كيد العواصف...
هل مررتم بتجربة فقدان شخص عزيز أمام أعينكم؟ ماذا لو كانوا شخصان؟ ماذا لو كان أحداً منهم قام بالتضحية من أجلكم؟
هذا ماحدث لي مع رفيقيّ دربي..
ولكن كانت هنالك معجزة حدثت ، ولكن ليست كأي معجزة ..
قصتي بالنسبة لي قامت بالتأثير في داخلي تأثيراً بليغاً وجعلتني أُصارع عذاب الضمير الذي أنهك روحي وجعلني أعيش مرارة التشتت ..
وفي كل يوم أنظر فيه الى تلك الفجوة البحرية يألمني قلبي وأشعر بِحُطامهِ داخل صدري..
كانت الحياة قاسيةً عليّ بعد تلك الحادثة الفضيعة ، لمن أستطع أن أتجاوز بشاعة هذه الحادثة حتى في أحلامي ، فقد كانت رفيقةً لي في كل ليلة ، أنها تزورني بإستمرار وكأنها ضيفة غير مرغوب ومرحّب بها ..مرحباً ، أُدعى إيفان أبلغ من العُمر 64 عاماً ...
نحن الآن في شهر يناير من عام 2014 ..
بدأت قصتي عندما قررنا أنا وصديقاي المدعوان بـ توم و مايكل أن نذهب في رحلة بحرية للأستكشاف ، لأننا كُنا من عُشاق البِحار وورثنا حُب البحر من أجدادنا الذين كانوا أصدقاء ، مثلنا نحنُ تماماً..
صداقة أجدادنا العميقة ورثناها نحن الثلاثة ، كُنا نعيش حياتنا في حلاوتها ومرارتها ، نفرح مع بعضنا ونحزن مع بعضنا حتى أتفه الأشياء كُنا نتشاركها مثل الملابس والأحذية والقبعات ، في عام 1974 بلغت أعمارنا الرابعة والعشرون ومنذو صغرنا كُنا نخطط أن تكون لنا رحلة بحرية إستكشافية وأن تُدوّن هذه الرحلة في كُل الصُحف المحلية والعالمية ونكسب شهرةً واسعة في كُل نطاق العالم ونجني الكثير من المال بسبب الشهرة ، وبالفعل كسبناها !!
ولكن خسرنا بعضنا البعض وخسرنا صداقتنا القوية المتينة التي نكاد نُحسد عليها ، ولم نكن نعلم أن طريق شهرتنا سيكون عبارة عن مكيّدة من عاصفة لا تعرف أي نوع من الشفقة والرحمة..
في اليوم التاسع من شهر يناير في سنة 1974 ، إنطلقنا أنا وتوم ومايكل من إحدى موانئ خليج كاليفورنيا وعبرنا من خلال هذا الخليج مروراً بالمحيط الهادي ، ولكن لم يكن المحيط الهادي مسالماً معنا كما أُطلق عليه البحارة والمستكشفون..
بعد مضيّ مايقارب خمسة أيام من رحلتنا الهلاكية وفي وقت الليل واجهتنا عواصف لم نكن نحسب لها بالاً وقلنا في أنفسنا أن هذه العاصفة ستكون مثل غيرها من العواصف وسنشق طريق رحلتنا ولن يوقفنا شيء..
ولكن كانت العاصفة أقوى منا جعلتنا نرى الموت فيها وفي صوتها الذي لايزال في مسامع أذني ، وقوتها الهوائية التي يتقشعر ويرجف جسمي منها حتى الان ..
إستطعنا نحن الثلاثة أن نتمسك جيداً وكنا لا نرى ولا نسمع شيئاً سوى صخب العاصفة كأنها كانت تنادينا لتقول لنا هذه رحلتكم الأخيرة .....
بعد العاصفة بيوم أو يومان أو ثلاثة أو ربما أسبوع لا أعلم عدد الأيام جيداً لأنني وجدت نفسي مستلقي على رمال وكانت أمواج البحر تلامس قدمي ،إستيقضت وفتحت عيناي وكانت الشمس تسدل بأشعتها عليّ ، وضعت يدي على عيناي وكنت أحاول أن أتأقلم مع أشعة الشمس لأنني في آخر مرة كُنت أنظر الى سماءاً سوداء مظلمة وليست سماءاً زرقاء..
بعد مضيّ ما يقارب الخمس دقائق أستطعت أن أفتح عيناي جيداً ورأيت على يميني سفيتنا ، في هذه الأثناء تذكرت صدِيقاي توم ومايكل وأسرعت بالركض الى السفينة ومن شدة الهلع والخوف سقطت مرتان على الرمال وصلت الى السفينة وكنت بالكاد أستطيع أن أتنفس من شدة هلعي ..
دخلت الى السفينة وكنت أنادي بأسماء صدِيقاي توم ومايكل ولكن للأسف لم أسمع أي همس منهما وبقيت أبحث داخل السفينة التي اصبحت شبه محطمة او محطمة كلياً كأنها خُردة !!
خرجت منها لأُلقيَّ نظرةً على المكان وكانت هنا الصدمة..!!
أنا في جزيرة مهجوره كلياً وكنت أرى أطراف الجزيرة ولم تكن كبيرة ، مساحتها تقارب 150 متراً تقريباً وكانت قاحلةً تماماً بلا نبات او شجر ، مجرد كثبان رمليه ، نظرت حولي جيداً وعند خروجي من السفينة سمعت صوت همسات يناديني من داخل السفينة..
أجل، صوت همسات ولكن همسات مثل الأنين تماماً ،عُدت الى داخل السفينة وكنت أتتبع صوت الأنين ورأيت طرف أصابع يد تحت رفٍ كبير ، هلعت بسرعة وقمت برفع الرف وكان الذي تحت الرف هو صديقي توم ..
ضَحِكت عيناي قبل شفتاي ، أقتربت من توم وأحتضنت رأسه على صدري وكنت أعبر له عن سعادتي بأنني وجدته ، ولكن توم قام بالصراخ ولم أكن أعلم سبب صراخه !!..
نظرت الى جسده جيداً ربما يكون مصاباً ، وبالفعل كان مصاباً في قدمه ولكن ليست إصابةً عاديّه!! كانت قدمه متهشمه وشبه مفصوله عن ساقة ..
لم أستطع أن أحتمل المنظر وذهبت الى خارج السفينة وكنتُ لا أعلم ماذا أفعل فأنا لستُ طبيباً لأعالج جرحاً بليغاً مثل هذا ..
بقيت خارج السفينة عشرون دقيقةً وكنت أحسب الدقائق جيداً في هذه اللحظة المرعبة..
واحد ، إثنان ، ثلاثة ، اربعة ، خمسة ، ستة ....... الف ومئة وثمان وتسعون ، الف ومئة وتسعة وتسعون ،ألف ومئتان.. وانتهت العشرون دقيقة..
أستجمعت قواي وعدت من جديد إلى توم ولكن لم يكن بكامل وعّيه ، بحثت في السفينة المحطمة عن أي شيء لأقوم بتضميد جِراحه أو تخفيفها ، وجدت علب الكحول أخذتها وقمت بصب بعضاً منها على قطعة قماش ومسحت بهِ أطراف ساقه المتهشمه كلياً ، وكان توم يتألم ويصرخ ولكن إستطاع أن يستفيق قليلاً ليحادثني وهو يبتسم وقال لي في أي جزيرةً رمت بنا مكيدة تلك العاصفة؟ فأجبته بأنني لا أعلم ..وبقي توم يبتسم الى أن فقد وعيه كلياً ..
وضعت القماش المبلل بالكحول على ساقه وقمت أتفقد السفينة جيداً وأبحث عن مايكل ربما هو الآخر بقي تحت أحد الأرفف ولكن لم أجده ..
بعد مضيّ عدة ساعات شعرت بالجوع وألتقطت بقايا الطعام والشراب التي تناثرت داخل السفينة وفي أثناء جمعي للطعام علمت أنه يجب عليّ أن أقوم بتوزيع وجبات قليلة بيني وبين توم لكي نبقى صامدين وقتاً أطول .. اخذت أيضاً بعض الاغطية ورتبت مكاناً للنوم ..
بعد مرور ثلاثة أيام بدأت مؤنتنا تنفذ وكنت أراقب البحر يومياً على أمل أن يجدنا أحد ولكن لم يجدنا أحد..
حاولت كثيراً أن أجعل توم يأكل كثيراً ليستعيد عافيته ونشاطه وهذا ماجعل مؤنتنا تنفذ بسرعة، ولكن كانت صحة توم تتدهور شيئاً فشيئاً ..
شعر توم أنه لن يستطيع البقاء والعيش طويلاً وطلب مني أن أتركه لكي يموت ولكي تبقى مؤنه لشخص واحد .. ولكن رفضت ذلك بتاتاً ، كيف لي أن أفرط في روح صديقي ورفيق دربي !!!..
خرجت وقتها ألقي نظرةً على البحر لأرى إن كانت هنالك سفينةً ستنقذنا وكنت أتأمل البحر وفي أثناء تأملي سمعت صوتاً ..! أشبه بصوت بوق السفينة ألتفت يميناً ويساراً أبحث عن السفينة التي سمعت بوقها ولكن لم يكن هنالك حولي أي سفينة سوى سفيتنا الخُردة ..
وقفت صامتاً قليلاً وأغمضت عيناي لأسترجع الصوت في ذاكرتي ومخيلتي وأيقنت أنه لم يكون صوت بوق بل كان صوت إطلاق نار ...!!!
نظرت الى السفينة الخردة وركضت إليها ودخلتها وكانت هنا اللحظة الأليمة والفاجعة بالنسبة لي ...
صديقي توم أطلق على نفسه النار وانتحر لأعيش أنا مع باقي المؤنة...!! بل لأعيش مع عذاب الضمير..
بقيت صامتاً وواقفاً أنظر إليه ، إلى جسده الخامد .. لقد ضحّى بنفسه لأعيش أنا ..!!
مرت ثلاثة أياماً أخرى وأنا مع جثة توم الخامدة التي وضعت عليها غطاءاً أصبح ملطخاً بالدماء ..
أنتهت المؤنه ...
بقيت ثلاثة أيام أخرى بدون طعام وبدأ جسمي يصبح هزيلاً وليست لدي طاقة كافية لأقاوم الجوع وألم موت صديقي توم وفقدان مايكل الذي لا أعلم أين أخذته تلك العاصفة الملعونة ..
كُنت جالساً وأنظر حولي ورأيت ورقةً والتقطتها وقررت أن أكتب رسالة تحكي معاناتي مع جثة صديقي ، ربما غداً او بعد غد أو بعد أسبوع أو ربما سنة يجد احد رسالتي ..
بحثت عن قلم ولكن لم أجد .. فنظرت الى جثة توم الخامدة وخطرت في بالي أن أكتب رسالتي بدم صديقي ..
أخذت عوداً وقمت بتحديد رأسه جيداً ليصبح مثل رأس القلم والحبر سيكون دم توم ..
كتبت حكايتنا في تلك الرسالة ومعاناتي وألمي وأنا أنظر الى جسد صديقي ينام بجانبي دون أيت حركة ووضعت تاريخ انطلاق رحلتنا وتاريخ كيد العاصفة ..هذا ما أطلقته على تلك العاصفة ..
وضعت رسالتي في قنينة كحول وقمت برميها في البحر على أمل أن تحدث معجزة ويجدها شخصاً ما ،بحاراً او ربما قرصاناً !! لم أكن أأبه بمن سيجدها وكانت امنيتي أن يجدها أي شخص ،حتى كنت اتمنى أن تجدها سمكة الدولفين ويأتي لينقذني مثل تلك الحكايات التي نسمعها هه..
مضت يومان ولم أستطع تحمل الجوع والعطش وقد نفذت طاقتي فعلاً فقد أصبحت أرى السواد تحت عيني مثل الظل وأرى عظامي بدأت تصبح بارزةً..
نظرت الى جثة توم وأتجهت نحوها أمسكت بالسلاح الذي أطلق به توم على نفسه ..
قررت أن ألتحق بتوم وربما أيضاً مايكل فالآخر لو كان ناجياً لأتي للبحث عننا ..
رفعت المسدس على رأسي وأمسكت بيد توم وأنا أنظر الى عيناه ودموعي تتساقط على وجهه المُزرق ، وفي أثناء إستعدادي لإطلاق النار على نفسي سمعت صوتاً من خلفي يقول: يارجل ماذا تفعل من انت؟؟
أغمضت عيناي بقوه شديدة وأستجمعت طاقتي لألتفت فربما هذا مايكل أتى لأنقادي ..
ألتفت الى الخلف وكان رجلاً لا أعرفه ، كنت أحاول أن أنظر اليه جيداً ولكن عيناي لم تقوى على النظر ، أقترب مني الرجل وقال: هل أنت بخير..؟.
فجأه وبدون شعور أنهلت بالبكاء وبالضحك معاً فهذا شعوراً ليس كأي شعور ، بل هذا شعور العودة الى الحياة بعد أن كنتُ في جحيم ..
في هذه اللحظة فقدت وعّي وسقطت مغشياً عليّ ، ولم أستيقظ الى بعد ستة أيام هذا ما أخبروني به في المستشفى..
أجل المستشفى، فلقد أنقذني ذلك القبطان ونقلني الى المستشفى سريعاً ..
وكنت أرقد في العناية ثلاثة أيام ثم أخرجوني منها ، أستعدت وعيّ بعد ستة أيام وقامت الشرطة بسؤالي والتحقيق معي وسردت لهم حكايتي وقاموا بالبحث عن مايكل والإعلان عنه بين المفقودين في تلك الرحلة..
بعد مضيّ ستة وثلاثون سنة على هذه القصة حدثت معجزة سماوية لقد وجد مجموعة شباب قنينة الكحول وبداخلها رسالة وقرؤها واتفقوا على أن يأخذوها الى أحد مراكز الشرطة ..
اليوم الرابع والعشرون من شهر مايو سنة 2010 ، نشرت محطات الأخبار التلفزيونية تلك الرسالة على شاشاتها وفي كل الجرائد والمجلات ، وفعلاً تلك الرسالة أكسبتني شهرةً لم أكن أتوقعها فأصبَحَت المحطات والجرائد والمجلات تتسابق إليّ لكي يقومو بعمل لقاء معي ..
وفي أثناء لقاء مباشر على إحدى القنوات كنت جالساً مقابل المذيع وهو يقوم بطرح الاسئلة ، أقتحم شخصاً عجوزاً المسرح وأتجه نحوي مسرعاً بعكازته ، ونظرت الى عيناه جيداً وملامح وجهه وبدت هذه الملامح مألوفتاً لدي ، نعم مألوفه لان الذي يقف أمامي هو مايكل !!!!...
هذا ماكنت أتحدث عنه وأقول معجزة سماوية ، فقد أعادت تلك الرساله صديقي مايكل بعد 36 عاماً..
قمنا بإحتضان بعضنا والبكاء كثيراً ، وسألت مايكل كيف لك أن تعيش ولا تسأل عني؟ فهو يعرف منزلي جيداً ، لماذا لم يبحث عني وعاتبته كثيراً وكثيراً..
ولكن جوابه جعلني أغفر له فقد قال لي أنه فقد ذاكرته وأستعادها بسبب أحد المجلات التي نشرت صورة الرسالة مع صورتي ،وعلم أنني سأقوم بلقاء تلفزيوني مباشر وجاء من أجلي ..
احتضنني مايكل مرةً اخرى وقال لي خذني الى قبر توم ..
بعد الإنتهاء من البرنامج ذهبنا أنا ومايكل الى قبر توم وبقينا بجانبه نتحدث معه ونقول له بأننا وجدنا بعضنا ونتذكر أيامنا التي عشناها مع بعض ، وأصبحنا نزور قبر توم كل يوم ونتحدث معه ..
والآن وبعد مرور أربعون سنة على حادثة كيد العواصف أكتب لكم قصتي وأنا أمام قبر توم وبجانبي صديقي مايكل ...النهايه...