في الحفل

206 13 1
                                    

كذب

ليونيد أندرييف 

ترجمة محمود البدوي


(أنت كاذبة! أنا أعرف أنك كاذبة!)

(لماذا تصيح هكذا؟ أمن الضروري أن يسمعنا الجميع؟)

وكذبت مرة أخرى فما كنت أصيح كما ادعت، وإنما كنت أتكلم بكل هدوء ورقة. أمسكت يدها وأخذت أحدثها في لين وهدوء، والكلمة السامة: (كذب) تفح حولي فحيح الحية الصغيرة.

(واستطردت تقول: (أحبك... ويجب عليك أن تكون على ثقة تامة بي، ألا يقنعك هذا؟) وقبلتني ولكني لما أردت أن أطوقها بذراعي وأضمها إلى صدري لم أجدها: كانت قد أفلتت مني وبارحت الممر المظلم، فتبعتها إلى الغرفة التي أخذ الحفل البهيج فيها يقوض خيامه، ومن أين لي أن أعرف - في مكان كهذا - أين أنا! لقد طلبت مني المجيء إليه فجئت، ورأيت الناس يدورون حولي مثنى مثنى طول الليل ولم يتقدم إلي أحد ولا خاطبني إنسان. كنت هناك غريباً عن كل الناس، جلست في ركن يقرب من العازفين على الآلات الموسيقية وفم البوق النحاسي الضخم يوجه في خط مستقيم إلي. . . وسمعت في ناحية شخصاً سجيناً يزمجر ويضحك بعد كل دقيقة في هزة وخشونة ويصيح:

(هو. . . هو. . . هو. . .).

وكانت تقرب مني من حين إلى حين سحابة بيضاء عطرة. كانت هي. . ولم أكن أدري كيف دبّرت بمهارة فائقة ملاطفتي وهي متقية أعين الناس، ففي ثانية خاطفة ضغط كتفها على كتفي، وفي لحظة قصيرة خفضت بصري فاستطعت أن أرى الجيد الأتلع والدثار الأبيض الضيق العروة. . ولما رفعت طرفي رأيت جانب الوجه الأبيض الصارم الهادئ كوجه الملاك فوق مقابر الموتى، فوق مقابر المنسيين من الموتى، رأيت عينيها. . . كانتا نجلاوين ساكنتين حبيبتين تتعطشان للنور. . تحف بهما دائرتهما الزرقاء، وقد بر فيهما إنساناها في قتامة. وكنت كلما نظرت إلى هاتين العينين أراهما على حال واحدة لا تتغير: سوداوان عميقتان لا يدرك كنههما، وإذا ما نظرت إليهما ولو نظرة قصيرة اشتد وجيب قلبي، ولكني لم أشعر قط بمعنى اللانهاية بمثل هذا العمق وهذا الخوف الذي شعرت به الآن؛ ولم أعرف مطلقاً قوتها كهذا الحد القوي الجارف. شعرت خائفاً متألماً أن حياتي كلها غدت كشعاع ضئيل من النور ابتلعته عيناها، حتى أصبحت غريباً عن نفسي فارغاً أجوف غالباً في عداد الموتى. . . ثم بارحتني وخلفتني وحيداً وأخذت معها حياتي. . حياتي كلها، ورقصت ثانية مع رجل وضيء الوجه طويل متعجرف، أخذت في انقباض وحزن أنعم فيه البصر وأدرس أجزاء جسمه، وشكل نعليه، وعرض كتفيه المرتفعتين، وخصل شعره المتموج المنتظم. والرجل بنظرته غير العابئة ولا المكترثة ولا الباصرة يلصقني بالحائط، أصبحت في نظره مخلوقاً تافها كالحائط نفسه.

ولما أطفأت الشموع تقدمت نحوها وقلت:

(حان وقت العودة. . سآخذك إلى المنزل).

فاستغربت وقالت: (ولكني. . . ذاهبة معه!)

وأشارت إلى الرجل الطويل الجميل الذي لم ينظر إلينا مطلقاً ثم جرتني إلى غرفة خالية من الناس وقبلتني. فقلت بهدوء ورقة:

(إنك كاذبة).

فأجابت: (سنتقابل غدا. . . لا بد أن تأتي. . .).

كذبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن