"نون على عين"

283 3 1
                                    

لملمت همّتي العجوز من سريري صباح تشرين , و كالمعتاد الشئ الاول الذي أقوم به هو فتح قماشة القدر من على اطراف شباكي . الشهيق الاول لهواء دمشق كان يعتريني من اللاشئ حتى الشئ , انصباب نظرتي الاولى الى دارنا المطل على جميع الوان الحب . اسمحوا لي التحدث قليلا عنها . الله في هذا الجمال يا حبيبي ...
نبدا من أزهاري , عطر الليل , الريحان , المسكة , و الملقب بعضها ب"المجنونة".
الشب الظريف , شقائق النعمان و كف الدب. هذا الجانب الاول من الدار , اما عن الجانب الآخر , انتشرت قصائد العشق في عود جدي و صلاة الصبر في اوراقه الموسيقية المحفوظة بحفرتها على الجدار باكمله و السبب حتى اليوم نجهله... مغلقاً جداره الموسيقي بياسمينة الحب . الابيض تلاشى منها بكل شئ حتى في اللاشئ...
أما الوسط من دارنا , بركة التعاويذ...
هكذا تلقبها جدتي , كانت تقول أن كل نقطة مياه تلامس هذه البركة هي طرف من اطراف لعنة منتظرة...فيما أرى فيها "ال انا" لكن بصورة مجهولة . هي المرآة الاولى التي رايت بها نفسي , تلاميحي , سعادتي ووجعي , حتى اللاشئ اقتبسته من نوتات الموسيقى التي ألفها خرير مياها... الحب يا جدتي هنا لكننا أُعفينا من الرؤية ...
أسمتني جدتي " نرجس" .
ترعرت بمزلنا الدمشقي , رافقت ياسمينتي و جانب جدي من دارنا...
الليل كان حلكة التفكير ...فالنهار مملوء بمشاغل الحياة...
الليلة تصادف اليوم الرابع من تشرين .
الذي اخذني اليوم الى عود جدي و الى بركته التي استنبطت منها معزوفتي خمر مقطر بعنب أحجاره متماسكة كالطين عندما يبلل . جالسني للمرة الاولى يا قمري هدب النرجس . و هو فعلا أصبح كذلك , لن يكتفي فقط بالهدب بل استوطن ارض قلبي دون استئذان...
رافقني جنوني بالتفكير بتفاصيله .
في صباح هذا اليوم يا قمري , شاهدت رجلاً منتظرة أمام مدرستي . شابة ابتسامته رمقتني باسهم الحب ...
خلته ينتظر شقيقته "سارة" . بقيت واقفة أتأمل تفاصيله , حاولت أن اسمع صوته جيدا كي أعزف لحنه ريثما أعود الى المنزل . لاسمعه كل يوم باناملي انا, وهل خُيّل لك يا الحبيب لمرة واحدة امراة من مشارق الشام تعزف لحن صوتك ؟ صوت ضحكتك الرنانة... تعزف لحن الخوف و الحب و الموت و الولادة معاً؟!.
هكذا البداية كانت , معزوفة من كل النوتات فيك...
أناملي طلّت في الماضي البعيد على تفاصيلك لكنك كنت تخال تفاصيلي . لأن الامر ابتدا بسؤال من "عودي" لأوتار صوتك المتارجحة , لكن الحقيقة بقيت مجهولة . و بعد المضي نصف ساعة علة تأملك , و بعد ان رمقني رمشك بنظرة مغرورة مرمية على عاتق التجاهل , عينيّ ابتسمت . تدفق الدم في جسد بسرعة البركان , اسناني أصرت على بقاء صفها بالتصاق حفرة جفني بطرفه الآخر...
لكن لم ينتابني أبداً أنك ستعرف "نرجسك" .
بداية و قبل أي شئ , " أحبك" .
التصادف لعبة مخفية من العاب القدر , لكن لم يكن بمقدوري تخيل أن الفراق رحلة بحرية في سفينة أضاعت قبطانها على شاطئ البحر...
قبل الامتحانات الرسمية , اعتدنا ان نسمع لحن الورق , لحن الحرف و لحن المطر...
بعد انتهاء دراستنا لمعزوفتنا , كنا نستمع لبعضنا البعض عزفنا المُتعب...
احتفلت بنجاحاتنا دمشق الحبيبة لكنها نست أن تودع من قرر الابتعاد عن ارضها ...
في الثاني عشر من ايلول , عزفت للمرة الاولى بعود جدي معزوفتي باكملها .
اسميتها " نونٌ على عين " .
هرولت مسرعاً مبتعداً عن تراب الوطن , حاولت كثيرا ان اجعل صوت العود يصل الى ساحة المطار . لكن يا حبيبي خلت قاعدة قبل العزف , لا سمع دون محاولة التكلم !.
أرسلت لك العديد من المكاتيب لتسامحني , وددت قولها مراراً لكنني لم أستطع .
قالتها فقط معزوفتي...مضى شهر و اناملي متوقفة عن العزف...
كل صباح من صباحاتي , عصفوري كان ياتي بي بمكاتيبك . كنت أقرؤها دون تردد واستمر الحال...
ماذا أروي لياسمينتي؟؟
وهل ستكفيني الابجدية يوماً لأترجم لك حبي؟
اجتاح كوكبنا فيروس " كورونا" . العالم حسب انه صفقة من نوع مترجم أما انا رايت به القدر ليعيدك لي , لازهار الياسمين التي اضعتها في حرجي و التي تركتها دون ان تكلمها شئ...
القدر هذه المرة عزف معزوفة من نوع آخر , سترافقني الجامعة كما كنت اتمنى كل يوم , سنتهافت الضحكات في المقهى , سأغازلك باسم الحب مجدداً .
سأحيك لك لفحة من صوف " الريحان" . سأصنع لك عطراً من عصير " المجنونة " . سأرسم وجهك على بريق الماء في بركتي .
سأعزف كل ليلة تحت ضوء القمر " نون على عين ".
سأقول لك " أحبك" في كل صباح قبل الذهاب الى الجامعة...
سأشتت تفكيري بك كي أطالع بعضاً من الشوق بالقرب من عينيك ...
والشئ الأخير الذي سأقوم به هو أن أحفر تاريخ زواجنا في السطر الاول من نوتات جدّي...

على امل ان يبقى الحب داركم الاول و الاخير.
اسال الله ان يعمم بينكم المودة و الرحمة.
صديقتي كل التوفيق .

🎉 لقد انتهيت من قراءة تشرين 🎉
تشرينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن