم تكن تتجرأ على ذلك بمفردها. عندما اجتازا الشارع, أمسك غابرييل بيدها لكنه لم يفلتها عندما وصلا إلى الجهة المقابلة. لم تعترض ريانون, وتذكرت المرة الأولى التي لمسها فيها, حين وقعت على السلالم. كانت أصابعه دافئة, وقبضته قوية إلى حد أنها عاجزة عن الإفلات منه. وجدت نفسها تركز على مشاعرها الجديدة, تحاول أن تحللها. شعرت أنها مرتاحة ومسترخية أكثر من العادة, فهل السبب في ذلك يعود إلى الطعام أم الرفقة المسلية؟. مشيا قرب الماء, فداعبت نسمات الهواء العليل وجهها وردت شعرها إلى الوراء. كانت الأمواج تتكسر على الصخور, فيما أضفت عليها مصابيح الشارع لونا مخمليا. سأل غابرييل:" ألا تشعرين بالبرد؟". -لا!. في الواقع كانت تشعر بدفء لذيذ بالرغم من نسيم البحر. وبعد قليل, توقفا عن السير واستندا إلى حائط يراقبان حركة الأمواج, وانعكاس الضوء عليها, وتلألؤ بعض النجوم التي تحاول أن تضاهي بنورها أنوار المدينة. أفلت غابرييل يدها, فشعرت أنها وحيدة. قالت:" يا لروعة ما أراه". مال غابرييل ونظر إليها:" أتنزعجين إن قلت القول نفسه عنك؟". راح قلبها يخفق بسرعة. ابتعدت عنه قليلا وأشاحت بنظرها بعيدا. هب النسيم العليل من جديد وعبث بشعرها, فرفعت يدها لتبعد الشعر عن وجهها وهي ترتجف. اقترب غابرييل منها, وراح يبعد شعرها عن وجهها, لكنه عاد وتراجع بسرعة. تسمرت في مكانها, فيما أخذت ترتجف قليلا لكنها لم تكن خائفة. وبعد لحظة أو اثنين, لف يد حول خصرها وقربها منه. عانقها بدفء وحنان, فشعرت بقربه, وتنشقت رائحة عطره, ثم ما لبثت أن استسلمت لسحر عناقه, وبادلته إياه. اختلجت في داخلهما مشاعر جياشة, مشاعر نقلتهما في الزمان والمكان فحلقا في عالم من السحر. سمعا وقع خطوات تقترب منهما, فابتعدت ريانون بسرعة عنه. ضحك غابرييل وأفلتها, وقال بصوته الأجش:" سأصحبك إلى منزلك, هذا ما لم ترغبي في مرافقتي إلى منزلي". هزت ريانون رأسها رافضة. فقد أيقظ هذا العناق فيها مزيجا من المشاعر لم تستطع أن تحددها بعد. -كنت أعلم أنك لن توافقي. لم يبد منزعجا من رفضها, بل اتجه إلى الطريق العام, ولوح لسيارة أجرة. سألته ريانون وصوتها يرتجف بالرغم من محاولتها البقاء هادئة: -كيف تحصل على سيارة تاكسي بهذه السهولة؟. ضحك غابرييل, فهدأ روعها قليلا:" الحظ حليفي, أو لعل السبب في هذا هو أني أرافق سيدة رائعة الجمال. فأي سائق أجرة سيسر بأن يقلك". -لا تجري الأمور هكذا عندما أكون وحدي. سأل السائق:" إلى أين؟". كان يجب أن تنتبه إلى ما يحدث, فلو أن سيارتها مركونة في المدينة لطلبت من السائق أن يقلها إلى هناك. لكن بما أنها لم تحضر أي عمل إلى صالة العرض اليوم, تركتها في المنزل واستقلت سيارة أجرة. ما إن حاولت التكلم, حتى أعطى غابرييل عنوان بيتها للسائق, ثم سوى جلسته وأخذ يدها بين يديه. شعرت ريانون بأن لا حيلة لها حين أمسك غابرييل بيدها, وقد اقتربت منه عن غير قصد عندما التف سائق السيارة بسرعة. تسمرت مصدومة و لم تستطع الابتعاد عن غابرييل. مرت دقائق استجمعت فيها قواها وتجرأت على طرح السؤال الذي يجول في فكرها. لم تتجرأ على النظر إليه, بل سألته بصوت خائف:" كيف عرفت عنوان منزلي؟". الفصل الرابع: 4- تقدم بحذر شد غابرييل على يدها بالرغم من أنها حاولت الإفلات منه, وبعد أن سكت لبرهة سألها:" ألم تخبريني أنت أين تسكنين؟". -لا!. قالت هذا بغضب وأفلتت يدها بقوة. جاهدت كيلا تبتعد عنه وتجلس في زاوية المقعد أو تطلب من السائق أن ينزلها حالا. إذا فعلت هذا, فسيلحق بها غابرييل. استقامت وصممت على البقاء هادئة والتصرف بعقلانية. هذا صعب, فقلبها يخفق بقوة وقد جف حلقها. -أنا لا أطلع زبائني على عنوان منزلي أبدا. لم يتحرك غابرييل, بل كتف يديه, واستقام. استحال عليها أن ترى تعابير وجهه في الظلام, فشعرت بأنه غريب عنها. قال لها بصوت منخفض وسوي:" أملت أن أكون أكثر من مجرد زبون بالنسبة لك". أخذت ريانون نفسا عميقا:" كيف وجدت عنواني؟" -من ملفات الشركة, فقد قلت إنك استعنت بخدماتنا يوما. لم تستطع أن تنقل المعدات الثقيلة من منزلها إلى صالة العرض بمفردها, لذا استعانت بخدمات الشركة. شعرت بالبرد وسألت بحدة:" هل بحثت عنه؟ أهذه الطريقة التي تنتهجها للتعرف إلى النساء؟". -لا, كنت أبحث عن شيء آخر ووجدت اسمك. ردت بعنف:" فحفظت عنوان منزلي! لا يحق لك هذا!". بعد لحظة قال:" لم أفعل هذا عمدا. سامحيني ريانون, لم أقصد إزعاجك". كذبت:" أنا لست بمنزعجة بل غاضبة فحسب, كيف تجرؤ على فعل هذا بي؟ هذا تصرف غير محترف". كان غابرييل يعرف أنها محقة. فعناوين الزبائن سرية, وما كان ليرحم أي موظف يضبطه وهو يستعمل عناوين الزبائن لأغراض شخصية. عندما ظهر اسمها في اللائحة التي كان يطلع عليها, قرأ العنوان من دون أن يتمكن من ردع نفسه, ومنذ تلك اللحظة علق العنوان في ذهنه وحفظه. شعر بالخزي, فلطالما اعتبر نفسه مثالا للصدق والأمانة. وكان يعتز بصفاته هذه في العمل وفي حياته الخاصة. طبعا, لم يكن ينوي يوما استخدام هذه المعلومة. لكن ريانون تصرفت كما لو أنها تنتظر منه أن يطلع السائق على وجهتهما, وقد قال له العنوان من دون أن يفكر في العواقب بعد أن نسي كيف حصل عليه. قال:" لم أفعل هذا عمدا, والآن كل ما بوسعي فعله هو الاعتذار, وطلب الغفران منك". -لا أريد أن تعتذر, فجل ما أبغيه هو المحافظة على بعض الخصوصية. -أعدك بألا أنتهك خصوصيتك بعد اليوم. ومن دون أن يفكر مد يده ليمسك يدها, إلا أنه عاد ووضعها على المقعد, على المسافة التي تفصل بينهما, وتابع:" أقسم لك أنني لم أتعمد ما جرى". شعرت ريانون بانقباض في معدتها, وعاودتها الذكريات القديمة المزعجة, فانطوت على نفسها وجلست في زاوية السيارة". أرادت أن تفكر بهدوء. أرادت أن تفكر بعيدا عن غابرييل, فأدارت رأسها وراحت تنظر إلى الشارع والبيوت المظلمة. بقي غابرييل صامتا بدوره. أتراه احترم حاجتها إلى التفكير؟ أم لم يشأ متابعة الحديث أمام السائق؟. حين توقفت سيارة الأجرة أمام منزلها قال للسائق:" لا توقف العداد". ولحق بريانون إلى المدخل. كان الشارع مضاءا تماما وقد تأكدت من هذا الأمر قبل أن تنتقل للعيش فيه. ومن دون أن تنظر إلى غابرييل, أقحمت المفتاح في القفل. فقال لها:" أظنك لن تدعيني للدخول". فتحت الباب قليلا, ثم استدارت تواجهه:" كانت أمسية لطيفة, شكرا لك". قال بندم:" كانت أمسية رائعة إلى أن أفسدت كل شيء, أليس كذلك؟". نظرت إلى سيارة الأجرة, فلم تر السائق كما لم يتزحزح غابرييل من مكانه. مرر إصبعه على خدها نزولا إلى ذقنها وضغط قليلا على وجهها كي تستدير نحوه. كانت عيناه داكنتان تراقبان: -لا تدعي غبائي يفسد هذه الأمسية. مرر إبهامه على خدها بنعومة, فارتجف جسمها كله ثم اقترب منها وهمس: -عمت مساء ريانون. وفي اللحظة التالية اتجه بعيدا نحو سيارة الأجرة. في اليوم التالي, وفيما كانت ريانون ترتب بعض الأواني الزجاجية سمعت أحدهم يناديها:"آنسة ريانون لويس؟". استدارت وفي يدها إناء زهور جميل لترى رجلا يرتدي سترة جلدية ويحمل في يده باقة من الأزهار الملونة. انزلق الإناء من يدها وتحطم. قال الرجل مجفلا:" تبا! آسف, لم أقصد إخافتك!". أكدت له ريانون ما إن تمكنت من الكلام وتوقف قلبها عن الوثب:" لا بأس, لا تقلق, أنت لم تخطئ بشيء". قال وهو يقدم لها الباقة:" هذه الأزهار لك". حدقت إلى الباقة. وقد جعلتها رائحة الأزهار العطرة تشعر بالغثيان. وصل بيري إلى جانبها, وراح يتفحص الأضرار ثم قال:" أعطني هذه الباقة, شكرا". ودخل زبون راح ينظر باستغراب إلى ريانون و بيري, ثم سأل:" هل من خطب؟". قال بيري:" حذار أين تدوس, سننظف المكان في لحظات". وعاد فاستدار إلى ريانون وسألها:" هل أنت بخير؟". -نعم, خذ هذه الأزهار وأحضر مكنسة من فضلك. ومرت بين القطع المتناثرة وتوجهت إلى الصندوق. عندما غادر الزبون, كان بيري قد أزال الزجاج عن الأرض. سلمها مغلفا صغيرا:" وجدت هذا مع الأزهار". ترددت قبل أن تفتح المغلف, ورفعته قليلا. فوجدت حرف((غ)) مطبوعا بالخط العريض أعلى البطاقة. -أظن أن مرسل الزهور هو ملاكك غابرييل. انتظر قليلا وحين لم تجب سألها:" ماذا أفعل بالأزهار؟". أول ما خطر لها هو أن تطلب منه أن يرميها, إلا أنها عادت فقالت:" يمكنك الحصول عليها". نظر إليها بيري باستغراب:" هل أنت واثقة؟". فتحت فمها لتقول نعم, إلا أنها ترددت حين رأت امرأتين تدخلان صالة العرض وقالت: -لا, جد إناء, وضعها في مكان ما, فقد تعجب زبائننا. وضب بيري الأزهار في إناء صيني ووضعها في الواجهة. حوالي الساعة الخامسة, وبعد أن انتهت ريانون من تلبية طلب أحد الزبائن, نظرت إلى الخارج فرأت غابرييل واقفا يتأمل الأزهار. رآها تنظر إليه فحياها ودخل من الباب, وبعد أن غادر الزبون, اقترب من الصندوق وقال:" منحت أزهاري مكانا مميزا". -وضعها بيري هناك. وضعها بعيدا عن الصندوق. اتسعت عيناه واقترب منها وقال بهدوء:" هل فكرت بما حدث؟ آمل ألا تكوني غاضبة مني". ابتلعت ريانون ريقها, وقد تسارعت دقات قلبها: -أنا لست غاضبة منك ولكن.... أخذت نفسا عميقا وتابعت:" يستحسن أن نحصر علاقتنا بالعمل وحسب". لقد فكرت في الأمر ليلة أمس, وعند ساعات الصباح الأولى توصلت إلى هذا القرار. عبس غابرييل وسألها:" لماذا؟". بدا الأمر منطقيا في فكرها إلا أن صوتها راح يرتجف حين ردت: -أنا واثقة من أنك لا تخرج برفقة موظفيك. -لست موظفة عندي, أنت فنانة تعملين لحسابك الخاص وقد أبرمنا عقدا. -لم نوقع خطيا على أي عقد. -الاتفاقات الشفهية ملزمة قانونا. -الخرج برفقتك ليس جزءا من العقد. قال:" سأضيف هذا البند إلى العقد إذا!". وعندما لاحظ رد فعلها, أضاف بصبر:" أنت تعلمين أنني لا أعني ما أقول, ولكنك تختبئين وراء إصبعك". -أنت واثق جدا من نفسك!. تراجعت ريانون إلى الوراء وقد تفاجأت من وقاحتها, إلا أنها شعرت بشيء من الانتصار المرير حين احمرت وجنتاه غضبا. تلاشى الشعور بالنصر حين بسط يديه على المنضدة بينهما, وقال:" وقد استحالت ملامح وجهه قاسية:" كنت تقضين وقتا ممتعا للغاية مساء أمس, إلى أن أفسدت كل شيء". وقف يحدق إليها بسيطرة وهيمنة, فخافت أكثر. وتنبه غابرييل لما يجري, فاستقام وابتعد قليلا عنها, ثم قال:" استدعين هفوة واحدة تفسد شيئا قد يستحيل رائعا إذا أعطينا نفسينا فرصة؟". هل تبالغ في رد فعلها؟ كانت تعلم أنها حساسة للغاية حيال بعض الأمور, فترددت. خرج بيري من الغرفة الخلفية حاملا بيده ورقة صغيرة. حيا غابرييل ثم قال: -عذرا راي! أنا عاجز عن قراءة هذا العنوان. قرأت له العنوان. وتراجع غابرييل إلى الوراء, عندما دخل شخصان إلى صالة العرض. تقدمت ريانون من الزبونين تعطيهما معلومات عن القطع التي ينظران إليها. كانت ريانون عادة تحيي الزبائن وتدعوهم إلى إلقاء نظرة على المعروضات وطرح أسئلة عليها إذا احتاجوا إلى أي معلومات. فهي لا تحبذ دفع الناس إلى الشراء بالقوة, إلا أنها تحتاج اليوم إلى فسحة للتنفس بعيدا عن غابرييل. أخذ غابرييل يتجول في الأنحاء كما لو أنه غير مرئي. حبذا لو أن هذا صحيح ولو يصبح غير مرئي! ظهر بيري من جديد, فالتقط غابرييل منحوتة من الزجاج الملون وصلت اليوم, وراح يتسامر مع بيري بصوت منخفض. كان لا يزال واقفا مكانه عندما غادر الزبونان من دون أن يشتريا شيئا. وضع المنحوتة مكانها واتجه نحوها, فيما شغل بيري نفسه بترتيب بعض الكتب الموضوعة على الرف. عادت ريانون إلى مكانها وراء المنضدة. فوقف غابرييل أمامها واضعا يديه في جيبيه, وحدق إليها وقال:" تناولي العشاء معي الليلة وسنتحدث عما يزعجك!". -آسفة, لدي بعض الأعمال الليلة. كانت قد خططت للبقاء في صالة العرض وتنظيم حساباتها لأن مصلحة الضرائب لا ترحم ولا تنتظر, وقد ساعدها هذا على البقاء على موقفها. ارتاحت حين دخل المزيد من الزبائن, فوعدته: -سأحاول أن أطلعك على كلفة اللوحة بعد أسبوع أو اثنين. تراجع غابرييل إلى الوراء وقال من عند الباب:" حسنا, أراك لاحقا". رددت ريانون في سرها أن قوله هذا ليس تهديدا. شتم غابرييل بصمت وهو يخرج من صالة العرض مدركا أنه أخفق تماما. فآخر ما تحتاجه ريانون هو الشعور بأنها مهددة, إلا أنا استفزته واتهمته بالغرور والثقة الزائدة بالنفس. قطب جبينه, لعلة معتد بنفسه أكثر من اللزوم, ولعله مغرور أيضا, لكنه لم يبذل يوما مثل هذا الجهد ليتقرب من امرأة. وهو لم يعتد الرفض, لذا لم يعرف كيف يتعامل مع هذه المشكلة. إلا أن الاستسلام والشعور باليأس والغضب ليسا بالطريقة الملائمة للفوز بثقة ريانون. لقد حاول أن يدفع بيري إلى إخباره الحقيقة إلا أنه فشل في ذلك. من الواضح أن بيري و ريانون متفقان تماما, فقد قال بيري:"إنها ربة عمل رائعة وامرأة فاتنة". وخيل لغابرييل أن بيري مستعد لضرب أي شخص يقترب من ريانون أو حتى يخالفه رأيه فيها. بعدئذ, قال بيري ومن دون مقدمات:"إذا أردت نصيحتي, فلا ترسل لها المزيد من الأزهار". ضاقت عينا غابرييل وقد تفاجأ سأل:" هل لك أن تطلعني على السبب". حول بيري نظره إلى ريانون التي بدت منهمكة مع الزبائن, ثم عاد ونظر إلى غابرييل بطريقة غامضة وأردف:" ثق بكلامي وحسب, يا صاح!". وضع غابرييل المنحوتة من يده. عندما جاء ليصحبها إلى العرض الراقص, كانت تقف قرب بيري وتضحك لشيء قاله. كانت ابتسامتها دافئة, فشعر غابرييل بالغيرة, إذ لم تبتسم له يوما بهذه الطريقة. قال بيري:" اسمع, ريانون مختلفة عن بتقي النساء. إنها...". ونظر إليها مجددا, ثم حول نظره إلى غابرييل الذي كان يستشيط غيظا, وتابع: -كل ما أعنيه, هو أن عليك أن تلزم الحذر يا صاح. بعدئذ, غادر الزبائن واقترب غابرييل منه, إلا أنها عادت ووقفت وراء المنضدة, كما لو أنها تحتاج لحاجز بينهما كي تشعر بالأمان والحماية. فكر غابرييل في أنه كان عليه أن ينتظر ساعة الإقفال ليحضر إليها, إلا أنه لم يكن قادرا على الانتظار. أراد المجيء لرؤيتها عله يصحح الخطأ الذي تسبب به الليلة الفائتة. كان يقف عند باب صالة العرض منذ الصباح الباكر لو لم يجبر نفسه على التروي. ظن أن الأزهار ستكون بمثابة تسوية أو أشبه باعتذار صامت, فلطالما كانت فعالة مع غيرها من النساء. ريانون مختلفة عن باقي النساء! وتردد صدى كلمات بيري في رأسه. كان يمشي على غير هدى وأوشك أن يوقع امرأة عجوز. فأمسك بها واعتذر منها. نظرت إلية المرأة بعينيها الزرقاوين الباهتتين:" لا بأس, فنظري لم يعد جيدا كما كان في الماضي". -هل أنت واثقة من أنك لم تتأذي؟. -لقد أفرحتني في الواقع. مر وقت طويل لم أقترب فيه إلى هذا الحد من رجل وسيم. -شكرا لك, ولكنك قلت لتوك إن نظرك لم يعد جيدا. ضحكت:" نظري جيد عن قرب. حبذا لو كنت أصغر بأربعين عاما". -لابد أنك كنت ساحرة, فأنت ما زلت كذلك. -أنت فاتن وتجيد الكلام أراهن أن صديقتك رائعة, يالحظها!. نظر إليها تبتعد وتمنى لو تشاطرها ريانون الرأي. لما لا تكون النساء كلهن متسامحات عندما يقدم لهن أحدهم اعتذارا؟ وأقر بأنه يدين لريانون بأكثر من اعتذار وتساء إن كانت حقا مشغولة هذا المساء, أو أنها تعاقبه على تصرفه؟!. صرف هذه الفكرة من رأسه بسرعة, فهو متأكد من أن ريانون لا تجيد ألاعيب النساء. كان ينوي أن يعانقها البارحة قبل أن يفترقا, عناقا يقلب كيانها ويجعلها تحلم به طيلة الليل, لكن الضرر وقع في سيارة الأجرة, وتغير مزاجها تماما. لقد تحول غضبها إلى خوف, وهو واثق من هذا. ترى من أخافها إلى هذا الحد؟ ماذا فعل بها؟ ومتى؟. قطب مفكرا, وهو يبحث عن مفاتيح سيارته في جيبه. ليته يستطيع اقناع ريانون بإخباره بسرها... لعلها تستطيع تخطي هذه المأساة! جلس في سيارته, يحدق إلى حائط من الاسمنت, وقد تشبث بالمقود. قالت إنه يعجبها, إلا أنه يطمح لأكثر من الإعجاب. أرادها أن تحبه بشغف وجنون. فبالرغم من مظهرها القاسي ورفضها الارتباط بأحد, ثمة ما ينبئه بأنها ما إن تتخطى الحواجز التي تقيدها, حتى تصبح العلاقة معها أروع ما حصل معه في حياته. أدار سيارته ورجع إلى الوراء, فلاحظ لوحة كتب عليها:" تقدم بحذر" فتمتم غابرييل:" نصيحة جيدة". 5-ثقي بي تمطت ريانون تريح عضلاتها المتشنجة وأبعدت أوراق الضرائب بعد أن انتهت منها. ربما عليها توظيف محاسب ليهتم بالمعاملات المالية. لطالما استمتعت بالتعامل مع الأرقام, إلا أن ساعات النهار محدودة لسوء الحظ, وهي تفضل قضاءها في العمل في فنها عوضا عن إجراء الحسابات. وتذكرت الوعد الذي قطعته لغابرييل. وتذكرت غابرييل! اقتحم ذاكرتها بقوة وثقة. إنه ذكي جدا, وقد فطن لما يدور في خلدها, كما أيقظ مشاعر لم تكتشف إلا مؤخرا أنه يصعب العيش من دونها. كانت مرتاحة, آمنة وراضية تعيش في القمقم الذي بنته لنفسها. لكنها لم تعد مرتاحة الآن, بعد أن فقدت توازنها بسبب غابرييل هادسون. كانت قد علقت صورة الملاك فوق مكتبها لتراها مرارا خلال النهار ما يساعدها على الإبداع. فهل السبب الذي يمنعها من عدم التفكير به؟ حدقت للحظة إلى الصورة, ثم تناولت ورقة بيضاء وبدأت ترسم. مرت ساعات طوال واستعملت أوراقا وأوراقا إلى أن عادت من رحلة الأحلام. نظرت إلى الساعة الموضوعة فوق مكتبها وأيقنت أنها عملت حتى ساعات الصباح الأولى, وأنها تشعر بالبرد. لكنها علمت بما ستزين حائط غابرييل. كانت عيناها مثقلتين من النعاس,ولم تحبذ فكرة الذهاب وحدها إلى موقف السيارات, فتناولت الهاتف وطلبت سيارة أجرة. بعد بضع ساعات, دق المنبه في الموعد المعهود, فاستيقظت وقفزت من سريرها. كانت جانيت في المطبخ تعد القهوة, فرمتها بنظرة غريبة. -عدت متأخرة مساء أمس. أكنت في موعد مسل؟. ردت ريانون, وهي تتناول فنجانا:" كنت أعمل. أعتذر إن أيقظتك". -لا, لقد عدت لتوي. العمل ليل نهار ليس مفيدا لصحتك. كم من الوقت مر على خروجك في موعد؟. جانيت من النوع الذي يهتم بشؤونه الخاصة عادة, إلا أنها قلقة عليها وإلا لما طرحت عليها مثل هذا السؤال. دافعت ريانون عن نفسها:"أمس الأول". -أحقا؟. وتابعت جانيت وهي تسكب الماء الساخن في فنجان:" وهل استمتعت بوقتك؟". -نعم, إلى أن... اسمعي جانيت, فلنفرض أن رجلا ما بحث عن عنوان منزلك وعرفه من دون علمك... فهل كنت لتنزعجي؟. -إن كان يعجبني حقا وقد بحث عن عنواني ليرسل لي الورود أو ما شابه, فقد أسر لذلك. طالما لا يستخدم عنواني لمطاردتي وإزعاجي طبعا. وضعت ريانون السكر في قهوتها وحركتها. كانت ترتجف من البرد فارتشفت القليل من القهوة لتدفئ نفسها. سألت جانيت:" هل أنت قلقة؟". المنطق يقول أن غابرييل هادسون لا يفتقر إلى صحبة فتاة, كما أن جانيت فتاة رزينة وواقعية, ورأيها مهم. أجابت:"لا". أمضت ريانون الأسبوع وهي تترقب دخول غابرييل إلى صالة العرض, لكنه لم يفعل. في نهاية الأسبوع, أنهت اللوحة للكنيسة, وفقدت كل عذر لتأجيل لوحة غابرييل لوقت أطول. في الأسبوع التالي, وضعت المخطط النهائي للوحة الموزاييك, وزارت في عطلة نهاية الأسبوع بعض التجار. نهار الاثنين, كانت قد وضعت عرضا مفصلا للأسعار, وفيما راح بيري يهتم بالزبائن, جلست إلى مكتبها تحدق إلى الهاتف لدقائق طويلة, ثم تناولته واتصلت. حين أوصلتها السكرتيرة بمكتب غابرييل, أخذت نفسا عميقا وقالت:" لقد حددت الكلفة, وهي..." وذكرت المبلغ. لم يجب فورا, فتابعت:"أعرف أنه مبلغ كبير, لكن.." قاطعها:"إنه ثمن معقول, ولن أجادلك, لكنني أريد رؤية التصميم النهائي, قبل أن نوقع العقد". -طبعا, كنت سأقترح هذا. -إن كنت لا تريدين مغادرة صالة العرض فأستطيع أن أحضر إليك. هل يناسبك أن نلتقي في الحادية عشرة والنصف؟ -حسنا. قالت هذا وهي تشعر بالغرابة, لقد أبعدته عنها وطلبت منه إبقاء علاقتهما على مستوى مهني. وقد استجاب لطلبها, ويقترض بها أن تسر لذلك. -سأحضر في الموعد. بدا جافا, هذا ما خطر لريانون وهي تضع سماعة الهاتف. ولاحظت أن يديها متعرقتان لكثرة ما شدة على الهاتف وارتبكت. وضع غابرييل سماعة الهاتف وراح يحدق إليه وهو يمرر قلمه مرارا وتكرارا على دفتر المواعيد الذي وضعته السكرتيرة أمامه. شعر برغبة جامحة في الذهاب فورا لملاقاتها, وهي الرغبة نفسها التي كبحها طيلة الأسبوع الفائت. موعدهما في الحادية عشرة والنصف, وقد يتمكن من اقناع ريانون بمرافقته لتناول الغداء. سيقول لها إنه غداء عمل. حبذا لو يستطيع أن يرى شيئا ما في التصميم, شيئا لا يعجبه, فيقنعها بتناول الغداء لمناقشة المسألة. نعم! قد تنجح هذه الفكرة!. إلا إذا استخدمت هذا الأمر كعذر للتهرب من المشروع. عندئذ, جمدت يده وتوقف عن تحريك القلم. إنه واثق من تعلقها بمشروع لوحة الموزاييك, ومن تحمسها لإتمامه, هذه ورقته الرابحة. وما إن يوقعا العقد, حتى تعجز عن التراجع والخروج من حياته إلى أن تنهي المشروع. أما هو فسيراقب تقدم المشروع, إذ سبق أن منحته الإذن لمشاهدتها تعمل. آه, كم يتوق لرؤيتها تعمل! تأخر عمدا عن الموعد خمسة عشر دقيقة واعتذر مدعيا أنه تأخر في اجتماع طارئ وأن الوقت داهمه. كانت صالة العرض تعج بالزبائن, فاضر إلى الانتظار لدقائق قبل أن تتفرغ له. تجاهلت العذر الذي قدمه, وقالت وهي ترشده إلى الباب:" يتحسن أن ندخل إلى الغرفة". عندما اتجهت إلى مكتب موضوع في زاوية الغرفة, ألقى غابرييل نظرة في الأرجاء. إنها غرفة أكبر مما توقع, لكنها أشبه بمكان للعمل, خال من أي طابع شخصي. -هذا هو التصميم, آمل أن توافق عليه. اقترب منها وأمسك بطرف الورقة التي كانت تلتوي فيما ثبتت ريانون الطرف الآخر. كانت الألوان شبيهة بألوان الصورة التي أرته إياها سابقا. وبالرغم من أن اللوحة إيحائية, إلا أنها تبرز الملاك وجناحيه الفضيين, كما يتجلى وجهه وشعره الطويل الذهبي. سألها:" هل تستطيعين نقل هذا الرسم إلى لوحة موزاييك؟". -نعم, لكنني سأستعمل المعدن للخطوط الفضية. فكرت أولا باستخدام الزجاج, إلا أنني عدت وارتأيت بأن المعدن سيمنح هذه الخطوط نعومة أكبر مقارنة بباقي الألوان. فهل تعجبك؟. تذكر خطته فسأل:" هل لك أن تفسري لي بعض النواحي الرمزية للوحة؟". ظن أنه لا يحتاج إلى إيضاح, لكنها كشفت له أمور لم يلحظها, بالرغم من أنه كان يحدق إلى تعابير وجهها وملامحه, عوضا عن النظر إلى إصبعها الذي يشير إلى مختلف عناصر اللوحة. استقامت وردت خصلة من شعرها إلى خلف أذنها, فلاحظ لمعان عينيها. وللمرة الأولى لم تسيطر على تعابير وجهها, فبدت ساحرة واستحوذت على قلبه. تملكه سرور بريء لم يعرف له مثيلا من قبل. ولا بد أن شعوره بان في وجهه, إذ رأى عينيها تتسعان وشفتيها تتباعدان, فشعر برغبة ملحة في احتضانها, لكنها تراجعت إلى الخلف مفلتة الورقة من يدها. رفت يدها إلى شعرها, ثم ضحكت وقد بان عليها القلق:" هذا كل شيء, آمل أن يكون هذا مطلبك". أيقن أنها تنتظر حكمه, وعجز عن الادعاء بوجود خطب ما, فقال: -إنه رائع! تماما كما أريد, لا بل أكثر بكثير مما توقعت. استرخت ريانون قليلا, حتى أنها ابتسمت ابتسامة صغيرة حذرة. -إن كنت راضيا, فقد حضرت نسختين من العقد. ابتعدت عنه وفتحت درجا من أدراج المكتب. لا, لم يكن راضيا تماما, وهو لن يعرف طعم الرضى ما لم تصبح له, يريد أن يرى تعابير وجهها عندما تنظر إليه وليس إلى لوحة فنية, يريد أن تتغير تعابير وجهها فتمتلئ بالحب والشغف لمجرد رؤيته. انحنت وتناولت ورقتين من الدرج, فيما راح غابرييل يتأمل تفاصيل جسمها بإعجاب. قالت وهي تستدير نحوه:" إن كنت تريد إجراء أي تعديلات. . . ". تغيرت ملامح وجهها, وظهر عليها الامتعاض. أحس غابرييل بالذنب, فأشاح بنظره وادعى النظر إلى ساعته, ومن ثم إلى الورقتين اللتين تحملهما في يدها وسأل:" لم لا نناقش الأمر حول غداء عمل؟". قالت ريانون في نفسها إنها مخطئة حتما, فغابرييل هادسون ليس من الرجال الذين يتأملون النساء كنمر يستعد للانقضاض على فريسته. واقتراح الغداء صادر عن رجل لا يملك الكثير من الوقت ليضيعه, وقد شاء الدمج بين العمل والطعام لتوفير الوقت. وعندما نظر إليها مجددا, بدت عيناه فارغتين من أي تعبير, فقالت: -غالبا ما يرتاد صالة العرض زبائن كثر عند وقت الغداء, ولا أريد أن أترك بيري بمفرده. رفت عيناه بشكل طفيف, وهو رد الفعل الوحيد الذي استطاعت ملاحظته, ثم انتقلت نظرتها إلى ما وراءها فأدركت أن بيري دخل الغرفة فيما كانت تتكلم. قال لها فرحا:" لا تقلقي راي, ألا تثقين بي؟". -بالطبع أثق بك!. -إذا اذهبي, أستطيع تدبر الأمور بمفردي. رفع غابرييل حاجبيه ونظر إلى ريانون:" هلا ذهبنا؟". دلها إلى الباب فقال بيري ملوحا بورقة:" لدي طلبية أخرى من الشمع الذي وصلنا الشهر الفائت, سأتركها على مكتبك, أراك لاحقا". -أظن أنني أستطيع الخروج لنصف ساعة. تناولت حقيبة يدها, ووضعت العقدين في داخلها. وصلا إلى مطعم فسيح غير مكتظ بالناس, وأرشدتهما نادلة إلى طاولة في الزاوية قرب النافذة. خلع غابرييل سترته, ووضعها على الكرسي قبل أن يجلس, ويطلب لهما الغداء. سلمته ريانون العقدين, قرأ أحدهما بسرعة وطرح عليها سؤالين فردت برضى, ثم وقع النسختين ووعدها:" سأحرص على أن تستلمي الشيك غدا لتبدئي العمل على المرحلة الأولى من المشروع". دفع الأوراق نحوها, وناولها القلم الفضي الغالي الثمن الذي استخدمه لتوقيع العقدين لتوقع بدورها. نظر غابرييل إلى العقد للحظة ثم ثناه ووضعه في جيبه, وناولته ريانون القلم بدورها فوضعه في جيبه ومد يده يصافحها:" هل اتفقنا؟". سمحت له بمصافحتها, فأبقى يده في يدها للحظة ثم أفلتها. وبعد أن أحضرت النادلة الطعام سأل ريانون:" متى تستطيعين البدء بالعمل؟ سأطلب تحضير السقالة لك". -سأجيبك لاحقا, فهذا يعتمد على الوقت الذي أحتاجه لتحضير المواد. أعادت نسختها إلى حقيبة يدها. -أما من غرفة في المبنى لأخزن فيها البلاط, فهي ستحتاج إلى مساحة كبيرة؟ -سأتدبر لك مكانا, يفترض به أن يكون قريبا من الحائط الذي ستعملين, عليه أليس كذلك؟. -إذا أمكن. -سأجعل هذا ممكنا. نظرت إليه وهي تقطع الفطيرة المحشوة بالخضار إلى نصفين, فقال: -إن أراد المرء شيئا ما بقوة, فيصبح أي شيء ممكنا. -لا!. وانزلق السكين في يدها فجرحت إبهامها. أفلتت السكين في صحنها ورفعت إبهامها إلى فمها. مد غابرييل يده, وأمسك بيدها ليرى الجرح الزهري اللون على إصبعها. قالت ريانون وقد بدأ الدم يسيل:" لم يحصل شيء فالسكين ليس بحاد". -إنه حاد بما فيه الكفاية. تناول محرمة وثناها ثم ضغط على الجرح الصغير. حاولت أن تسحب يدها لكنه اكتفى بالقول:" كفي عن الحراك فيتوقف النزيف بشكل أسرع". -هذه الأمور لا تحدث معي عادة, لا بد أنك تظنني غبية. فهذه هي المرة الثانية التي تتعرض فيها لحادث فيما هي تتناول الطعام معه. الحمد لله, أنه لم يكن موجودا حين أوقعت إناء الزهور من يدها عندما رأت الباقة التي أرسلها. ابتسم:" أعلم أنك لست غبية, فأنت سيدة أعمال ناجحة, وفنانة موهوبة, يا لهذا المزيج!". -لا يقضي الفنانون كلهم وقتهم وهم يحلمون. إذا استمر في الكلام, فقد تنسى أن يده تحيط بمعصمها وتدفئ يدها, وتزيد سرعة نبضها, وأن يده الأخرى تمسك بإصبعها المجروح وتضغط عليه كالبلسم الشافي. -طبعا, ماذا؟ ماقصدك؟.. ضاقت حنجرة ريانون, ولو لم يكن يمسك بيدها بقوة لسحبتها. -أنا. . . لا أذكر عما كنا نتحدث. -كنت أقول إن المرء يستطيع الحصول على أي شيء إذا أراده بقوة. وأنت قلت. . . لا. نظرت إلى أيديهما, ورطبت شفتيها بلسانها, وحاولت أن تثبت صوتها لئلا يرتجف, فقالت: -لا تجري الأمور دوما على هذا النحو. ليس إذا كان ما تريده مرتبطا برغبة شخص آخر, شخص يحتاج إلى هذا الأمر تماما كما تحتاجه أنت. أحنى رأسه, فعرفت أنه فهم ما تعنيه. -ثمة ما يدعى تسوية, وأنا أحاول أن أجعل الأمور مناصفة عندما تتسنى لي الفرصة لذلك. قالت ريانون وهي تحدق إلى الفوطة المطوية والملفوفة على إصبعها. -أحيانا يتوجب على المرء أن يخسر. -أنا لست بخاسر. شعرت برعشة, فأردف:" ولا أنت أيضا". التقت نظراتهما. كانت نظراته هادئة ثابتة, وقد انعكس ضوء النهار في عينيه فبدتا فضيتين. قال:"أظن أن النزيف توقف". رفع الفوطة بحذر, ثم نزعها عن إصبعها بلطف بالغ وأفلت يدها. -سيلتئم الجرح بسرعة. نعم فالجراح تشفى, والندب تلتئم مع الوقت, والمعجزات تحصل, فلطالما أدهش المعوقون أطبائهم بشفائهم. ظهر الفضول في عينيه:" بم تفكرين؟". هزت ريانون رأسها:"لا شيء". تناولت الفطيرة من صحنها وقضمت منها قضمة صغيرة متجنبة بذلك الكلام. ليس لديها ما تقوله لأحد قبل أن تتغلب على شياطين الماضي. قضم غابرييل قطعة من الهامبرغر. لن تخبره حتما ما الذي جعل نظرة التصميم تعلو وجهها, وحول لون عينيها الأخضر إلى نور حاد, وجعل ابتسامتها شبيهة بابتسامة الموناليزا. كانت ريانون خبيرة في إخفاء أفكارها, وتتقن تماما فن الاحتفاظ بها لنفسها إلا أنها لا تستطيع دوما إخفاء مشاعرها. لقد تعلم أن يقرأ تعابير وجهها, لكنها لن تسر إذا عرفت هذا. ولن يسألها مجددا عما يدور في خلدها لأنها تسلك الآن طريق العودة إلى قمقمها مدعية تناول الطعام. سألها ليكسر حاجز الصمت:" كيف تجدين طعامك؟". -لذيذ, وأنت؟. ونظرت إلى صحنه, فلاحظت أنه لم يأكل إلا قطعة صغيرة من الهامبرغر لأن انتباهه كله مركز على تعابير وجهها وصوتها. كان نبضها سريعا. ولعل السبب هو إمساكه بيدها, أو الحادث الصغير الذي تعرضت له, فبعض الناس لا يحتملون رؤية الدم. -لذيذ!. كان الهامبرغر كبيرا وشهيا, و البطاطا المقلية مقرمشة. وقبل أن يتسنى لها أن تقضم قطعة أخرى من الطعام, قال:" سأحضر لك مفتاحا كي تتمكني من دخول المبنى. فبما أنك ستعملين بعد الدوام, لن تجدي أحدا هناك, وسيكون الباب مقفلا". -شكرا لك. لاحظ توترها فأردف:" يعيش الحارس في الطابق الأخير من المبنى, ومكتبه في البهو. إذا واجهتك أي مشكلة. فيمكنك مناداته". -سأفعل. أهو شعور بالارتياح ذاك الذي علا وجهها؟ لعلها تتوتر من البقاء في المبنى الخالي بمفردها. إن كان الأمر كذلك, فهي لن تقر بذلك حتما. تناولت الفطيرة مجددا فبات عاجزا عن رؤية ملامحها. أنهت ريانون طعامها, وشربت كوب القهوة ثم نظرت إلى ساعتها, ووقفت:" علي أن أذهب". أبعد غابرييل صحنه, ووقف ليحضر سترته. كان الشبان على الطاولة المجاورة قد أضافوا كرسيين, ومد أحدهم رجليه معترضا طريق ريانون. قالت ريانون:" عذرا!". نظر الرجل إليها وبدأ يستقيم على مهل وهو يتأمل جسمها صعودا إلى وجهها, ثم قال: -طبعا يا حلوة!. لم يتحرك بسرعة بل أخذ وقته وراح يتأملها مسترعيا انتباه رفاقه تقدم غابرييل من ريانون ووضع يده حول خصرها, ونظر إلى الرجل باستعلاء. تحول نظر الرجل إليه, فرفت عيناه ثم استقام ووقف مبعدا كرسيه عن الطريق. تمتم غابرييل فيما خرجت ريانون من المطعم:" غبي, نذل". انتبه إلى أنها ترتجف فقربها منه, ثم أدرك أن ما قام به ليس بالتصرف الذكي, فخفف من قبضته: -هل أنت بخير؟ -طبعا, لم يحصل شيء, إنه مجرد غبي. عادة, كان غابرييل ليتجاهل ما حدث, لكنه شعر برغبة كبيرة في ضرب هذا الرجل, ومحو الابتسامة البغيضة عن وجهه. صحيح أنه مجرد حادث بسيط, لكنه كشف عن انزعاجه من هذه التصرفات وهو أمر لم يعهده في نفسه سابقا. لا يحق لأي رجل أن يعترض طريق امرأة وأن يتنمر عليها, وهذا ما فعله ذاك الساذج في المطعم. لقد استمتع باعتراض طريق ريانون وإحراجها, وجعلها تشعر بالانزعاج. بغض النظر عما حصل لريانون في الماضي, فالحوادث الشبيهة بما جرى اليوم مهمة بالنسبة إليها وليست عابرة. يمكنه أن يكتشف ما حدث لها في الماضي. يمكنه أن يوظف تحريا خاصا ليعرف ماضيها. اضطر للقيام بهذا في الماضي لحماية شركته, لكنه لا يستطيع أن يفعل هذا بريانون. لقد وعدها بذلك, عليها أن تخبره بسرها بنفسها. ترى هل ستثق به يوما إلى حد أن تكشف له سرها؟. 6-الطريق الآمن أعطت ريانون فرصة غداء لبيري وحاولت التركيز على ترتيب الرفوف عوضا عن التفكير بغابرييل هادسون. كانت مستعدة لأن تسامحه على انتهاكه خصوصياتها, وأن تقول له إنها بالغت في رد فعلها. إلا أن اللحظة المؤاتية لم تحن, وقد أخل الحادث عند مغادرة المطعم توازنها. كانت ممتنة لحضوره القوي, وفي الشارع حين ضمها إليه, شعرت برغبة في الاستسلام لدفء يديه. لا بد أنه قال مجنونة, إذ انهارت جراء حادث تافه كالذي حصل. كانت تكتب على أحد الملصقات بحذر, وترفع نظرها من حين لآخر لتراقب زبونين دخلا, إلا أنها توقفت فجأة, وجمد القلم في يدها فيما اضطرب نظرها. . . لقد واجهت في السابق حوادث مشابهة ولم تشعر بالانهيار, ليس مؤخرا على أي حال. فهي تشعر بالأمان في الأماكن العامة. كان الرجل يمازحها فحسب. إلا أن رغبتها بالانهيار و الاستناد إلى غابرييل, لمجرد أنه فهم انزعاجها, أمر مزعج وخطير أيضا. لقد تعلمت ريانون بالطريقة الصعبة أن تتكل على نفسها, وأن تقف على قدميها بمفردها, وتحل مشاكلها. وهي ليست مستعدة للمساومة في هذا, فقد نالت استقلاليتها بعد جهد وعناء. تمكن غابرييل بطريقة ما من خرق دفاعاتها, دفاعات تحتاجها لتعمل في العالم. وقد انتابها بحضوره مشاعر ظنت أنها تخلصت منها إلى الأبد. وقبل أن تكتشف أنه يعرف عنوان منزلها, كانت تتجه بخطى ثابتة نحو اكتشاف المشاعر التي يحييها فيها, والسماح لها بالنمو والتطور إلى شيء. . . ربما إلى شيء أعمق. لكن, إن كان الأمر يعني أن تفتح الباب على مشاعر تضعفها. . . فهي لا تستطيع أن تحتمل ذلك على حساب ما اكتسبته في السنوات الخمس الماضية. عطف غابرييل و حمايته كفيلان بنسف استقلاليتها. إنه شرك وإغواء في الوقت عينه, فإن سمحت له بأن يغريها لتعتمد على قوته,تخلى عنها, فستعود إلى دوامة اليأس التي ابتعدت عنها بحزم. ولم تبتعد مرة واحدة بل اثنتين. -عذرا؟. قطع الصوت حبل أفكارها, فنظرت لترى سيدة تقف قبالتها حاملة بيدها لوحة صغيرة. -كم ثمن هذه اللوحة؟ فأنا عاجزة عن قراءة الثمن. تناولت ريانون اللوحة ثم قرأت السعر بصوت مرتفع. عليها أن تكتب الأرقام بشكل أكبر, فخطها صغير. دخل بيري, وأمسك الباب للزبونة التي غادرت وقد اشترت اللوحة. سألها بيري:"إذا, كيف كان غداؤك". -وقعنا عقدا بخصوص العمل. -لا يعقل أنكما لم تتحدثا سوى عن الأعمال. -بلى. عادت ريانون إلى عملها ثم قالت لبيري:" ألا يتوجب عليك إفراغ بعض صناديق البضائع؟". -طبعا راي. تنهدت. لم تقصد أن تكون حازمة مع بيري, فعدم استقرارها وضياعها ليسا ذنبه. في الواقع, الذنب ليس ذنب غابرييل حتى, المشكلة مشكلتها وحدها. وشعرت بنوبة من الغضب تجتاحها, فهذه ليست غلطتها حتى. بعد أشهر من العلاج النفسي, اقتنعت أخيرا بأنها وحدها القادرة على شفاء نفسها. غدا, ستبدأ بطلب المعدات للوحة آنجل إير, كما عليها الاتصال بغابرييل للاستعلام عن غرفة التخزين التي وعدها بها. هذه الفكرة أيقظت فيها مزيجا من المشاعر المعقدة: القلق والأمل, والترقب, مشاعر تخلو تماما من المنطق. مشاعر لا ضرورة لها كما تبين لها لاحقا. وفيما كانت تماطل مدعية أنه بالكاد تسنى لها الوقت للقيام بأي ترتيبات, اتصل بها في صباح اليوم التالي, وقال: -حضرنا لك غرفة للتخزين قرب المصاعد كي يتم نقل المعدات إليها, وسأحرص على وجود شخص يساعدك كلما احتجت إلى إحضار شيء ما أو حمله. -لا أظن أن الأمر ضروري. -بلى, أعرف أن البلاط ثقيل الوزن, أتذكرين؟. وتذكرت كيف حمل الصندوق بسهولة بعد أن جعلت من نفسها موضع سخرية بإيقاعها الصندوق أرضا. -لن أحتاج إلى البلاطات قبل فترة, ليس قبل أن أنتهي من الكرتون. -من ماذا؟. -رسم ملون على الحائط أعمل على أساسه. في المشاريع الأخرى, كانت تعمل في الاستديو ثم تثبت اللوحة في مكانها, لكن هذه اللوحة كبيرة جدا ومعقدة. لذا, فضلت العمل في الموقع عوضا عن المخاطرة بتقسيمها إلى أجزاء غير متناسقة. -كما طلبت سقالة, يمكنك المجيء متى شئت للتأكد من تركيبها تماما كما تريدين. وقف غابرييل يراقب عن كثب فريق العمل وهو يركب السقالة تحت إشراف ريانون, ليتأكد من أن أنها آمنة تماما. أكدت له ريانون:" أنا متأكدة من أن السقالة متينة". -ألست قلقة من العمل هنا؟. -سأكون بخير. فالوقوع من فوق يسبب كارثة, إلا أن حبل الأمان الذي أصر على تركيبه كفيل بضمان عدم حدوث أي مشكلة. قال غابرييل منتقدا:" الإضاءة ليست ممتازة, فإن كنت تنوين العمل ليلا ستحتاجين إلى ضوء كاشف أو ما شابه, سأرى ما بوسعي فعله حيال هذا الأمر". -شكرا لك!. تناولت ورقة كبيرة ملفوفة وفتحتها, فإذا بالتصميم الذي وضعته سابقا, لكن بحج أكبر. سألها:" هل ستنسخين هذه؟". -نعم, فأنا لا أريد ارتكاب أي خطأ على لوحة بهذا الحجم. سأرسم شبكة على الحائط أولا. -هل أساعدك في شيء؟. كانت تنوي طلب مساعدة بيري, على أن تدفع له أتعابه, لكنها عادت وشعرت بالذنب لإلهائه عن فنه, فوقته محدود جدا نظرا لعمله بدوام كامل في صالة العرض. عندما ترددت أضاف:" قلت لك إنني لن أستعجلك, ولكن ثمة عرقلة طفيفة بسبب السقالة. إن حدث طارئ ما وعجزنا عن استخدام المصاعد فسنواجه مشاكل جسيمة, لأن المدخل مغلق بشكل شبه كامل. إنه محق لقد بقي مكان ليمر شخص واحد, فقد قلصت السقالة المسافة بشكل كبير. -سأنهي الجزء العلوي أولا, وبعدئذ يمكننا إزالة السقالة. -متى تنوين البدء بالعمل؟. -غدا, بعد إغلاق صالة العرض, سأحضر للعمل لبضع ساعات. -سأكون هنا, ولكن إليك المفتاح لتستخدميه لاحقا. مد يده إلى جيبه, وناولها مغلفا. -سأعلمك كيف تستعملينه. وفيما كانا ينزلان السلالم, ظهر رجل ملتح, متوسط العمر, فقدمه غابرييل إليها على أنه الحارس. سلم ميك دايارت على ريانون, وأكد لها أنه سيساعدها متى احتاجت إليه. وفيما كان يواكبها إلى سيارتها, قال غابرييل:" إن غادرت في وقت متأخر, ولم أكن في الجوار, فسيرافقك ميك أو غيره من رجال الأمن إلى سيارتك أو يطلبون لك سيارة أجرة". حين وصلت بعد ظهر السبت, وجدته واقفا عند موقع العمل يتأمل الحائط, كما رأت ضوءين كبيرين موجهين إلى الحائط. سألها: -هل تناولت الطعام؟. -نعم. وانشغلا برسم الشبكة. وانتهيا قبل حلول الظلام. قالت وهي تنزل من على السقالة:" شكرا لك, لم أتوقع إنهاء الشبكة اليوم". -ما الخطوة التالية؟ -سأنقل الرسم على الحائط. -أظن أنك ستنجزين هذا العمل بمفردك. -نعم, ولكنني أقدر لك مساعدتك. -هل لي بدعوتك لتناول الطعام؟. -أنا خارجة للعشاء مع رفاقي هذه الليلة, كما أنك لست مضطرا لإطعامي. -طالما يفعل أحدهم هذا. . . نهار الأحد, كانت قد بدأت العمل منذ حوالي نصف ساعة, عندما سمعت وقع خطوات فتوقفت عن العمل, ونظرت إلى الأسفل وهي تتوقع رؤية الحارس. لكنها رأت غابرييل عند أسفل الدرج وقد اتكأ إلى الحائط. قال:" ظننت أنك ستكونين هنا". -لم أكن أظن أنك ستأتي. تردد صوتها في المبنى الفارغ الذي بدا أكثر هدوءا من البارحة. -لدي بعض الأعمال المكتبية التي علي أن أنهيها. آمل ألا تبقي هنا طيلة النهار, فالعمل ستة أيام في الأسبوع في صالة العرض, وقضاء عطلة الأسبوع في العمل في صالة العرض, وقضاء عطلة الأسبوع في العمل لحسابي, يعتبر عبودية ولن أرضى بها. -هذا مختلف عن العمل في صالة العرض. لوى فمه:" أهذه عبودية تحبينها؟". -أعلم أنني أتقاضى أجرا مقابل هذا, لكنني أقوم بعمل أحبه!. -حسنا, لا تطيلي البقاء. هل تحتاجين إلى شيء ما؟. هزت ريانون رأسها:"لا, شكرا لك". وقف للحظة ثم قال:" حسنا, إلى اللقاء". وقفت تستمع إلى وقع خطواته, وبقيت جامدة في مكانها إلى أن أيقنت أنه ذهب. . . ذهب بكل بساطة! عادت إلى الرسم فارتكبت غلطة, وشتمت في سرها, مر الحارس بضع مرات ليطمئن عليها, ثم غاب. وعند الساعة الواحدة, ظهر غابرييل من جديد وسألها: هل تناولت الغداء؟ أو أخذت استراحة؟". -نعم فعلت, قلت لك ألا تقلق بشأني. كانت قد أحضرت بعض السندوتشات والفاكهة وتناولتها وهي تجلس على الدرج. -هذا عمل كبير كي ينجزه شخص واحد. -أنا قادرة على إتمامه. -لم أكن أشير إلى العكس. جل ما في الأمر هو أنني لا أريد رؤيتك منهكة. -لن تفعل, فأنا قادرة على الاعتناء بنفسي. فهي تفعل هذا منذ مدة طويلة. نظر إلى ساعة يده:" علي أن أنصرف, ميك هنا إن احتجت إلى شيء ما". نهار الإثنين, مر بها غابرييل قبل أن يغادر المبنى, فأجبرت نفسها على التركيز وهو يراقبها ولم تسترخ من جديد إلا بعد أن غادر. وعند الساعة الثامنة, عرض عليها ميك بعض القهوة, وجلس بقربها على الدرج يتحدثان إلى أن أنهت قهوتها. قال وهو يريها صورة ثلاثة أولاد مبتسمين مع والدتهم:" هؤلاء أحفادي. للأسف لم تعش زوجتي حتى تراهم". قالت ريانون:" إنهم رائعون". فهي تحب الأولاد, إنهم مسلون وغير مؤذيين, بالرغم من أنهم يحملون ذويهم مسؤولية كبيرة. وتمنت أن تحظى يوما ما بأطفال لها, إلا أنها طردت من فكرها كل الأمور الأخرى التي تسبق إنجاب الأطفال. كانت رانون تقود سيارتها كل مساء إلى مبنى آنجل إير, وتستفيد من المواقف الشاغرة لتركن سيارتها. نهار الجمعة, ضغطت ريانون على جرس باب الموظفين لتخرج, وعوضا عن ميك, ظهر غابرييل أمامها وهو يبدو أكثر وسامة من أي وقت مضى, بقميصه الأبيض وكميه المرفوعين, وسرواله الأسود. -أتعمل لساعة متأخرة؟ رد وهو يفتح لها الباب:" نعم. كيف يجري العمل؟ بدا هذا الصباح وكأنك على وشك إنهاء الرسم". -لقد أنهيتها الآن, غدا سأبدأ التلوين. وسارا باتجاه سيارتها. -ستحتاجين إلى مساعدة في حمل علب الطلاء, لذا سأساعدك. -قلت إن ميك سيساعدني. -سيأخذ ميك عطلة نهاية هذا الأسبوع ليرى عائلته. -ألا تأخذ عطلا؟ -أنا المدير. آخذ عطلة عندما يتسنى لي ذلك. فكرت ريانون في أنه اعتاد العمل حتى وقت متأخر منذ أيام صباه, ما ساعده على تحويل شركته إلى ما هي عليه الآن. سأل:" في أي ساعة تودين الحضور؟". -حوالي الثانية والنصف, بعد إقفال صالة العرض. -سأكون هنا. حين صعدت إلى سيارتها, انحنى قبالة النافذة وقد كتف يديه, ثم قال:" قلت لي يوما إنني أعجبك, فهل تغير هذا؟". -لا. ردت قبل أن تتذكر متى قالت هذا, ثم تذكرت عناقهما في مكتبه إنها معجبة به, لكنها تخشى تأثيره فيها. في اليوم التالي, لاقاها غابرييل مرتديا بنطلونا من الجينز وقميصا, وساعدها على حمل علب الطلاء من غرفة التخزين. عندما بدأت طلاء الخلفية باللون الأزرق قال:" اللون خفيف, أليس كذلك؟". أكدت له:" هذه الألوان تقريبية فحسب, إنها مجرد أساس لقطع البلاط". -إذا, أأستطيع أن ألون؟. فكرت في أن إلهاءه بالعمل سيساعدها على التركيز عوضا عن الوقوف في الأسفل يتأمل عملها. -أظن ذلك. وفكرت للحظات:" إذا بدأت من أعلى الزاوية هنا فقد نلتقي عند الوسط". ابتسم:" فكرة ممتازة". حين وصلا إلى الوسط, تراجعت وسمحت له بإنهاء الجزء الأخير, وسألها:" كيف أبليت؟". -حسنا. بدا راضيا عن نفسه, فضحكت:" يمكنك أن تقوم بالمزيد إن شئت". كادت تعتاد على وجوده بقربها حيث يعمل بصمت وينفذ تعليماتها, طاليا المساحات الكبيرة, فيما تعمل هي على المساحات الصغيرة الدقيقة. وعند الخامسة, سألها:" هل تنوين العمل لفترة أطول؟". هزت ريانون رأسها:" سأتناول العشاء مع رفاقي الليلة". -دعيت لزيارة ملهى ليلي جديد نهار السبت المقبل, فهل تودين مرافقتي؟. في المرات القليلة التي ارتادت فيها ريانون ملاه ليلية مع رفاقها, كانت التجربة مزعجة, فقالت:" أنا لا أرقص, كما أننا اتفقنا على إبقاء علاقتنا مهنية صرف". -في الواقع, لا أذكر أنني اتفقت على شيء كهذا. رمته ريانون بنظرة ثاقبة, فسألها:" لم لا ترقصين؟". -أنا لا أجيد الرقص. -التمرين مفيد... كما في معظم الأمور. -أنا غير مهتمة بهذا. ضحك:" أنت لا تعرفين ما الذي يفوتك!". وصلت في صباح اليوم التالي فوجدته ينتظرها وقد حضر الطلاء والفرشاة, ووقف يتأمل ما أنجزاه في الأمس. توقفت عند أسفل الدرج فاستدار نحوها وقال:" صباح الخير". لم يشح بنظره عنها, وراح يراقب كل حركة من حركاتها وهي تتجه نحوه. عجزت عن قراءة تعابير وجهه, فانزعجت. كانت عيناه مغمضتين قليلا وتلمعان. حاولت ريانون محاربة الشعور بالانجذاب الذي استيقظ فيها. كان الشعور قويا إلى حد أنها تعمدت الوقوف بعيدا عنه. وحين وصلت إلى موقع العمل, شعرت بأن جسمها يخدر وأحست بسائل دافئ يسري في عروقها. لم يتحرك, بل تسمر في مكانه أمام علب الطلاء, وأيقنت أن عليها الاقتراب منه لتناول الطلاء. كادت تقع عندما مست يدها طرف قميصه. بقي مسمرا في مكانه, فيما شعرت بخدر في أناملها. راحت يدها ترتجف وهي تتناول الفرشاة عن الأرض فيما اقترب منها, اقترب كثيرا. شعرت بدفء جسمه وبنفسه يداعب شعرها فانزلقت الفرشاة من يدها, وحطت على الغطاء الموضوع أرضا. التقطها غابرييل وناولها إياها بأصابعه القوية. قالت بصوت منخفض:" شكرا لك". -ما من مشكله, قولي لي ما علي فعله. عملا بصمت, وشعرت ريانون بأن التوتر يتلاشى تدريجيا. وعندما حضر ميك وعرض عليهما بعض القهوة كانت ريانون قد عادت إلى طبيعتها. عند الظهر, اقترح غابرييل: -ثمة مطعم جيد بالقرب من هنا. هزت ريانون رأسها:" لقد أحضرت غدائي معي, فتفضل أنت". غادر لبعض الوقت وعاد وهو يحمل بيده فطيرة وقطعة دوناتس, وفنجاني قهوة. شكرته ريانون حين قدم لها كوب القهوة. جلست على الدرج وأسندت ظهرها إلى الحائط وراحت تتناول طعامها. نظر إليها نظرة مفكرة ثم سأل:" هل أنت راضية عن مجريات الأمور؟". قررت عدم تفسير كلماته بطريقة مبطنة, فنظرت إلى اللوحة. -العمل يسير بشكل أسرع مما توقعت بفضل مساعدتك. -تسرني مساعدتك. أنت تعلمين أن بوسعك طلب مساعدتي في أي وقت, ولأي غرض. نظرت إليه وقد اكتسحها شعور بالضعف إلا أنها قاومت هذا الشعور. قالت:" -أظن أن لوحة الموزاييك ستعني لك الكثير الآن بعد أن شاركت في صنعها. نظر إلى العمل الذي أنجزاه ثم استدار ناحيتها:" هذا عمل سأذكره ما حييت". عند الخامسة, نزلت ريانون لتتأمل عملها من الأسفل وتريح يديها وظهرها, لحق بها غابرييل ووقف وراءها واقترح: -هذا يكفي لليوم, هل نضع الطلاء والفراشي في مكانها؟. -نعم, أظن ذلك. -سأهتم بهذا بعد أن أوصلك إلى سيارتك, فأنت بحاجة إلى الراحة. اعتادت ريانون وجود غابرييل وتقديمه المساعدة من وقت إلى آخر. وفي غياب غابرييل, يحضر لها ميك القهوة, ويوصلها إلى سيارتها بعد أن يحرص على ألا تطيل السهر. بعد أن انتهى الرسم, وضعت نوعا من الغراء على البلاط, فيما تعاون غابرييل و ميك على حمل صندوق مليء بالبلاط ووضعاه بحذر على السقالة. وقف غابرييل تحتها واضعا يديه على خصره, ورأسه مرفوع. بعد أن وضعت بعض قطع البلاط على الحائط نظرت إلى الأسفل, إلى الأغراض التي تركتها على الشرشف. -ماذا تريدين؟. أشارت:" نسيت إحضار أدوات تقطيع البلاط". ناولها الأدوات التي تحتاجها وراقبها وهي تقطع البلاط إلى الشكل المناسب, ثم تغمسها في الغراء وتلصقها على الحائط. قالت لغابرييل:" إن كنت مشغولا فيمكنك الانصراف. أنا لا أحتاج لأن تساعدني اليوم". استدار ونظر إلى وجهها:" كما تشائين. هل أزعجك؟". بعد المساعدة التي قدمها لها , بدا قولها هذا فظا. فتنهدت: - سيصبح العمل مضجرا, ليس إلا. عقد يديه على صدره, ووقف مبعدا رجليه الواحدة عن الأخرى: -أنا لم أضجر بعد. استدارت لتتناول قطعة أخرى. -افعل ما يحلو لك. -أنا أفعل هذا, في الواقع أنت تحلين لي. -نعم فعلت, قلت لك ألا تقلق بشأني. كانت قد أحضرت بعض السندوتشات والفاكهة وتناولتها وهي تجلس على الدرج. -هذا عمل كبير كي ينجزه شخص واحد. -أنا قادرة على إتمامه. -لم أكن أشير إلى العكس. جل ما في الأمر هو أنني لا أريد رؤيتك منهكة. -لن تفعل, فأنا قادرة على الاعتناء بنفسي. فهي تفعل هذا منذ مدة طويلة. نظر إلى ساعة يده:" علي أن أنصرف, ميك هنا إن احتجت إلى شيء ما". نهار الإثنين, مر بها غابرييل قبل أن يغادر المبنى, فأجبرت نفسها على التركيز وهو يراقبها ولم تسترخ من جديد إلا بعد أن غادر. وعند الساعة الثامنة, عرض عليها ميك بعض القهوة, وجلس بقربها على الدرج يتحدثان إلى أن أنهت قهوتها. قال وهو يريها صورة ثلاثة أولاد مبتسمين مع والدتهم:" هؤلاء أحفادي. للأسف لم تعش زوجتي حتى تراهم". قالت ريانون:" إنهم رائعون". فهي تحب الأولاد, إنهم مسلون وغير مؤذيين, بالرغم من أنهم يحملون ذويهم مسؤولية كبيرة. وتمنت أن تحظى يوما ما بأطفال لها, إلا أنها طردت من فكرها كل الأمور الأخرى التي تسبق إنجاب الأطفال. كانت رانون تقود سيارتها كل مساء إلى مبنى آنجل إير, وتستفيد من المواقف الشاغرة لتركن سيارتها. نهار الجمعة, ضغطت ريانون على جرس باب الموظفين لتخرج, وعوضا عن ميك, ظهر غابرييل أمامها وهو يبدو أكثر وسامة من أي وقت مضى, بقميصه الأبيض وكميه المرفوعين, وسرواله الأسود. -أتعمل لساعة متأخرة؟ رد وهو يفتح لها الباب:" نعم. كيف يجري العمل؟ بدا هذا الصباح وكأنك على وشك إنهاء الرسم". -لقد أنهيتها الآن, غدا سأبدأ التلوين. وسارا باتجاه سيارتها. -ستحتاجين إلى مساعدة في حمل علب الطلاء, لذا سأساعدك. -قلت إن ميك سيساعدني. -سيأخذ ميك عطلة نهاية هذا الأسبوع ليرى عائلته. -ألا تأخذ عطلا؟ -أنا المدير. آخذ عطلة عندما يتسنى لي ذلك. فكرت ريانون في أنه اعتاد العمل حتى وقت متأخر منذ أيام صباه, ما ساعده على تحويل شركته إلى ما هي عليه الآن. سأل:" في أي ساعة تودين الحضور؟". -حوالي الثانية والنصف, بعد إقفال صالة العرض. -سأكون هنا. حين صعدت إلى سيارتها, انحنى قبالة النافذة وقد كتف يديه, ثم قال:" قلت لي يوما إنني أعجبك, فهل تغير هذا؟". -لا. ردت قبل أن تتذكر متى قالت هذا, ثم تذكرت عناقهما في مكتبه إنها معجبة به, لكنها تخشى تأثيره فيها. في اليوم التالي, لاقاها غابرييل مرتديا بنطلونا من الجينز وقميصا, وساعدها على حمل علب الطلاء من غرفة التخزين. عندما بدأت طلاء الخلفية باللون الأزرق قال:" اللون خفيف, أليس كذلك؟". أكدت له:" هذه الألوان تقريبية فحسب, إنها مجرد أساس لقطع البلاط". -إذا, أأستطيع أن ألون؟. فكرت في أن إلهاءه بالعمل سيساعدها على التركيز عوضا عن الوقوف في الأسفل يتأمل عملها. -أظن ذلك. وفكرت للحظات:" إذا بدأت من أعلى الزاوية هنا فقد نلتقي عند الوسط". ابتسم:" فكرة ممتازة". حين وصلا إلى الوسط, تراجعت وسمحت له بإنهاء الجزء الأخير, وسألها:" كيف أبليت؟". -حسنا. بدا راضيا عن نفسه, فضحكت:" يمكنك أن تقوم بالمزيد إن شئت". كادت تعتاد على وجوده بقربها حيث يعمل بصمت وينفذ تعليماتها, طاليا المساحات الكبيرة, فيما تعمل هي على المساحات الصغيرة الدقيقة. وعند الخامسة, سألها:" هل تنوين العمل لفترة أطول؟". هزت ريانون رأسها:" سأتناول العشاء مع رفاقي الليلة". -دعيت لزيارة ملهى ليلي جديد نهار السبت المقبل, فهل تودين مرافقتي؟. في المرات القليلة التي ارتادت فيها ريانون ملاه ليلية مع رفاقها, كانت التجربة مزعجة, فقالت:" أنا لا أرقص, كما أننا اتفقنا على إبقاء علاقتنا مهنية صرف". -في الواقع, لا أذكر أنني اتفقت على شيء كهذا. رمته ريانون بنظرة ثاقبة, فسألها:" لم لا ترقصين؟". -أنا لا أجيد الرقص. -التمرين مفيد... كما في معظم الأمور. -أنا غير مهتمة بهذا. ضحك:" أنت لا تعرفين ما الذي يفوتك!". وصلت في صباح اليوم التالي فوجدته ينتظرها وقد حضر الطلاء والفرشاة, ووقف يتأمل ما أنجزاه في الأمس. توقفت عند أسفل الدرج فاستدار نحوها وقال:" صباح الخير". لم يشح بنظره عنها, وراح يراقب كل حركة من حركاتها وهي تتجه نحوه. عجزت عن قراءة تعابير وجهه, فانزعجت. كانت عيناه مغمضتين قليلا وتلمعان. حاولت ريانون محاربة الشعور بالانجذاب الذي استيقظ فيها. كان الشعور قويا إلى حد أنها تعمدت الوقوف بعيدا عنه. وحين وصلت إلى موقع العمل, شعرت بأن جسمها يخدر وأحست بسائل دافئ يسري في عروقها. لم يتحرك, بل تسمر في مكانه أمام علب الطلاء, وأيقنت أن عليها الاقتراب منه لتناول الطلاء. كادت تقع عندما مست يدها طرف قميصه. بقي مسمرا في مكانه, فيما شعرت بخدر في أناملها. راحت يدها ترتجف وهي تتناول الفرشاة عن الأرض فيما اقترب منها, اقترب كثيرا. شعرت بدفء جسمه وبنفسه يداعب شعرها فانزلقت الفرشاة من يدها, وحطت على الغطاء الموضوع أرضا. التقطها غابرييل وناولها إياها بأصابعه القوية. قالت بصوت منخفض:" شكرا لك". -ما من مشكله, قولي لي ما علي فعله. عملا بصمت, وشعرت ريانون بأن التوتر يتلاشى تدريجيا. وعندما حضر ميك وعرض عليهما بعض القهوة كانت ريانون قد عادت إلى طبيعتها. عند الظهر, اقترح غابرييل: -ثمة مطعم جيد بالقرب من هنا. هزت ريانون رأسها:" لقد أحضرت غدائي معي, فتفضل أنت". غادر لبعض الوقت وعاد وهو يحمل بيده فطيرة وقطعة دوناتس, وفنجاني قهوة. شكرته ريانون حين قدم لها كوب القهوة. جلست على الدرج وأسندت ظهرها إلى الحائط وراحت تتناول طعامها. نظر إليها نظرة مفكرة ثم سأل:" هل أنت راضية عن مجريات الأمور؟". قررت عدم تفسير كلماته بطريقة مبطنة, فنظرت إلى اللوحة. -العمل يسير بشكل أسرع مما توقعت بفضل مساعدتك. -تسرني مساعدتك. أنت تعلمين أن بوسعك طلب مساعدتي في أي وقت, ولأي غرض. نظرت إليه وقد اكتسحها شعور بالضعف إلا أنها قاومت هذا الشعور. قالت:" -أظن أن لوحة الموزاييك ستعني لك الكثير الآن بعد أن شاركت في صنعها. نظر إلى العمل الذي أنجزاه ثم استدار ناحيتها:" هذا عمل سأذكره ما حييت". عند الخامسة, نزلت ريانون لتتأمل عملها من الأسفل وتريح يديها وظهرها, لحق بها غابرييل ووقف وراءها واقترح: -هذا يكفي لليوم, هل نضع الطلاء والفراشي في مكانها؟. -نعم, أظن ذلك. -سأهتم بهذا بعد أن أوصلك إلى سيارتك, فأنت بحاجة إلى الراحة. اعتادت ريانون وجود غابرييل وتقديمه المساعدة من وقت إلى آخر. وفي غياب غابرييل, يحضر لها ميك القهوة, ويوصلها إلى سيارتها بعد أن يحرص على ألا تطيل السهر. بعد أن انتهى الرسم, وضعت نوعا من الغراء على البلاط, فيما تعاون غابرييل و ميك على حمل صندوق مليء بالبلاط ووضعاه بحذر على السقالة. وقف غابرييل تحتها واضعا يديه على خصره, ورأسه مرفوع. بعد أن وضعت بعض قطع البلاط على الحائط نظرت إلى الأسفل, إلى الأغراض التي تركتها على الشرشف. -ماذا تريدين؟. أشارت:" نسيت إحضار أدوات تقطيع البلاط". ناولها الأدوات التي تحتاجها وراقبها وهي تقطع البلاط إلى الشكل المناسب, ثم تغمسها في الغراء وتلصقها على الحائط. قالت لغابرييل:" إن كنت مشغولا فيمكنك الانصراف. أنا لا أحتاج لأن تساعدني اليوم". استدار ونظر إلى وجهها:" كما تشائين. هل أزعجك؟". بعد المساعدة التي قدمها لها , بدا قولها هذا فظا. فتنهدت: - سيصبح العمل مضجرا, ليس إلا. عقد يديه على صدره, ووقف مبعدا رجليه الواحدة عن الأخرى: -أنا لم أضجر بعد. استدارت لتتناول قطعة أخرى. -افعل ما يحلو لك. -أنا أفعل هذا, في الواقع أنت تحلين لي. استدارت بسرعة تواجهه, إلا أنه كان يحدق إلى الحائط قال: -يبدو جيدا. رأى أن من المستحسن أن يجاريها في ما تقول. لكنه لا ينوي القيام بذلك إلى الأبد بل إلى أن تسامحه على انتهاكه خصوصياتها كما لا يريدها أن تشعر بالتهديد, إذ ستصده من جديد, قال:" سأكون في مكتبي و ميك في الجوار إن احتجت إلى أي مساعدة". جلس وراء الكومبيوتر يحدق إلى الأرقام وفكره مشغول بريانون راح يتذكر شكل جسمها, ونظرة التركيز في عينيها, والطريقة التي تزيح بها شعرها عن وجهها. تاق لأن يخرج من مكتبه, ويهرع للقياها, ويأخذها بين ذراعيه ويعانقها بحب وشغف وجنون كما لم يسبق له أن عانق امرأة من قبل. لكنها صدته, ولسوء الحظ, مرات عدة, ومن غير المجدي التفكير بعلاقة جدية مع امرأة ترفض كل فرصة للرومانسية والحب في حياتها. حسنا, لن يفكر في هذا الآن بل سيخطو خطوة تلو الأخرى. ومن يدري كم ستستغرق كل خطوة؟. لكن غابرييل هادسون ليس برجل يقبل الهزيمة بسهولة. أراد أن يضع خطته الأخيرة موضع التنفيذ, فتراجع قليلا إلى الوراء وقرر التصرف بتأن وبتمهل. وبالرغم من أن ريانون لا تحتاج لمساعدته, إلا أنه اعتاد أن يمر لرؤيتها لوقت قصير أولا. ثم لفترات أطول تدريجيا حين بدا أنها لا تنزعج منه. وبقي طيلة هذا الوقت محافظا على قراره بعد الضغط عليها. كان أحيانا يتعمد البقاء بعيدا علها تلاحظ غيابه وتشتاق إليه ولو قليلا. وحين يقف بجوارها, يصون لسانه ويتحكم بكلماته متجنبا توجيه أي ملاحظة لاذعة, ومحاولا إخفاء المشاعر الظاهرة في عينيه. ظل على خطته هذه, وقد سر لأنها بدأت تسترخي بوجوده قربها. لقد مرن نفسه و ابتعد عن كل نوع من العلاقات, كما أنه اكتسب خبرة جديدة إذ ازدادت علاقته بريانون عمقا, وهو أمر لم يختبره من قبل. كان الأمر أشبه بمراقبة نضوج فتاة يافعة. ففي كل مرة تبتسم, أو تنظر إليه من دون أن تستدير سريعا, يشعر بقلبه ينقبض وينتفض من مكانه. كانا يتحدثان أحيانا عن أمور عامة, لكنه تمكن في أحيان أخرى من معرفة بعض التفاصيل الشخصية عن طفولتها, وعلاقتها بذويها, وجدتها. واستنتج من حديثها, أنها كانت تعيش حياة سعيدة قبل الفاجعة التي حرمتها من والدتها وحولت والدها إلى ظل. وذات يوم, جعلها تضحك من كل قلبها على ملاحظة أدلى بها, فشعر ببهجة كبيرة. وذات مساء, حين جلست بقربه على الدرج لاحتساء التي أحضرها ميك شعر أنه حقق نصرا. تناولت ريانون قطعة البلاط الأخيرة, ووضعت عليها الغراء ثم علقتها على الحائط بحذر وضغطت قليلا. وضعت القطاعة جانبا وأرخت عضلاتها لتستريح قليلا, ثم نزلت وهي تتمطى. تناولت قنينة الماء البارد عن الأرض وشربت ورشت القليل من الماء على وجهها. نظرت إلى الأعلى, إلى العمل الذي أنجزته, وشعرت بالرضى. صحيح أن الكثير من العمل ينتظرها لكنها وضعت الخطوط العريضة للوحة وبدأت بملء الفراغات. كان الجزء العلوي هو الأصعب إذ عليها أن تبذل جهدا لتتمكن من وضع كل قطعة في مكانها. وضعت يدها على كتفها الأيمن تمسده, إلا أنها قفزت من مكانها حين لمستها يد أخرى. قال غابرييل:" عذرا, ألم تشعري بوجودي؟". -لم أسمع وقع خطواتك. كان ينتعل حذاء رياضيا كما كانت مستغرقة كثيرا في عملها إلى حد أنها لم تلحظ قدومه. بقيت يده في مكانها, وبدأ يمسد كتفها, فكتفيها. بدت أصابعه قوية ومألوفة. -هل يساعدك هذا التدليك؟ قولي إن كنت تريدينني أن أتوقف. شعرت ريانون بعضلاتها تسترخي. تسمرت وقد فاجأتها رغبتها في الاستسلام للمساته, فاعترفت:" نعم, أظنه يفيدني". ابتسم قليلا وتابع حركات التدليك. سألها بعد أن توقف عن التدليك واستراحت يداه على كتفيها: -أتشعرين بتحسن؟. -شكرا. -عملت بما يكفي اليوم. قالت وهي تشير إلى الأعلى:" أريد إنهاء الزاوية العليا. كنت على وشك مزج المزيد من الغراء". -المكان مرتفع. -لهذا السبب كتفي متصلب. هل أساعدك؟ قولي لي ما علي أن أفعله, فأنا أستطيع الوصول إلى تلك الزاوية بسهولة أكبر. هذا العمل متعب أكثر مما تخيلت وهي لا تريد أن تصاب بألم في كنفها جراء القيام بالعمل عينه مرارا وتكرارا. وقفا جنبا إلى جنب, فراحت ريانون تنتقي القطع التي تحتاجها وتسلمها لغابرييل الذي يضعها في المكان الذي تشير إليه. لقد فهم آلية العمل بسرعة وتمكنا في وقت قليل جدا من إنهاء الزاوية العليا. قالت ريانون بارتياح:" سيكون الباقي أسهل, فأنا لم أنجز شيئا كهذا من قبل". -ألم تندمي لأنك استلمت هذا العمل؟ -طبعا لا, فهذه فرصة لا تعوض؟ -فرصة لم تخشي استغلالها؟ -لا. رمته بنظره ثاقبة وابتعدت عنه, ثم نظرت إلى ساعتها و تفاجأت لأن الوقت تأخر. سألته وهي تشير إلى الأدوات الموزعة على الأرض: -هل لي بترك هذه المعدات هنا فغدا يوم أحد؟". -طبعا, اتركي كل شيء هنا إلى الغد... أو إلى أي يوم آخر. فاجأتها نبرة صوته فنظرت إليه مجددا, لترى نظره مسمرا عليها. ابتسم لها مجددا وقفز إلى الأرض ثم مد يديه إليها. قالت وهي تهز رأسها:" أفضل الطريق الآمن". وفضلت النزول على السلم. وبعد أن وصلت إلى الأرض, قال وقد ابتسمت عيناه:" كنت لأمسك بك لو وقعت". تراجعت إلى الوراء تتمطى:" أعرف". انتظر لحظة كما لو أنه يفكر بما سيقوله ثم سألها بهدوء:" لما أنت خائفة يا ريانون؟". عضت على شفتها السفلى, وراحت تفكر بأمور كثيرة, قبل أن تجيب:" ليس منك". ولمع بريق أمل في عينيه فأردفت:" أعلم أنك لن تلحق بي الأذى". الحقيقة معقدة حقا. ولكن.. -ولكن الأمر معقد. -أهو أكثر تعقيدا من أن تبوحي لي به؟. نظرت مجددا إلى عينيه, فرأته ينظر إليها كما لو أنه يشجعها على البوح بسرها, كما لو أن هذا الأمر غاية في الأهمية بالنسبة إليه. قالت هامسة:" حين كنت في السابعة عشرة من عمري, تعرضت لحادث". -أعلم. انتفض قلبها وتوترت, وأحست بانقباض في معدتها. أما هو فتابع:" أعني أنني تكهنت أنك عشت تجربة سيئة. لكنني لا أعرف ما هي ولا متى حصلت معك". وتوقف عن الكلام. وبما أنها لم تعطه أي معلومات إضافية, حاول استعادة رباطة جأشه وسألها:" هل اعتدى عليك رجل ما؟". ابتلعت ريانون ريقها:"ليس... تماما". -7 الفرصة الضائعة لم يفهم غابرييل ما عنته بقولها, أخرجت في موعد ثم تعرضت بعده لاغتصاب؟ أم قطعت شوطا كبيرا في علاقة فلامت نفسها؟ قال: -إذا تصرف ذلك الرجل تصرفا لا تريدينه, فالذنب ليس ذنبك". رفعت رأسها:" أعلم أن الذنب ليس ذنبي". فسأل بهدوء:" هل ستقولين لي ما حدث؟". ترددت وحدقت إليه كما لو أنها تخضع لتنويم مغناطيسي وتناهى إليهما وقع خطوات ثم ظهر ميك أمامهما, وقال:" أحان وقت الرحيل؟ مساء الخير سيد هادسون, لم أكن أعلم أنك هنا". شتم غابرييل بصمت, ونهره وهو يدرك أن الفرصة ضاعت من يد:" نحن نعمل". تفاجأ ميك من نبرة غابرييل, فيما رحبت ريانون بالمقاطعة, فقالت: -كنا نعمل ولكننا انتهينا لتونا, فما رأيك؟ ابتسمت واتجهت بسرعة نحو ميك لتنظر من أسفل الدرج إلى اللوحة متجنبة النظر إلى عيني غابرييل. نظر إليها غابرييل وقد شعر بألم في صدره. إنها تهرب منه وتسعى إلى رجل آخر بحثا عن الحماية. إنها تبتعد عنه. اعترف ميك:" أنا لا أفهم كثيرا في الفن التجريدي, ولكن الألوان جميلة جدا". تحولت نظرة ريانون إليه:" يسرني أن الألوان أعجبتك, لن ترى جمالها كاملا قبل أن تنتهي. أنوي إنهاء الجزء العلوي أولا". انزعج غابرييل لأنها تجاهلته, فقال:" سنترك الأغراض هنا إلى حين عودة ريانون في الصباح الباكر". علم غابرييل أنه لن يحصل الليلة على مزيد من المعلومات من ريانون, فسمح لميك بمرافقتها إلى السيارة, وقد شعر بالمرارة لأن التوتر غاب عن وجهها لحظتها. تلك الليلة, بالكاد عرفت ريانون طعم النوم. كان عقلها يعيد ويعيد ذكريات قديمة, تمكنت من تخطيها وها هي تعود الآن لتطاردها. كانت تعرف كافة النظريات القائلة بضرورة مواجهة الظلمة ومخاوفها, فقد عاشت هذه التجربة في السابق, ولا تنوي المرور بها مجددا. أما اليوم فها هي تحيا الكابوس عينه من جديد. شعرت بالبرد, وتعرقت خوفا, وراح رأسها يضج بالذكريات. في الصباح, توصلت إلى استنتاج وهو أن شعورها بالاستياء من غابرييل أمر ظالم بحقه. صممت على منع أشباح الماضي من أن تملي عليها تصرفاتها, فعادت إلى العمل على لوحة الموزاييك آملة أن يبقى غابرييل بعيدا عنها. لكنها وجدته ينتظرها عند أسفل السلالم. قال وهو يقترب منها تدريجيا:" ظننت أننا نستطيع أن نكمل من حيث توقفنا". لم تجب ريانون, فقد كانت منهمكة بالسيطرة على المشاعر المتناقضة التي اجتاحتها. فكرت والحقد يملؤها في أنها تكرهه لعدد من الأسباب أهمها أنها وقبل وصولها إلى المبنى بجسمها يخدر وبسائل دافئ يجري في عظامها. وبالرغم من أن نظرها كان مسمرا على العلب والأدوات الموضوعة أرضا, إلا أنها شعرت بأنه ينظر إليها وذاك البريق البارد في عينيه, بريق يشعرها بأنه يحاول اختراق ذاتها. كانت تعلم تماما أنه لم يعن بحديثه لوحة الموزاييك بل حمل كلامه معنى مبطنا آخر. وقالت في نفسها إن ماضيها لا يعنيه, وهي لن تسمح له بأن يعرفه. تنحنحت وحاولت أن تجعل صوتها ثابتا وقالت:" لا أحتاج إليك". -هل أنت متأكدة؟ عملنا بشكل جيد البارحة, وظننت أن ما من مانع في الاستمرار به. -كان عمل البارحة صعبا, لكنني قادرة الآن على العمل بمفردي. رفعت ذقنها وتقدمت, بعد أن ألقت نظرة سريعة على وجهه الذي بات جامدا, خاليا من أي تعابير واضحة. وحده بريق عينيه كشف عن انزعاجه. بدا صوته عميقا:" حسنا, كما تشائين". لم يبق قربها بل صعد السلالم وتوجه إلى مكتبه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم, أحضر لها كوبا من القهوة. جلست ريانون كعادتها على الدرج, وبعد أن حدق إليها طويلا, جلس ومد ساقيه ونظر إلى فنجان القهوة ثم قال:" مساء أمس, بدأت بإخباري شيئا". ارتشفت بسرعة القليل من القهوة. -ارتكبت غلطة بذلك. على أي حال لقد تخطيت هذا الأمر منذ سنوات. -هل أنت متأكدة؟. نعم. حدقت إليه, فرأت الشك واضحا في عينيه مما اضطرها إلى إخفاء وجهها بفنجان القهوة. -هل قابلت طبيبا نفسيا أو ما شابه؟ أخفضت ريانون كوب القهوة:" نعم, طيلة عام كامل". -ربما يفترض بالعلاج أن يدوم أكثر. -أتظن أنني مختلة؟ -طبعا لا. أظنك تكبحين مشاعرك وهذا ليس بالأمر الصحي. شربت ما بقي من قهوتها ثم وقفت. نظرت إليه من علو فشعرت بثقة أكبر في النفس, وظهر مجددا الأمتعاض الذي أحست به سابقا. -أشكر لك اهتمامك. أنت لست أول رجل يخضعني لهذا التحليل النفسي. حسنا, أنا أعاني من كبت جنسي وعجز عاطفي. في الواقع, أنا مرتاحة هكذا, شكرا لك. أو على الأقل كانت مرتاحة إلى أن تعرفت إليه, وهي تريد بشدة العودة إلى حالة الاستقرار النفسي والجسدي. تابعت كلامها:" إن كنت باردة, فلا بأس في ذلك". وضع غابرييل كوبه جانبا ووقف يعترض على كلامها:" باردة؟ لا أصدق هذا!". -صدق ما أقوله, فقد قال لي هذا الكلام خبراء أو خبير واحد. أرادت إغلاق فمها بيديها, فقد باحت بالكثير حتى الآن. نظر إليها غابرييل والحيرة تملأ عينيه:" من هو ذلك الخبير؟". -انس الموضوع. رمت كوب القهوة أرضا ثم توجهت إلى الفرشاة وعلبة الطلاء اللتين كانت تستعملهما. وبسرعة البرق, تقد غابرييل منها و أمسك بيدها, وأدارها لتواجهه.. -أهو الطبيب النفسي الذي كان يعالجك؟. أحس أنه يحكم قبضته عليها, فأفلت يدها لكنه وقف قريبا جدا منها إلى حد أنها رأت صورتها في عينيه, وأيقنت أنها لن تستطيع الهرب بسهولة. سأل والشك يسيطر عليه:" هل كان هذا الشخص جيدا؟". -إنه ذائع الصيت في مهنته. وهو أمر لم يتوانى عن تذكيرها به مرارا وتكرارا. قطب جبينه وسألها:" هل استشرت شخصا آخر في هذا الموضوع؟". ضحكت ضحكة خفيفة:" حصلت على الكثير من الآراء, وأنت لست سوى الأخير". -لم أقل هذا لأدفعك إلى إقامة علاقة معي, بل أردت المساعدة وحسب. كان قريبا جدا منها إلى حد أنه يسعها الاستناد إلى صدره إن شاءت... وهي تريد هذا بكل جوارحها. وعوضا عن الارتماء في حضنه, تقوقعت على نفسها: -لا أحتاج إلى مساعدة. لا أريد مساعدتك ولا مساعدة أي شخص آخر. قال بعد لحظة:" حسنا, كما تشائين". ابتعدت عنه غاضبة واتجهت إلى الحائط. -لم ترتاحي إلا خمس دقائق!. -أريد المضي قدما في هذا. ارتشف ما تبقى من قهوته وقال:" وأنا أيضا". بقي بجوارها يراقبها بكآبة, ما جعلها تشعر بأنه يريد أن تخرق جدار الصمت. عملت ببطء, إذ خشيت أن تخطئ فتكشف له أن وجوده قربها يوترها ويجعلها عاجزة عن العمل كالعادة. وبعد فترة بدت لها كدهر, غادر المكان ولم تره مجددا ذلك اليوم. في المرة التالية مر بها للتأكد من تقدم العمل بدا هادئا, ولم يقل أي شيء أو يقدم على أي عمل ما كان ميك ليقوله أو يقوم به. لم يذكر موضوع ماضيها مجددا, وقالت ريانون في نفسها إنه نسي الأمر حتما. حاولت نسيان ما جرى, و بدأت ترتاح تدريجيا, أما غابرييل فراح يعرج عليها من وقت إلى آخر ويعاملها بطريقة مهنية صرف. أنهت الجزء الأعلى من اللوحة فيما كان غابرييل يراقبها. ثبتت قطعة البلاط الأخيرة ووقفت:" لا أستطيع الأستمرار بالعمل إلى أن يجف الطلاء". مد غابرييل يده ليساعدها على النزول, ومن دون تفكير, سمحت له بمساعدتها. وضعت يدها الأخرى وراء ظهرها وقالت مبتسمة: -أحتاج إلى بعض التمارين الرياضية". اقترح غابرييل:" ما رأيك بنزهة إلى رصيف الميناء, حيث يمكننا أن نتناول شيئا احتفالا بإنهاء الجزء الأعلى من اللوحة؟". -وأنا أرتدي هذه الثياب؟. لاحظت أنه ما زال يمسك بيدها, فسحبتها و أشارت إلى قميصها الملطخ. -لا بأس, يسعني أن أقرضك قميصا إن شئت. تذكرت ما جرى في المرة الفائتة حين بقيا وحدهما في مكتبه, وأحست بانقباض في معدتها, لكن غابرييل لم يشاطرها هذا الشعور بالانزعاج. بدا مؤخرا أنه يسعى جاهدا لعدم مضايقتها أو انتهاك خصوصياتها. وهي واثقة من أنه لن يقدم على أي تصرف يجعلها تشعر بالانزعاج أو الخوف. هزت رأسها وسألته:" أتبقي ملابس إضافية في مكتبك؟". -نعم, فأحيانا لا يكون لدي الوقت للذهاب إلى المنزل وتغيير ملابسي. هي أيضا تغير ملابسها في العمل أحيانا, إذ تبقي سروال جينز وبعض القمصان في صالة العرض. حدقت إليه لبضع لحظات ثم قالت:" حسنا, لم لا!". جاهد غابرييل ليمنع نفسه من ضمها بين ذراعيه معانقتها. فتصرف بهدوء وقادها إلى مكتبه, ثم ناولها قميصا أبيض نظيفا وقال وهو يشير إلى باب:" الحمام من هنا". حين خرجت من الحمام, كانت قد طوت أكمام القميص وربطته من الأمام, فسمح لنفسه بالنظر إليها للحظة, ولم يستطع إلا أن يعلق: -يليق بك القميص أكثر مما يليق بي". وبغية منع يديه من لمسها, استدار بسرعة نحو الباب وقال:" هلا ذهبنا؟". ستكون بأمان في الشارع, حيث الناس. لقد جاهد لنيل ثقتها, وهو لا ينوي إفساد هذا الآن. مرا بالمبنى القديم الذي هدم, والذي ظهرت مكانه أساسات بناء جديد. ومن بين المقاهي والمطاعم العديدة, انتقى غابرييل مطعما يطل على المياه والمرفأ. طلب غابرييل كوبين من عصير الليمون الطازج, وسأل ريانون:" أتودين تناول شيء ما؟". -بعض البطاطا المقرمشة والفستق. اكتفيا بما فضلته وجلسا يتحدثان ويضحكان إلى أن قالت ريانون وهي تتثاءب:" اعذرني!". -هل أنا مضجر إلى هذا الحد؟ ضحكت وهي تهز رأسها:" أنت تعلم أن ما تقوله غير صحيح, فأنت مسل أكثر من أي رجل عرفته في حياتي". شعر بأن قلبه توقف عن الخفقان للحظة, وسأل بخفة:" و كم رجل عرفت في حياتك؟". قالت وهي تتناول حبة بطاطا وتغمسها في الصلصة:" القليل". تساءل إلى أي حد عرفتهم, وتكهن بأن معرفتها بهم كانت معرفة سطحية, باستثناء بيري. تناولت حبة بطاطا أخرى واستدارت تراقب المارة, وقالت: -حين كنت طفلة, كان والداي يأخذانني لقضاء عطلة الأسبوع على الشاطئ الشمالي. -يمكننا القيام بهذا إن شئت. نظرت إليه والدهشة تعلو وجهها, ثم ابتسمت:" أحقا؟". وظهرت في عينيها نظرة شكر وامتنان, فتنهد غابرييل:"ولم لا؟". استقلا المركب الذي شق طريقه عبر عباب البحر. راح النسيم يداعب شعر ريانون ويلون وجنتيها, وراحت المدينة تصغر تدريجيا فيما المركب يشق الأمواج ويترك رغوة بيضاء وراءه. سألها غابرييل:" هل تودين الجلوس؟". هزت رأسها ودخلت خصلة من شعرها في عينيها فأبعدتها. وتساءل إن كانت تدرك كيف يبدو قميصه عليها, وكيف يبرز جمال قدها, أشاح بوجهه بعيدا, فرأى شيئا لفت نظره. طوق ريانون بيديه وأشار:" أنظري إلى هناك". ظهر في البعيد دلفين يقفز ثم ظهر دلفين آخر. ابتهجت ريانون والتفت إليها ليرى نظرة التعجب على وجهها. وأعلن قبطان المركب على المذياع أن على الركاب النظر يمينا لرؤية الدلافين. لعبت الدلافين لبضع دقائق ثم اختفت, وغابت الحماسة معها. ارتجفت ريانون ولفت ذراعيها حول نفسها. سألها غابرييل:" هل تشعرين بالبرد؟ يمكننا التوجه إلى الداخل!". -لا, البقاء هنا مسل أكثر. لكنها عادت وارتجفت ثانية. ومن دون تفكير وقف وراءها ولفها بذراعيه. ارتجفت بين يديه, فأشك أن يفلتها, لكنها عادت واسترخت على صدره. أغمض عينيه, إلا أن الصور التي تبادرت إلى ذهنه لم تساعده في السيطرة على نفسه. فتح عينيه مجددا وأمل أن تشغله الريح بفكرة مختلفة عن تلك التي تراوده حاليا. وتساقط الرذاذ على وجهه بسبب سرعة المركب, فضحكت ريانون و أحنت رأسها. إنه يحتاج إلى أكثر من بضع قطرات من الماء ليطفئ النار التي تستعر في داخله. لكنه استغل الفرصة ليخفف من قبضته عليها. حين وصل المركب أخيرا إلى الشاطئ, انتابه شعور من الارتياح والأسى إذ ابتعدت عنه واتجهت إلى السلم لتنزل. لا تذكر ريانون متى تصرفت بهذه العفوية. لعل شعورها بالتعب هو الذي دفعها للاسترخاء, أو لعله هذا الرجل الذي يشاركها هذه المغامرة الصغيرة. فلم تكن تخشى معه ألا يعيرها اهتمامه, ولم تكن مضطرة إلى صد نظرة الاعجاب التي يرمقها بها, كما لا تشعر بعدم الارتياح إذا لمسها. مشى غابرييل بقربها واضعا يديه في جيبيه, ثم قفز عن حافة صغيرة باتجاه الشاطئ الرملي واستدار ليساعدها على القفز. خلعت حذاءها وسمحت للأمواج بغسل رجليها كما اعتادت أن تفعل عندما كانت طفلة. وقف غابرييل بعيدا عنها, وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة رضى. انحنت لتلتقط صدفة صغيرة زهرية اللون و متناسقة الشكل, واتجهت نحوه لتريه ما وجدت, قبل أن تسير إلى جواره. شعرت أنها خفيفة, غير مقيدة, لا بل سعيدة. كان اكتشافها أنها سعيدة بمثابة رؤيا فاجأتها, و أفقدتها توازنها. فإذا بذراع غابرييل تمسكها. ولم تعد ريانون تلاحظ ما حولها, بل تاهت في سحر ابتسامة غابرييل. سألها:" هل أنت بخير؟". قالت في سرها: أنا مغرمة, هذا هو الحب. قالت وهي عاجزة عن إبعاد نظرها عنه:" نعم, أنا بخير". تذكرت بغموض أنها أحست بمشاعر مشابهه عندما كانت مراهقة, ولكن ما تعيشه اليوم مختلف. فذاك الشعور لم يكن يوما واثقا وعميقا ومرهقا للأعصاب. رفع يده ولمس خدها بأصابعه:" ريانون, قولي لي ما الخطب؟". ابتلعت ريقها وابتسمت:" لقد لويت كاحلي قليلا". قطب جبينه, وركع على رجل واحدة:" أريني. أي رجل؟". التفت أصابع قوية على كاحلها وتملكها شعور عجزت عن تحديده. ضحكت: -غابرييل, أنا بخير الآن. -هل أنت واثقة؟ عندما أومأت برأسها, وقف وأمسك بيدها مجددا, وسألها: -ستخبرينني إن كنت تتألمين, أليس كذلك؟". -أنا بخير حقا. -عديني ألا تكذبي علي. -لن أفعل. لقد تغير كل ما في عالمها في لحظة, وكانت تجهل تماما ما عليها فعله, قالت وقد نكثت بوعدها:" أنا بخير". ماذا سيقول إن أفصحت له عن حبها؟ بدأت بالسير مجددا وأجبرته على اللحاق بها. وصلا إلى العشب الأخضر المقابل لمركز التسوق, وابتسم غابرييل عندما رآها تحاول إزالة الرمل عن قدميها وهي تجلس على درجات تؤدي من الشاطئ إلى مركز التسوق. قال وهو يقدم وهو يقدم لها محرمة حريرية:" استخدمي هذه". -أنها نظيفة جدا. -يمكن أن تغسل, تفضلي. -حسنا. . . شكرا لك. تناولت المحرمة ونظفت رجليها قدر الإمكان ثم أخذت فردة حذاء وانتعلتها كان غابرييل يمسك فردة الحذاء الأخرى في يده, فانحنى أمامها وأمسك بكاحلها ثم ألبسها الحذاء. حين استقام ومد يده ليساعدها على الوقوف شعرت بشيء من الدوار. تفرجا على بعض واجهات المحلات, ثم غرقا في مكتبة للكتب المستعملة, بعدها سألها: -ما رأيك لو نتناول الطعام هنا قبل أن نعود إلى المدينة؟. كانت الشمس تشارف على الغروب عندما طلبا طعام العشاء, وفتحا حزمة الكتب التي اشتراها كل واحد منهما وراحا يتفرجان على ما انتقاه الآخر, بعد أن أنهيا عشاءهما وصعدا إلى المركب, كان الليل قد حل. تعثرت فتاة تنتعل حذاء عالي الكعبين, كذاك الذي أقنع بيري ريانون بشرائه, ووقعت على ركبتيها. ساعدها غابرييل على الوقوف ثم أفلتها وعاد إلى جوار ريانون, فظهرت على وجه الفتاة علامات الخيبة. ولم تستطع ريانون منع نفسها من الابتسام. سألها غابرييل وهو يقودها إلى مقعدها:" هل ما جرى مضحك؟". -طبعا لا, هل آذت نفسها؟. -لا, هذا الحذاء قاتل. كيف حال حذائك؟. -لم أنتعله مجددا, شجعني بيري على شرائه. -بيري, إذا؟. -قال إنه لا يسعني الخروج مع... إلى حفلة كهذه وأنا أرتدي ملابس العمل, لذا اصطحبني للتسوق. -اصطحبك؟. -لقد اختار كل شيء ارتديته تلك الليلة. حدق غابرييل إليها:" هل بيري.. شاذ؟". -يمكن للرجل أن يهتم بالملابس النسائية من دون أن يكون شاذا لكن في الواقع نعم, إنه شاذ, فهل صدمك الخبر؟. -لا. . لا. . كان علي أن أخمن. في البعيد, تلألأت أضواء المدينة والمباني المحيطة بالمرفأ. تثاءبت ريانون, فقربها منه وسر عندما وضعت رأسها على صدره وأغمضت عينيها. باتت تثق به كفاية إلى حد أنها غفت بين ذراعيه. لقد قطع شوطا كبيرا ومهما, إنما عليه التنبه لئلا يفسد كل شيء. حين توقف المركب, استيقظت. لكنها بدت وكأنها في حلم لم تستيقظ من إلا بعد أن وصلا إلى الشارع ونادى غابرييل سيارة أجرة. استدارت نحوه وقد بدأ النعاس يتلاشى من عينيها. -ألن نسير؟ -سأقلك إلى المنزل, فأنت لست بحالة تسمح لك بالقيادة. اعترضت وهو يدخلها إلى المقعد الخلفي لسيارة الأجرة, ويعطي العنوان للسائق:" سأطلب من ميك الاهتمام بها". تناول الهاتف الخلوي من جيبه, وطلب الرقم ثم ترك رسالة على المجيب الآلي. -لقد قمت بنشاطات عدة في يوم واحد, وأنا لست معتادة على ذلك. -نعم, فأنت تعملين طيلة الوقت على لوحة الموزاييك اللعينة. ضحكت:" إنها لوحتك, ظننتك تحبها". -أنت مرهقة. -أنا متعبة فحسب والذنب ليس ذنبك. تمتم:" كان علي أن أرسلك إلى المنزل لترتاحي عوضا عن أخذك في هذه المغامرة". -لم أكن أحتاج إلى الراحة, كما أنني قضيت يوما ممتعا. مدت يدها وأمسكت بيده, فجاء تأثير لمستها كصدمة كهربائية. لم تكن ريانون معتادة على التصرف بشكل عفوي, وبدا أنها لا تعي ما فعلته, فاضر لأن يأخذ نفسا عميقا قبل أن يقول:" يسرني هذا". لحسن الحظ أنها لم تتوقع أن يبادلها كلامها بحديث لبق, بل اكتفت بأن تبتسم وتنظر من نافذة سيارة الأجرة إلى الأنوار التي تضيء الشوارع. عندما وصلا إلى منزلها, طلب من السائق الانتظار ورافقها إلى الباب. قال: -إن أعطيتني مفاتيح سيارتك, فسأحرص على ركنها في المرآب. أعطته المفتاح ثم نظرت إلى سيارة الأجرة, وقالت بتردد:" إن كنت تود الدخول. . . ". توقف غابرييل عن التنفس. ترى ما الذي يجول في خلدها؟ مهما كان ما تفكر فيه, فهو لا يثق في نفسه, ويخشى أن ينجرف وراء عواطفه عندما يصبحان في الداخل بمفردهما, فهي منهكة ومتعبة, لذا يستحسن أن يرفض دعوتها, وقال:" سأقبل دعوتك في مرة أخرى". وتساءل عما إذا كان يتصرف بغباء, لكنه غادر قبل أن يغير رأيه. ******* قال بيري:" لا بد أنك مغرمة!". -ماذا؟. نظرت إليه ريانون بذهول وقد نسيت الكتاب الذي تحمله بين يديها. -أنت تقفين هنا من دون حراك منذ نحو خمس دقائق كما لم تسمعي كلمة واحدة مما قلته. قال بيري:" لا بد أنك مغرمة!". -ماذا؟. نظرت إليه ريانون بذهول وقد نسيت الكتاب الذي تحمله بين يديها. -أنت تقفين هنا من دون حراك منذ نحو خمس دقائق كما لم تسمعي كلمة واحدة مما قلته. احمرت وجنتاها:" عذرا بيري, كنت أفكر". -إنه ملاكك غابرييل, وأنا لا أعني لوحة الموزاييك. كيف تجري الأمور؟. -سأعمل على الجهة العليا من اللوحة في الأسبوع المقبل. لقد أنهت نصف اللوحة, والعمل على الجزء السفلي أسهل. يثير فيها إنهاء المشروع مشاعر متناقضة, فهي تتوق إلى الانتهاء منه ورؤية ثمرة عملها, لكنها تخشى في الوقت عينه أن يطرأ تغيير على علاقتها بغابرييل جراء ذلك. كانت ريانون تشعر بالضياع والإثارة كلما فكرت بغابرييل. وقد تساءلت في بعض الأحيان عما إذا قرر عدم إضاعة وقته معها نظرا لأنها عاجزة عن منحه ما يريد. يفترض بها أن ترتاح لأنه لم يعد يريدها, إلا أنها شعرت بألم يعتصر فؤادها ويمزقه. اكتشافها أنها مغرمة به أثار الكثير من المسائل والتعقيدات, وباتت تشعر بالسعادة والخوف في الوقت عينه. عندما بدأت ريانون بملء الفراغات بين قطع البلاط, عرض غابرييل عليها مساعدته لإنهاء الزاوية العليا, فراحت تراقبه عن كثب. بعد أن عملت لبعض الوقت, خلعت قفازيها ومسحت جبينها, ثم حركت يدها اليمنى المتصلبة. قال لها غابرييل:" هذا يكفي. أنت أقوى مما تبدين عليه, لكن هذا العمل مرهق, وأنا جائع, هل تناولت الطعام قبل أن تحضري إلى هنا؟". -تناولت صحن سلطة. بدا مشمئزا:" سلطة! أنت تحتاجين إلى شيء مفيد أكثر من السلطة. لما لا نخرج لتناول وجبة طعام حقيقية؟". أشارت ريانون إلى قميصها وسروالها الملطخين, ونظرت إلى حذائها, فإذا به ملطخ أيضا. -هل تمزح معي؟ -سأطلب طعاما جاهزا. ماذا تفضلين؟ طعاما هنديا؟ صينيا؟ سمكا؟ نقانق؟ كانت أفكاره ممتازة, جعلتها تشعر بالجوع, وقالت:" طعاما صينيا!". وفيما راحت ترتب معداتها خرج لإحضار الطعام, ثم عاد وهو يحمل في يده كيسا كبيرا تفوح منها رائحة زكية, كما حمل تحت إبطه جريدة. مد الجريدة على طاولة القهوة ثم وضع الكيس الورقي عليها. وعندما خرجت من الحمام بعد أن غسلت يديها, كان قد أعد المائدة, وأخرج قنينة مرطبات من الكيس, فشعرت أنها مدعوة إلى وليمة. بعد أن انتهيا من تناول الطعام, جلست ريانون على الأريكة, وفي يدها كوب مليء. أراد أن يضيف إلى كوبها المزيد, فرفضت: -إن أردت أن تنتهي لوحتك, فكف عن إطعامي لأتمكن من الوقوف والعمل. -لن تعملي الليلة! -أريد إنهاء النصف العلوي. ونظرت إلى ساعتها.. -حسنا, ما رأيك ببعض التفاح؟ رددت ريانون, من دون أن تفهم:" تفاح؟". -أنا أمزح. لا تقلقي! أنهت ريانون العصير فانحنت لتضع الكوب على الطاولة. لفتت الجريدة المطوية نظرها إذ أظهرت جزءا من صورة. إنها صورة رجل وسيم في منتصف العمر يدير ظهره للكاميرا, وقد امتدت يد لتمنع المصور من التقاط الصورة. اقتربت ريانون أكثر, فيما راح قلبها يخفق بقوة. لا يعقل, هذا مستحيل! بلى, لقد تعرفت إلى وجهه, بالرغم من مرور أعوام على المرة الأخيرة التي رأته فيها. مدت يدها بسرعة وسوت الجريدة فرأت الصورة كاملة وقرأت العنوان:" طبيب نفسي متهم". وانتقل نظرها إلى المقالة:" الطبيب النفسي جيرالد دود متهم من قبل مريضتين سابقتين لديه بالتحرش الجنسي. وقد رفض التحدث إلى مراسلنا بعد أن استدعي إلى المحكمة نهار الجمعة. . . ". و غامت الكلمات أمام ناظريها. أخذت يدها ترتجف, فأمسكت الجريدة بسرعة, ووضعتها في حضنها. جيرالد دود. وراح الاسم يتردد في رأسها. نظرت مجددا إلى الصورة, وهي تتمنى لو تستطيع الانقضاض عليه. بدا صوت غابرييل ملحا:" ريانون؟ ما الخطب؟". حدقت إليه من دون أن تراه جيدا. تذكرت تلك الغرفة بأنوارها الخافتة, و جيرالد دود الذي جلس وهو يضع يده على ركبتها ويحدق إليها بنظرة غامضة وحادة. ((يمكن شفاء البرودة الجنسية, يمكنني أن أساعدك)). -ريانون؟ هل أنت مريضة؟. لا بد أنها بدت مريضة. كان رأسها يدور وشعرت بالبرد في جسمها كله, كما ظهر العرق على جبينها. همست:" أنا أعرفه!". نظر غابرييل إلى الجريدة ثم حملها بين يديه, وقد اسودت عيناه: -هل مات أحدهم؟ نظر إلى العناوين ثم استدار ناحيتها:" أتعرفين هذا الرجل؟". عجزت عن الكلام من تأثير الصدمة, لذا اكتفت بأن تهز رأسها إيجابا. أخفض غابرييل نظره وراح يقرأ المقالة بسرعة, ثم فتح على الملحق ليرى نهاية المقال. نظر إلى الأعلى, وقد ظهرت علامات الحزن على وجهه, ثم سألها: -إنه الطبيب النفسي الذي كان يعالجك؟ هو من قال لك إنك باردة؟ ومجددا, أومأت برأسها إيجابا. شتم بصمت, وسألها بسرعة:" هل فعل بك هذا أيضا؟". بدت الأوراق التي يحملها بين يديه ضبابية, وقالت:" لم أقرأ المقال كله". قال بقوة والقرف باد في صوته:" تحرش جنسي!". وضع الجريدة جانبا وأردف:" السافل استغل مرضاه, لكنه يقول إنهن وافقن على أساليبه في العلاج". ردت:" نعم, سيقول هذا. فقد استمع إلى أسرارهن الحميمة. وعرض عليهن المساعدة والدعم, واقترب منهن أكثر من والدتهن حتى. لقد جعلهن يعتمدن عليه, ووعد بمساعدتهن على الشفاء, وبالوصول إلى حالة جسدية ونفسية طبيعية إن وثقن به. فهذه هي الطريقة التي. . . يعمل بها". لكنها أدركت أن ما يقوله خاطئ. صحيح أنها كانت ضعيفة ومشوشة, لكنها حافظت على بعض المنطق فرفضت ادعاءات جيرالد دود, وعرفت ما يحاول فعله. اسودت عينا غابرييل, وتصلب وجهه فبدا وكأنه منحوت من الصخر. -هل بلغت الشرطة عنه؟ هزت ريانون رأسها نفيا:" ما كان أحد ليصدقني, هذا ما قاله لي. فهو طبيب مشهور. . . وأنا مجرد شابة مضطربة نفسيا". للحظة, فقد غابرييل رباطة جأشه المعهودة, وبدا غاضبا جدا. أخذت نفسا عميقا ووضعت يديها في حضنها. ومن دون تفكير, اقتربت منه وانساب دفء أصابعه إلى أصابعها صعودا إلى يديها,إلى أن عانقها فغمرها بالدفء مجددا. -قال. . . إن النساء المرضى يتوهمن ويتخيلن أمورا لم تحصل. كنت أعلم أنني لا أتخيل, لكنه كاد يقنعني. وقد أيقنت أنه لن يواجه صعوبة في إقناع أي لجنة تحقيق. تمتم غابرييل:" السافل!". كانت ترتجف, وشعرت كأنها غزال يركض في الغابات هربا من شيء ما, وقد وجد ملاذا آمنا. لم تستطع رفع نظرها إلى الأعلى. حدقت إلى ذقن غابرييل وأدركت أن عضلاته مشدودة جدا. قربها منه إلى أن استندت إلى صدره. كان يضمها بحنان, وقال: "هذا الرجل مجرم. إنه حيوان ينقض على فريسته. يا له من حيوان, يختار أضعف النساء ضحايا له. آمل أن يتعفن في السجن لبقية أيام حياته". همست ريانون:" شكرا لك". ابتعد عنها قليلا ونظر إليها:" علام تشكرينني؟". -لأنك صدقتني... لأنك غضبت مما حدث معي... لأنك واسيتني, بالرغم من أنك لم تحضر لي التفاح. حاولت أن تبتسم ورفعت رأسها لتنظر إليه. لم يبتسم غابرييل لكن الغضب تلاشى من عينيه:" إذا, أنت تعرفين ما يقال عن التفاح". تردد صدى هذه الجملة في رأسها. لعلها سمعتها في زفاف صديق! فرددت:" ناولني إبريقا و أغرني بالتفاح . . .". قال غابرييل بصوت عميق ودافئ:" إنه قول مأخوذ من نشيد الأناشيد". وبالرغم من أنها تعرف تتمة الأبيات إلا أنه أضاف:". . . فأنا سقيم من الحب". نظر إلى عينيها المنخفضتين ووجنتيها المحمرتين. سألها: " ريانون؟". أدرك الجهد الذي بذلته لترفع نظرها وتحدق إلى عينيه, وقالت متنهدة:" نعم؟". ولم تبتعد بالرغم من نظرة القلق البادية في عينيها. قال مجددا بصوت أشبه بالهمس:" ريانون؟". كان يشعر بقلبها ينبض قرب صدره. قالت مجددا وهي تجيب عن السؤال الذي ارتسم في عينيه:" نعم". أغمض عينيه للحظات. ثم قلص المسافة التي تفصل بينهما وعانقها عناقا طويلا, حارا ملؤه المشاعر و الأحاسيس العذبة. عانقها لوقت طويل, فضاع كل معنى للوقت والمكان, وشعر بسعادة لم يعرف لها مثيلا يوما. 8-لا يستحق غابرييل قادر على إفقادها سيطرتها على نفسها, وعلى مشاعرها. هذا ما اكتشفته, وقد صعقها الأمر. لاحظ غابرييل تبدل المشاعر على وجهها, فهي لم تستعد بعد رباطة جأشها؛ لذا ظهرت مشاعرها جلية على وجهها. حاول تفسير ما بدا على وجهها, ولا حظ بأنها تتقوقع تدريجيا على نفسها وتبعده عنها, فشتم في سره. ابتعدت ريانون عنه تسوي شعرها. قال وهو يحاول منع نفسه من ضمها مجددا بين ذراعيه:" لا, لا تهربي مني مجددا. لا تحلي هذه المسألة كما حللت مشاكلك السابقة. . . بالهرب!". رفعت ريانون ذقنها إلى الأعلى:" أنا لا أهرب". لم تكن تهرب جسديا بل فكريا. كاد يرى الأبواب تقفل في وجهه, الواحد تلو الآخر, ما يمنعه من الدخول. لن يسمح بهذا, لا يستطيع السماح بهذا, فقال:" لا يمكننا الادعاء أن شيئا لم يحصل بيننا". شعر باضطرابها حين وضع يده على وجهها الناعم وضغط عليه. أدرك ما كان يفعله فأبعد يده. -تحدثي إلي!!. لكنها ابتعدت عنه بعناد وراحت تحدق إلى اللوحة المعلقة على الحائط. توجهت إلى الباب لتخرج, فاعترض طريقها بسرعة. كانت عيناها تبرقان كجوهرة ثمينة. لقد ابتعدت عنه ما فطر قلبه كالعادة. قالت:" ما جرى غلطة فادحة. أنت لا تملك أدنى فكرة عن الطريقة التي عالجت فيها مشاكلي! وكم عانيت لأتمكن من صنع كيان طبيعي لنفسي". وفي أقل من ثانية, اتخذ غابرييل قراره. فأمامه خياران, إما أن يعتذر منها ويجعله تعود مجددا إلى قوقعتها, وإما يستفيد من فقدانها لرباطة جأشها ويجرها للكشف عن المزيد من أسرارها, أسرار تجيد حراستها. قرر سلوك الطريق الخطر. فكرر بازدراء:" كيان؟ الحياة التي تحيينها ليست حياة". -إنها حياتي! وهكذا أريدها أن تكون!. -كنت تريدينني, ومازلت! منذ لحظات كنت تردينني!. لم يمنع نبرة الانتصار من الظهور في صوته, فاصفر وجهها وشعر بالقلق الكبير. سأل بنبرة ملؤها القلق:" لم تنكرين؟ لما تسمحين لما حدث في الماضي بأن يمنعك من تأسيس مستقبل؟". -أنالا أفعل, ولم أفعل يوما. -هذا ما يبدو لي. -وما أدراك؟. -تبا, أنا لا أدري شيئا لأنك لا تخبرينني شيئا. فاجأه ارتفاع صوته. لم يكن يعي أنه غاضب إلى هذا الحد. إنه غاضب وحانق أيضا. رفت عيناها وشحب وجهها لكنها لم تتراجع, فأعجبه أنها لا تخاف منه. لعلها مشغولة بغضبها, وقالت:" أخبرتك ما جرة مع الدكتور دود". -كنت مصدومة, ولم تستطيعي إخفاء صدمتك. لما كنت تستشيرينه أصلا؟. لاحظ أنه أثار نقطة حساسة, إذ اتسعت عيناها وجمدت ملامح وجهها. أما هو فاسودت ملامحه, وعجز عن التنفس بشكل طبيعي. إلى أي حد أثر فيها ما حدث إذ لاحظ أن وجهها استحال أبيض. بدت خدرة وعاجزة عن التفوه بأي كلمة. أيقن أنه لن يستطيع الضغط عليها أكثر, فعاد إلى الموضوع السابق, وقال:" ماذا تنوين أن تفعلي الآن؟". -أفعل؟. رفت عيناها مجددا. كان صوتها خافتا لكنها تكلمت على الأقل, وقد عاد اللون إلى وجنتيها وشفتيها. -ماذا تعني؟. -لم تفعلي شيئا في السابق, لكنه هاجم الآن فتيات أخريات. اتسعت عيناها. -الذنب ليس ذنبي!. -لم أقل هذا. ولكن غيرك من النساء تقدمن بشكوى, وسيتحمل مسؤولية أعماله الآن. باتت الفرصة متاحة لك للتقدم بشكوى وإسماع صوتك. تقوقعت على نفسها. -أتقدم بشكوى إلى القضاء؟ لا, ثمة شاهدتان فما من داع لذلك. -هذا لمصلحتك. -لا أحتاج إلى الانتقام منه. بدت واثقة من نفسها, لكنه لا يزال يشكك في كلامها. لعله رأى علامات الشك في وجهها. قالت وقد عادت ملامح وجهها إلى طبيعتها:" كما أنني لا أحتاج إلى نصيحتك". وفجأة, اتجهت إلى الطاولة وبدأت تضع الصحون الفارغة في الكيس ويداها ترتجفان. أراد أن يصرخ في وجهها ويدفعها إلى الإفصاح عن مشاعرها, والبوح بأشباح ماضيها كي يساعدها. لكن إن تصرف بهذا الشكل, فستعود حتما إلى قوقعتها التي تدعي أنها خرجت منها. وضع غابرييل يده على جبينه, واتجه إلى الطاولة وسكب لنفسه كوب ماء شربه دفعة واحدة. -دعي هذا, ستتكفل سكرتيرتي به. استقامت. -شكرا لك. -أنت على الرحب والسعة في أي وقت. -سأعود إلى العمل, أستطيع إنهاء الجزء الأخير بنفسي. تعود إلى العمل؟ رفت عيناه, ثم ضحك ضحكة مرة. هذه طريقتها في محو ما جرى بينهما, إنها تحاول نسيان ما جرى عبر إغراق نفسها في العمل. بدا جليا أنها تهرب منه, فجاراها في لعبتها. -أعلميني إن احتجت إلى مساعدة, فسأبقى في المكتب لأنجز بعض الأعمال العالقة. ولإثبات القول بالفعل, اتجه إلى مكتبه, وبعثر بعض الأوراق. استدارت نحوه: -شكرا، أنا ممتنة جدا. حدق غابرييل بمرارة إلى الباب الذي أغلقته خلفها. إنها ممتنة لأنه لن يبقى بجوارها يلهيها ويشتت تركيزها عن قطع البلاط القاسية الباردة, لا بل المكسورة. أبعد الأوراق عن مكتبه, وجلس على الكرسي وهو يمرر يده في شعره تماما كما فعلت ريانون منذ قليل. وأحس من جديد بدفء عناقها فارتعش جسمه. استقام بسرعة وضغط على زر التشغيل في الكومبيوتر. قرر أن يعمل إن كانت ريانون قادرة على العمل, فهو أيضا قادر على ذلك. لطالما تمكن من تركيز تفكيره على العمل مهما كان ما يشغل باله, ولم تمنعه امرأة قط من التركيز على عمله. راح يتذكر عناقها وعادت كلماتها إلى ذهنه. صحيح أن الطبيب آذاها لكنه لم يعتد عليها, وهي تقول إنها ليست خبيرة في العلاقات الحميمة. إنها بريئة! لم يكن يجدر به أن يعانقها. صحيح أنه لم يلحق بها الأذى, لكنه حاول التقرب منها كما فعل الدكتور دود. امتعض لمجرد التفكير بأنه تصرف كذاك الطبيب السافل. قال في سره: الأمر مختلف! الأمر مختلف طبعا. فهو لم يشأ استغلالها بل عانقها ليعزيها ويريحها ويواسيها. سحرته ابتسامتها وموهبتها, وحماسها للعمل, وفهمها لفنها, وضحكتها النادرة, والدفء الذي تعامل به بيري و ميك وبعض زبائنها أيضا, وتبخل به عليه. أراد تحريرها من تلك القيود التي تمنعها من إظهار الجزء المخفي من شخصيتها. أراد تحريرها من مخاوف الماضي التي تطاردها. لم يكن يريد عناقها فحسب, بل أراد طرد الأشباح التي تلاحقها, أراد حمايتها من الرجال الأنذال والانتهازيين أمثال جيرالد دود. ووضع وجهه بين يديه, إنه يريد حمايتها من نفسه أيضا. أراد إسعادها, وإبقائها سعيدة طيلة أيام حياتها. لقد حسم الأمر. إنه يريد ريانون, يريدها أن تكون جزءا من حياته, لذا عليه أن يعمل جاهدا ليصل إلى ذلك. بعد حوالي نصف ساعة, رافقها إلى خارج المبنى. قالت: " يمكنك طلب إزالة السقالة. إن احتجت إلى تصحيح شيء في القسم الأعلى, فيسعني استخدام سلم. ما من ضرورة لسد الممر الرئيسي لوقت طويل". -سأطلب إزالته. قالت على عجل وهو يفتح باب المدخل:" شكرا على مساعدتك, سيارتي مركونة هناك, سأكون بخير". أمسك بذراعها:" ريانون, أنا آسف, استغليت الوضع, وما كان علي ذلك". -لا تعتذر. فقد عانقتك بملء إرادتي, وأنت لم تجبرني على ذلك. يفترض بكلامها أن يشعره بالتحسن, لكنه لم يفعل بل زاد من شعوره بالذنب. رفعت رأسها, ونظرت إليه:" الذنب ليس ذنبك". حدق إلى وجهها, وقد ظهر العزم وقليل من الحزن عليه. بدت وكأنها تتخلى عن شيء ترغب فيه بشدة. وشعر أنها تضع مسافة عاطفية بينهما. -إن كنت تظن أنك استغليتني, فقد استغليتك بدوري. -استغليتني؟! -أردت شيئا. . . شخصا أستند إليه, وقد كنت حاضرا. -لا يهمني! يمكنك الاستناد إلي ساعة تشائين فبوسعي الاحتمال. -أنا لا. -ماذا تعنين بكلامك هذا؟ فكل إنسان بحاجة إلى سند من وقت إلى آخر. -كل إنسان؟ نظرت إليه, ثم تابعت:" أعلمني متى يزيلون السقالة, حتى أحضر و أنهى العمل". وراقبها تصعد إلى سيارتها, وتغادر. في اليوم التالي, وبعد إغلاق صالة العرض, عادت ريانون إلى المنزل. تناولت العشاء مع جانيت, ثم شغلت تلك الأخيرة التلفاز, فيما أخذت ريانون كتابا وتقوقعت على الكنبة, تطالعه علها تنسى أحداث ليلة أمس, إلى أن دوى اسم جيرالد دود في أذنيها كطلقة رصاص. رفعت رأسها بسرعة, وحدقت إلى التلفاز, فاقشعر بدنها عندما ظهرت صورته مبتسما. وذهلت عندما قال مقدم البرنامج:" . . . أنكر التهم الموجهة إليه بالاعتداء الجنسي على مريضاته. الليلة, نستقبل الرجل الذي يدعي بأن المدعيتين نصبتا له فخا". رجعت ريانون إلى الوراء ببطء, وقد احمرت وجنتاها سخطا. لم تسمع المقدمة بل راحت تتذكر غرفة مكتبه التي تعرفها تماما والتي تجري فيها المقابلة. لم تتغير الغرفة, كما لم يتغير هو أيضا. تحدث بأسف عن امرأة مريضة, دفعت صديقتها إلى زيارته وتلفيق التهم الباطلة له. بدا جذابا, ساحرا, متعاطفا, وشدد على أن الاتهامات (( مرضية وسخيفة)) وعلى أن المرأتين رفعتا شكوى للحصول على تعويض مالي. وتساءلت ريانون كيف يستطيع أي إنسان أن يشكك بالصدق والبراءة الباديتين في عينيه. سألت ريانون جانيت:" هل تصدقينه؟". -إنه مقنع. يبدو منافقا قليلا, لكنه سينجو بفعلته على الأرجح فما من دليل قاطع سوى كلامه مقابل كلامهما, ويبدو أنهما صديقتان سيصعب إثبات الأمر. تمتمت ريانون:" لا يستحق أن ينجو بفعلته". ثم أضافت بصوت مرتفع:" لا يستحق!!!". -9قصة ملاك تركت سكرتيرة غابرييل رسالة لريانون تعلمها بأنه يسعها معاودة العمل وبأن السقالة أزيلت. فسألت ريانون بيري:" هلا ساعدتني على إنهاء المشروع! سأدفع لك ثمن أتعابك طبعا". -طبعا, أنا لست خبيرا بالموزاييك, لكنني شاهدتك تعملين مرارا, و أظنني قادر على مساعدتك. حين رأى غابرييل بيري واقفا إلى جوارها يساعدها في الجزء السفلي من اللوحة, رماها بنظرة ثاقبة, ورفع حاجبيه. قالت بعد أن رمقته بنظرة تحد:" سيساعدني بيري على إنجاز بقية اللوحة". -فهمت. علم أنها تستخدم بيري كدرع واق إذ قررت التصرف بجبن. وهذا أفضل من الاستسلام لمشاعر قد تؤدي إلى هلاكها, أليس كذلك؟. ساعدها بيري على أكثر من صعيد. فبوجوده لم تحتج إلى أحد لنقل البلاط والعدة كما فهم تقنية العمل بسرعة. سار العمل بسرعة كبيرة, وحين كان غابرييل يحضر لمراقبة تقدم العمل, يبقى صامتا لفترة ثم يغادر. بعد أن أنهت الشبكة, قالت:" سأنهي الباقي بنفسي, شكرا لك على مساعدتك بيري". -أنت على الرحب والسعة. ما قصتك مع الملاك, غابرييل؟ -لا شيء, يحب الاطلاع على تقدم العمل في مشروعه وحسب. -ليس هذا فحسب, بل كان يراقبك كالصقر. هل يخيفك؟ -طبعا لا!. -إذا لما لا تنظرين إليه إن كنت لا تخشينه؟ أنت لا تخرجين برفقته, صحيح؟ -حضرنا عرضا واحدا سوية, وهذا لا يعني أننا نخرج معا أما باقي لقاءاتنا فكانت بغرض العمل ليس إلا!. -أنت تهربين من شيء يخيفك. إن كنت تخشينه فيسعني تدبر أمره. -لا, فهو لم يفعل شيئا سيئا. طبعا لم يفعل. إنها تهرب خوفا من نفسها, ومن ردات فعلها ومشاعرها. وقد حان الوقت لتحل المسألة. آن الأوان لتخطو خطوة في الظلام. عادت إلى آنجل إير مستعدة لمواجهة غابرييل, فلم تجد إلا ميك الذي عرض عليها المساعدة. قال:" طلب مني السيد هادسون الاعتناء بك في غيابه". -غابرييل غير موجود؟ -اضطر إلى السفر إلى استراليا على عجل, ألم يخبرك؟ -لا. -تعرض أخوه لحادث. إنه يدير فرع سيدني كما تعلمين. وعاودتها ذكرى حادث والديها, ورهبة سماع الخبر والشعور بالضياع الذي تملكها حين علمت بوفاة والدتها, والخوف عندما قالوا لها إن والدها على قيد الحياة لكن حالته خطرة, والأمل المستمر الذي تشعر به كلما رأت والدها على هذا الحال. -هل الحادث خطر؟. -لا أعلم, ولكن السيد هادسون بدا قلقا للغاية. لم يتحدث غابرييل كثيرا عن عائلته, لكن نبرة صوته كانت عاطفية عندما ذكر أخاه. تمنت لو تستطيع أن تعبر له عن أساها وتعاطفها. لكن رأسه منشغل حتما بأخيه, ولا يحق لها أن تتوقع منه اتصالا. حمل ميك سلما ووضعه قرب اللوحة بناء على طلبها, وبقي بجوارها فيما تحققت من الموزاييك لترى ما إذا كان ثابتا. وفي مساء اليوم التالي, بدأت بوضع الطلاء الفضي ليظهر وكأنه جناحا ملاك. عندما انتهت و أزاح ميك السلم, وقفت تتأمل تحفتها. قال ميك:" اللوحة رائعة, عليك أن تفخري بنفسك". ابتسمت ريانون. كانت اللوحة تماما كما تخيلتها, ولكن ثمة خطأ ما. مهما نظرت إلى رسوماتها ودققت فيها, عجزت عن معرفة الخطأ. ******* وجدها بيري تحدق إلى الأيقونة الروسية التي استلهمت منها, وتقارنها بتصميمها. قالت له:" ثمة خطأ ما, ولكنني عاجزة عن تحديده". -هذه لوحة كبيرة, أأنت واثقة من أنك لا تغالين بطلب الكمال؟. هزت ريانون رأسها:" تبدو اللوحة غير منتهية, كما لو أن شيئا ما ينقصها". جال بنظره من ورقة إلى أخرى بتركيز. وأخيرا, أشار إلى صورة الملاك وقال بتردد: -راي. . . العنصر الوحيد الذي ينقص هو الوردة التي يحملها في يده. حدقت ريانون إلى الوردة في يد الملاك, وقالت بصوت مرتفع: -لا, إنها لوحة تجريدية, وليست نسخة. تنهد بيري بانزعاج:" نعم, طبعا. . . القرار قرارك". في مساء اليوم التالي دخلت ريانون مبنى آنجل إير. كان الطقس غائما طيلة اليوم كما هطلت بعض الأمطار. نقل ميك السلم, وقال وهو يتأكد من متانته:" سأبقى هنا فيما تصعدين السلم وتنزلين تفضلي إنه متين". كانت تمسك صورة الأيقونة بيدها, وقد ظهرت الجدية على وجهها, ورسمت بحذر الخطوط على البلاط ونقلت الزهرة بدقة متناهية ولكن بشكل أكبر. وبشكل تدريجي, تلاشت جديتها وهي تنهي الرسم. قال ميك متفاجئا:" يسعني معرفة هذه الرسمة". ابتسمت:" هلا ناولتني الطلاء؟". لونت الوردة وأوراقها وفيما كانت تضع فرشاتها في وعاء الطلاء, سمعا صوتا على السلالم الجانبية. وبعد لحظات, ظهر غابرييل. كان شعره رطبا, كما سالت بعض نقاط الماء على وجهه. قال:" سأتولى الأمر عنك ميك!". نظر الرجل العجوز إلى ريانون قبل أن يبتعد, وسأل:" كيف حال أخيك سيد هادسون؟". كان غابرييل يحدق إلى ريانون من دون أن يتحرك. وبعد لحظات, حول نظره إلى ميك وقال:" لم تلتئم جراحه تماما لكن حاله مستقرة. لما لا تأخذ بقية النهار عطلة؟ لدي الكثير من الأعمال لذا سأبقى هنا طيلة اليوم". -طبعا سيدي, فأنا لا أمانع في الخروج لرؤية أصدقائي القدامى. وبعد أن غادر ميك, اتجه غابرييل نحوها. بدا مرهقا وقد ضعف وجهه قال: -لم أعلم إن كنت سأجدك هنا, ظننتك أنهيت العمل. -آسفة جدا لما حدث لأخيك, أخبرني ميك عن الحادث. -اصطدم سائق ثمل بسيارة أخي. اضطر الأطباء إلى استئصال طحاله وتقطيبه في أكثر من مكان. كما تكسرت بعض عظامه, لكننا نأمل أن يتعافى تدريجيا, زوجته معه وأمي أيضا, لا يحتاجونني قربهم. أنا أحتاجك, أحتاجك بقربي, قالت ريانون هذا في سرها. وقد تسمرت في مكانها لهذه الفكرة. حول نظره ليرى ماذا تفعل:" لا تدعيني أزعجك, فرؤيتك تعملين. . . نريح أعصابي". -أوشكت على الانتهاء. حملت الفرشاة, ولونت بحذر عنق الوردة. وبعد بضع لمسات انتهى العمل. أغلقت وعاء الطلاء, ووضعت الفرشاة عليه, ثم ناولتهما لغابرييل. -هلا أخذت هذا من فضلك؟ وضع الأغراض على الأرض, وفيما كانت تنزل السلم, أمسك به بقوة. وحين استدارت وجدت نفسها بين ذراعيه المفتوحتين. انتفض قلبها, لكنها نظرت إليه من دون خوف وقابلت نظراته المتسائلة. وبهدوء, رفعت يدها ووضعتها على صدره. اقترب ببطء, مانحا إياها الوقت لتبتعد, لكنها لم تفعل. ضمها إلى صدره بقوة, فأغمضت عينيها واستسلمت لعناقه, وبعد لحظات ابتعد عنها. -احتجت كثيرا إلى هذا العناق. -وأنا أيضا. التمعت عيناه لكلامها, فاقتربت منه تعانقه من جديد. عانقها بقوة, ثم تنبه لما فعله فأرخى يديه قليلا, كان يعاملها بحذر ولطف شديدين, وذاب قلبها كالحديد على النار. شعرت بأنها تحلق في الفضاء, فقال وهو يعانقها مجددا:" شكرا لك!". تغيرت ملامح وجهه عندما نظر إلى الرسم الصغير, وسأل:" لم تكن هذه الوردة في التصميم الذي رأيته؟". -لا, هل لديك مانع؟. هز رأسه, ونظر مجددا إليها بنوع من الفضول والاستغراب. -أحبها, لما رسمتها؟. -بدت ملائمة, لا أعلم لما رسمتها؟ قال وهو ينظر إلى اللوحة:" أنت محقة. هل وقعت اللوحة؟". -لا. لم توقع اللوحة قبل أن تسوي ما كان ينقص. انحنت ووضعت حرفي اسمها على طرف اللوحة, ثم وافته إلى الدرج. قال:" تهاني, إنها ثروة للمبنى. سيتحدث الناس عنها حتما". -إنها أفضل عمل قمت به, والأكبر أيضا, أشكرك لأنك منحتني هذه الفرصة. نظرت إلى الفرشاة التي لا تزال تحملها بيدها, وقالت:" يفترض بنا ترتيب المكان, كما علي تنظيف فراشي التلوين". لو قال لها إلا تفعل شيئا الآن, لأطاعته من دون تردد. لكنه بالكاد أومأ وبدأ يوضب المعدات. تذكرت أنه قال إن عليه إنجاز الكثير من الأعمال المكدسة جراء غيابه. قال:"علي أن أنهي بعض الأعمال الضرورية, هل يمكنني أن أطلب منك الصعود إلى المكتب وانتظاري؟ أريد التحدث إليك والتواجد بقربك". -يسرني لك. تمهل عندما وصلا إلى المصعد, وقال:" فلنصعد السلالم. . ". -لا, لا بأس. عندما فتح باب المصعد, ترددت للحظة قبل أن تدخل الغرفة الصغيرة, وضغط غابرييل على رقم طابق مكتبه. بدأ المصعد بالصعود, فغاب كل صوت من الخارج كانت تقف على بعد أقدام منه وهي تتكئ إلى الجدار, وتذكر المرة الأولى التي رآها فيها, حيث وقفت في زاوية المصعد تماما كما تفعل الآن. وفجأة, سمع دوي قوي من الخارج وتوقف المصعد, وانقطعت الكهرباء. شتم غابرييل, وضغط زر الإغاثة ولم يجبه أحد. لم تحدث ريانون أي صوت, ولم يستطع رؤية شيء في الظلام الحالك. -ريانون, هل أنت بخير؟. -نعم. كان بوسعه سماع الخوف باديا في نبرة صوتها. -لا تخافي, انقطعت الكهرباء فحسب, ما من شيء خطير. حاول فتح البابين ولكن من دون جدوى:" تبا!!". سألت ريانون:" ما بك؟". حاول أن يطمئنها:" نحن لسنا في خطر لكن هاتف الطوارئ لا يعمل, يبدو أن أحدهم قطع التيار الكهربائي والهاتف". -ماذا عن هاتفك الخلوي؟ أنا لا أحمل هاتفي معي. -لن يعمل هنا!. لعن الظلام, وابتدأ بالتقدم منها بهدوء. -نحن عالقان, ولكن لن يطول الوقت قبل أن يتم إصلاح العطل. غادر ميك المبنى منذ بعض الوقت, وقد تمر ساعات قبل أن يعود, كما قد لا يلاحظ وجودهما في المصعد. لمست يده يدها, فتنهدت وابتعدت عنه. قال بغباء:" هذا أنا". بدا صوتها مخنوقا وباردا:" أعلم هذا! لا تلمسني, أرجوك". صدم غابرييل لقولها هذا, واجتاحته موجة من السخط. شعر بأنه مسجون وما بيده حيلة. مسجون مع امرأة تموت خوفا, وهو عاجز عن رؤية أي شيء. وها هي ريانون تتصرف كما لو أنه يوشك على الاعتداء عليها, فصرخ: -بحق السماء, ومتى منحتك عذرا لتخافي مني؟ ما الذي جرى معك بحق الله؟. فكر: يا للطريقة الملائمة لنيل ثقتها! إلا أن صبره عيل, وفقد أعصابه. لم تجب فضرب الحائط بيده, وشتم بصوت مرتفع, وهو غير مهتم بمداراة مشاعرها بعد الآن. سمع صوتها ورائه:" أنا آسفة". -علام تعتذرين؟. لم يرضه الاعتذار, ولم يخفف من روعه. إن كان على أحدهم أن يعتذر فهو وليس هي. -أنا لست خائفة منك غابرييل. سمع حركة خفيفة وراءه لكنه لم يستطع رؤية شيء. تابعت:" خشيت أن أصبح هستيرية وأفاجئك لو لمستني, وهذا ليس بمفيد لكلينا". يا إلهي! إنها تحاول السيطرة على نفسها, هذا هو معنى حديثها. إنها تحارب خوفها, وهي مصممة على عدم الاستسلام. تحارب هذا الخوف بمفردها وعلى طريقتها, فصرخ في وجهها:" تصرفي بحرية. تصرفي بقدر ما تريدين من الهستيرية, فجري مكنونات صدرك ومكنونات صدري أيضا". ارتاح لسماع ضحكتها, وسألته:" هل أنت خائف؟". -لست خائفا, بل منزعجا, وأعجز عن الخروج من هذا المأزق. ألا تكرهين هذا الشعور؟. -ليس بقدر ما كنت سأكرهه لو أنني بمفردي. هذا خبر سار. قال بحذر:" قد يمر وقت قبل خروجنا من هنا, لذا يستحسن بنا أن نرتاح قدر الإمكان. هل تشعرين بالبرد؟". -لا فالجو حار قليلا. -أعلميني إن احتجت لسترتي. -حسنا. بدأت عيناه تتأقلمان مع الظلام, واستطاع رؤية انعكاس وجهها على باب المصعد. جلس غابرييل أرضا ومد رجليه الطويلتين أمامه فيما أسند رأسه إلى الحائط خلفه. تمنى لو تدعه يقترب منها. كان يتوق إلى ضمها إلى صدره وحمايتها, ومواساتها. لكنها لا تريده أن يفعل هذا, وعليه احترام رغبتها حاول جاهدا رؤيتها, وقد انزعج من الظلام المحيط بهما. وقال في نفسه إنها جالسة متقوقعة على نفسها جسديا ونفسيا دون شك. حاول إيجاد موضوع يناقشانه, لكنه لم يتمكن من ذلك. بدا وكأن أفكاره كلها هجرته. وبعد قليل من الوقت, ومن دون أي مقدمات قالت:" سأدلي بشهادتي ضد الدكتور دود". تفاجأ غابرييل:"أحقا؟". -قصدت الشرطة وأخبرتهم. . . كل شيء. كنت محقا, وجب علي القيام بهذا. ابتلع ريقه, لا بد أن الأمر كان صعبا عليها. وهو لم يكن بجوارها. -متى تعقد الجلسة؟. -الأسبوع المقبل. -سأرافقك. -لا. شعر بألم في صدره لرفضها, فسألها:" هل سيرافقك أحد؟". -علي القيام بذلك بمفردي. -لم؟. التزمت الصمت لوقت طويل, فظن أنها لن تتابع الكلام. وعندما تكلمت بدا كلامها غير مرتبط بموضوع الحديث. قالت:" منذ خمس سنوات تعرضت للاختطاف". خطرت في باله كافة الاحتمالات إلا هذا. الاختطاف؟ عليه أن يعدل أفكاره بطريقة جذرية. فقد ظن أن عائلتها غير ميسورة الحال. -هل اختطفت كرهينة؟. -لا. لزمت الصمت لفترة ثم أردفت:" كنت أعرفه. حضر معي صفا من الصفوف في الجامعة, ودعاني للخروج مرتين. بدا لطيفا جدا, لكن في المرة الثالثة رفضت طلبه". توقفت عن الكلام مجددا, فسألها:" لم؟". -كان لجوجا للغاية. . . جعلني أشعر بالانزعاج. قال لي أنه راقبني لفترة قبل أن يجرؤ على طلب الخروج معي. قال أمورا مبالغا فيها. . . وكأنه انتظر لقائي طيلة حياته. في بادئ الأمر, سخرت منه, فشعر بالإهانة. لم أكن خبيرة في العلاقات الشخصية, ففي المدرسة لم أكن أهتم إلا بدروسي. وبما أنني كنت في سنتي الجامعية الأولى, ونظرا لعدم خبرتي. . . لم أستطع تحمل هذا النوع من. . . الهوس. -إذا, قطعت علاقتك به, فهذا التصرف المنطقي. -نعم. وبعد فترة وجيزة, فقدت والدتي. بدا متعاطفا جدا وساعدني, إذ فقد والدته عندما كان صغيرا. بدا وكأنه يفهم ما أمر به. وبطريقة ما أصبحنا نخرج سويا. -وبعدئذ؟. . . -ازداد هوسه وتملكه. بت عاجزة عن الذهاب إلى أي مكان أو رؤية أحد حتى صديقاتي. لم يكن الأمر طبيعيا وعجزت عن التحمل أكثر. بدأ يرسل لي رسائل غرامية وباقات كبيرة من الورود الغالية الثمن كل يوم تقريبا. كان يحضر الصفوف نفسها التي أحضرها إلى أن صحت في وجهه في أحد الأيام, وطلبت منه أن يتركني وشأني. تلك الليلة هاتفني, ووبخني لأنني صرخت بوجهه أمام الطلاب, لكنه لم يقترب مني مجددا, وتوقف عن إرسال الأزهار. بعدئذ, انهالت علي الاتصالات الهاتفية, وكنت أرفع السماعة وما من مجيب. كنت أعلم أنه المتصل, لكنه لم يتحدث يوما!. -هل أبلغت الشرطة؟. -لا, لم أظن أن الأمر ضروري. لم يهددني يوما, وظننت أنني إن تجاهلته, فسيستسلم. -لكنه لم يفعل. -وفي أحد الليالي, وبعد أن انتهت محاضرتي استوقفني. قال إنه قد تصرف بغباء, واعتذر لأنه أحرجني وأراد أن يفسر لي تصرفه. قلت له إن ما من ضرورة لذلك. لكنه عاد وأقنعني بشرب فنجان من القهوة معه, فوافقت. أظنني شعرت بالذنب لإهانته علنا, كما أنني أشفقت عليه. قال إنه سيحضر سترته من السيارة ثم نذهب. مشيت معه إلى السيارة, ففتح الصندوق وأمسكه بيد واحدة, ثم طلب مني الإمساك به لأنه مكسور. وفجأة, دفعني إلى الداخل وأقفل علي. لا أظن أن أحدهم شاهد ما جرى, ولم يتسن لي الوقت للصراخ وطلب النجدة حتى. شعر غابرييل بكل عضلة من عضلات وجهه تنقبض. كانت تقص الحكاية عليه بهدوء, وبصوت ناعم وبارد في الوقت عينه, لا بد أنها خافت كثيرا. -وإلى أين اصطحبك؟. -كان يملك كوخا في الغابة, بالرغم من أنني كنت أجهل مكاننا وجدت نفسي أمام منزل قديم, لا يحيط به جيران. كانت الأرض المحيطة به مهجورة وقد نمت فيها الأعشاب والأشواك. قال إنه مقدر لنا العيش معا, وإننا نحتاج لقضاء بعض الوقت بمفردنا. سأل غابرييل, وقد شعر بشيء يمسك بحنجرته:" كم من الوقت احتجزك؟". -ستة أيام, الوقت ليس طويلا لكنه بدا لي بمثابة دهر -طبعا. فهي لم تكن تعلم كم سيدوم كابوسها وما سيقدم عليه ذلك المجنون. -في الليلة الأولى لم ننم. لم يعتد علي بل ظل يكرر أننا خلقنا لبعضنا, وأنه يمنحني بعض الوقت لأعي هذا. حاولت إقناعه بإرجاعي إلى المنزل, وتوسلت إليه, وصرخت بوجهه, وهددته بالشرطة, لكنه لم يقنع. طلبت منه اصطحابي إلى المدينة, ووعدته بألا أخبر أحدا بما جرى, فظل صبورا معي. -صبورا؟.. -لم يرفع صوته في وجهي أبدا. بعدئذ قلت له إنني بحاجة لدخول الحمام, ففتحت الشباك وهربت منه. لحق بي و. . . -وماذا؟. -كان هناك حاوية وراء المنزل. أظن أن أحدهم اشتراها ليخزن فيها بضائع أو ما شابه. -هل حبسك داخلها؟. -ظل يرتاد الجامعة بشكل طبيعي. كان يتركني كل يوم, بعد أن يترك لي طعاما و شرابا, ودلوا. كان الطقس حارا في النهار لكن أغصان الأشجار المتدلية تحول دون وصول الشمس إلى مباشرة. أحدث ثقبا صغيرا للتهوئة في السقف. قال لي إن الوضع مؤقت, وسيستمر إلى أن أعود إلى رشدي وأعي أنه من المقدر لنا أن نعيش سويا. كان المكان مظلما باستثناء بعض النور الذي يدخل من الثقب, كان صغيرا أيضا. بحجم مصعد, كما خطر لغابرييل وهو يبتلع ريقه. -كان يحضر كل يوم باقة ورود حمراء لم أنس رائحتها يوما. وكان يحضر العشاء ونتناوله سويا بعد أن يضع باقة الزهر على الطاولة. كان الأمر غريبا. -لا بل مرضيا!. -إنه مريض, فهو الآن في مصح عقلي. إنه المكان الذي يليق به, سواء أكان مريضا أم لا. وإن رآه غابرييل يوما فسيوسعه ضربا ويهشم وجهه. -لم يكن يشيح بنظره عني إلى أن يرغب في النوم. ثم يطلب مني وبكل تهذيب أن أنام معه. وعندما أرفض يهز رأسه حزنا ويعيدني إلى الحاوية. وفي إحدى الليالي وافقت, على أمل أن أستغفله وأسرق مفاتيح سيارته لأهرب بها. كنت مستعدة لتنفيذ طلبه كي أهرب. لكن, ماذا لو أمسك بي واحتجزني أكثر؟ وحين توجهنا إلى السرير, لم أستطع القيام بما طلبه وحاربته. غضب مني وجرني إلى الحاوية, و. . . في اليوم التالي لم يترك لي أي طعام. شعر غابرييل بالسخط والاشمئزاز:" وكيف تمكنت من الهرب؟". -بلغت جدتي الشرطة عن اختفائي, وأطلع رفاقي رجال الشرطة عما كان بيننا. الحمد لله أن الشرطة أخذت كلامهم على محمل الجد, فاستجوبته ولحق به بعض العناصر بعد أن غادر الجامعة. راقبوه عندما فتح الحاوية, ولكن. . . -ماذا جرى بعدئذ؟. -كان رجال الشرطة مسلحين وهو يحمل سكينا. هدد بقتلي وقتل نفسه إذا حاولوا أخذي منه. وقد عنى ما قاله, فلم يتجرؤوا على الاقتراب منه. دفعني مجددا إلى الحاوية ودخل معي وأقفل الباب. بقينا في الداخل لساعات وهو يراقب ما يجري في الخارج من خلال الثقوب. أغمض غابرييل عينيه وعض على شفته:" لا عجب أنك تخشين الأماكن المغلقة". -نعم, فهي ليست أماكن أحب التواجد فيها. حينذاك, كان قد فقد عقله. فكذبت عليه وأخبرته أنني أيقنت الآن كم يحبني وأن علينا البقاء معا إلى الأبد. قلت إنني أريد الزواج به وإنني لن أشهد ضده ولن تمسك به الشرطة. . . فنبقى معا إلى الأبد. -هذا الكلام لم يعد صحيحا, أليس كذلك؟. -لا أعتقد. لكنه قبل اقتراحي. أظن أنه أراد أن يصدق أنني أحبه. طلب كاهنا فحضر شرطي متنكر بلباس كاهن. تنفس غابرييل الصعداء:" لم تتعرضي للأذى!". -لا أمسكوا به, وانتهى الأمر. انتهى كل شيء باستثناء الصدمة التي شعرت بها. قال:" لهذا احتجت إلى طبيب نفسي". · -نعم في بداية الأمر, ساعدني الدكتور دود كثيرا. كنت في حالة مزرية, فلم أعد أمشي في الشاعر وحدي. وكان صعود المصعد أمرا مستحيلا بالنسبة إلي. نمت والنور مضاء لأشهر طويلة, وكنت ارتعب من فكرة البقاء بمفردي مع رجل حتى مع طبيب, فلازمتني جدتي طيلة جلسات العلاج الأولى إلى أن وثقت بالطبيب. توقفت ريانون عن الكلام, فقال غابرييل بقوة:" ثم خان ثقتك". -كنت أرتاد عيادته منذ أشهر. كان حبل الأمان الذي أتمسك به. بدأ يمسك بيدي قائلا إنه علي اعتياد اللمس, ثم راح يمسك بيدي وذراعي ويمسد شعري ورقبتي. لم يعجبني ما كان يجري لكنه أقنعني. ظننت أن علي أن أعتاد هذا وأنه جزء من العلاج. حين حاول أن يتمادى, لم أصدق ما يجري. وحين تحديته رد بأنني أعاني من كبت ومن برودة, ويمكنه شفائي إذا ما سمحت له بذلك. ولحسن الحظ, اكتشفت نواياه السيئة و علمت أنه يقدم على عمل خاطئ. -حتى لو وافقت, يبقى ما يفعله اغتصابا. -أعلم, ولكن. -قررت ألا تثقي بأحد, وألا تطلبي الدعم والمساعدة من أحد, لأنك خشيت أن يخذلوك. همست:" شيء من هذا القبيل". -لقد وثقت بجدتك!. -طبعا فعلت. -لكنها توفيت وتركتك. -لم يكن الأمر بيدها. -والدتك توفيت أيضا, ووالدك عاجز عن التصرف كوالد. -ما الذي تحاول قوله؟ -لن تسمحي لنفسك بالاعتماد على أحد, فكل من اعتمدت عليهم هجروك بطريقة أو بأخرى. -لم يهجرونني, ولم أكن طفلة. -كنت في السابعة عشرة من عمرك. لم تكوني راشدة أنت تخشين الاتكال على أحد لذا لا تدعينني أقترب منك. حين كنت جالسا مع زوجة أخي قرب فراش أخي, اتكأ أحدنا على الآخر ودعمنا بعضنا البعض, وحين أتت والدتي بكينا معا. -أنتم عائلة, أنا لا أملك عائلة. ولا يمكنني أن أتوقع من أي شخص مساندتي. -بل تستطيعين توقع هذا مني. فأنا أحبك يا ريانون, وأريد الزواج منك والعيش قربك طيلة أيام حياتي. لا يسعني أن أعدك بألا أموت, ولكن طالما أنا على قيد الحياة, أريدك أن تمنحيني دعمك, تماما كما فعلت عندما عانقتني اليوم من دون أن أطلب منك ذلك, علمت ما أحتاج إليه لوحدك. أريد أن أكون الشخص الذي تعتمدين عليه عندما تحتاجين إلى دعم. صمتت طويلا, لكن عجز عن التزام الصمت:" ريانون؟". وبعد صمت دام دهرا:" أتعلم؟ أشعر بالبرد!". قال وهو يخلع سترته:" تعالي بقربي". مرت لحظة قبل أن يشعر بها تقترب منه, ويشتم رائحتها الزكية وضع سترته على كتفيها ولفها بذراعيه, فاقتربت منه واستندت إلى صدره. سألت:" ألن تشعر بالبرد؟". -ليس وأنت بقربي. شعرت بتعب شديد. كان جسم غابرييل دافئا, وبالرغم من وجودها في وضع أثار لديها ذكريات سيئة, إلا أنها شعرت بالأمان والطمأنينة. -أحبك غابرييل. شعرت بيديه تضمانها إليه, وأردفت:" أحببتك منذ وقت طويل, لكنني لم أتحل بالشجاعة الكافية لأخطو خطوة في الظلام. كنت أخشى أن أعيش ما اختبرته في السابق إن أحببتك وهجرتني. أردت أن أحبك كما تستحق أن تحب, وكما أستحق أن أحب, كامرأة قوية, حرة, امرأة لا تحتاج إلى وصي أو ملاك حارس. وهذا ما منحني الشجاعة للتوجه إلى الشرطة والإبلاغ عن جيرالد دود. أعلم أن قلبي سينفطر إن هجرتني وأن الحياة لن تبقى مثالية, لكنني سأحيا بالرغم من فراقك". قال وهو يسند خده إلى شعرها:" أنا لن أتركك أبدا, لن أتركك طوعا ما حييت. وحتى لو مت, سأكون بجوارك دائما, أقسم لك". سوى طريقة جلوسه وعانقها بحنان وشغف, ثم ذكرها:" لم تقولي نعم, هل تقبلين الزواج بي؟". -نعم, ما إن نخرج من هذا المصعد اللعين!. كانت ريانون تتأبط ذراع غابرييل عندما بدأ المصعد بالتحرك, ثم توقف وكأن شيئا لم يحدث. وفتح الباب ليكشف عن ميك الذي بدا قلقا. -هل أنتما بخير؟ انقطعت الكهرباء جراء المطر. قال غابرييل:" لم أكن يوما أفضل حالا من اليوم". تأمل ميك غابرييل ومن ثم ريانون وقال:" آه, هذا جيد". سأله غابرييل:" لا أظنك تملك رخصة لعقد الزيجات, أليس كذلك؟". -لا أظن هذا سيدي. هل ستتزوج؟. -وعدتني بالزواج ما إن نخرج من هذا المصعد اللعين, ولكني أظن أن علينا الانتظار لبعض الوقت. لكن ليس لفترة طويلة. بقي غابرييل على أعصابه إلى أن تعهدت ريانون بأن تحبه وتحترمه في السراء والضراء طيلة أيام حياتها, وتعهد بدوره بالمثل. قاد ميك ريانون بفخر إلى المذبح, ومنذ أن أمسك غابرييل بيدها ليضع الخاتم في إصبعها لم يفلتها أبدا. غادرا حفل الزفاف في سيارة أجرة متجهين إلى واحد من فنادق أوكلاند الفخمة لقضاء شهر العسل. وكان غابرييل يحمل علبة بيضاء صغيرة. وأمام مدخل مبنى آنجل إير طلب من السائق التوقف وانتظارهما. قال وهو يقود ريانون نحو السلالم:" أريد أن أتقدم بالشكر من شفيعي". توقفا أمام لوحة الموزاييك وقال وهو ينظر إلى الأعلى:" هذه الوردة؟ هل أزعجك رسمها؟". -كان نوعا من التعبير عن المشاعر. لم أشأ رسمها, ولكني علمت أنه يتوجب علي هذا. وما إن رسمتها, حتى أيقنت أنها مجرد وردة, وهي رمز لكل ما أنجزته, وتغلبت عليه. -إذا آمل ألا تمانعي. وفتح العلبة وأخرج منها وردة حمراء ووضعها باحترام عند أقدام اللوحة, ثم تراجع إلى الخلف وأمسك بيدها. -لا أمانع. هذه بادرة لطيفة منك. -آمل أن أتمكن يوما من تقديم الأزهار لك. ففي زفافهما, حملت مسبحة من لؤلؤ كانت لجدتها عوضا عن باقة الأزهار. -ذات يوم, سيسرني تلقي الأزهار لأنها منك. انحنى وعانقها طويلا. ثم قال:" سيارة الأجرة بانتظارنا, وجناح شهر العسل أيضا". استدار نحو اللوحة وحياها:" عمت مساء أيها الملاك. عذرا لكنك لست مدعوا فهذه أمور لا تعني الملائكة". ثم حمل ريانون بين ذراعيه وهي تضحك ونزل السلالم متجها إلى سيارة الأجرة, سأل السائق فيما غابرييل يقفل باب المبنى:" إلى أين؟". نظر غابرييل إليها وأمسك بيدها وشد عليها, ثم قال:" إلى الجنة!!". النهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــايه</P>

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jan 11, 2011 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

دقات على باب القدرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن