الفصل السادس والأخير.

201 24 24
                                    


مرّ شهران مُنذُ انتهاء اختباراتها، وها هي الآن تجلِس على صخرةٍ أمام شاطئ البحر. تستنشِق هواءه فيتخلل أعماقِها، يُنعشها ويُنقّيها. لطالما أحبّت البحر وأحبّت فكرة العَيش بجانبه، ولكن وجود زوجة أبيها كان يحول دون ذلك، فـبُشرى كانت تُفضّل العَيش بالقُرب من عائلتها لكي تأخُذ برأي أُمها في كل كبيرةٍ وصغيرة.

نفضَت تلك الذكريات من عقلها، هي في مكانٍ جديد، رُبما لن يعُود شيءٌ من الماضي، ولكنّها تتمنى الحصول على بدايةٍ جديدة أفضل.
تستطيع القول أنّها قد تأقلمت على الحياة هُنا، فالمدينة أقلّ ازدحاماً بالبشر والمَركبات. وبجانبها البَحر لتجلس أمامه وقتما شاءَت، وقد قضَت الكثير من الوقت برفقته.

"من يشغِل عقلك يا جميل؟" وصلها صوتُ كوثَر فابتسمت وهي تستدِير لها.
بعد أن تمّ خطبة كوثَر ووالدها قبل سفرهما، أتت معهما في آخرِ لحظةٍ. لمْ يُرحب والدها في البداية بفكرةِ فترةِ الخطوبة، فهُو لم يعُد شاباً والشِيب ينساب بين خُصلاته كـجداولِ ماءٍ صغيرة - كما وصفته خطيبته - ولكن كان ذلك رأيُ كوثَر، فظلّت تُخبره بغنج أنّها ستكون المرة الأولى والأخيرة لتختبر هذه التجربة، فلِما يحرمها منها! وبالطبع، أمام غنجها، لم يقوى على الرفض.

"لا شيء، فقط كُنت أُفكر لما لم اتعلّم السباحة حتّى الآن، فأنا أرغب أن تغمُرني مياه البحر كما يغمُرني هواءه." قالت بهدوء لتبتسم لها كوثَر بينما تمسح على شعرها القصير.

"هل يُمكنكِ أن تذهبي لعربَة المُثلجات على الطريق الرئيسي لتُحضري لنا البعض؟ الجو حار وللتو وصلت، قدماي تؤلماني." ادّعَت كوثَر الألم وهي تُمسد قدمها بيدها.

"سلامتك من ألم القدم، كوثَر. مازال عودُكِ أخضر!" قالت زهرَة بينما تنهَض لارتداءِ حذائها وتبدأ بالسير على الرمال.

أحضرَت المُثلجات وعادَت في الاتجاه الذي أتت مِنه، ولكن الغريب أنّها لمْ تجد كوثَر!
وصلت للصخرة التي كانت تجلس عليها وأخذَت تنظُر حولها، لرُبما ذهبت كوثَر للتمشية.
وبينما كانت تتلفت بحيرةٍ، حضرها صَوتٌ كادت تهلَك لاشتياقها له.

"ممم مُثلجات فانيلا!" التفتت بسُرعة كادت أن تُفلت المُثلجات من يدها.

الأُستاذ بَدر! ظنّت أنها لنْ تراه مُجدداً بعد انتقالها. وعلى مَن تكذب! فيومياً كانت تتمنّى حدوث معجزةٍ ما ليلتقيا.

كان ساحراً كعادته، يرتدي بنطالاً باللون البيچ وقميصاً أبيض يتحرك حول جذعه بسبب الرياح الصيفية وتتحرّك معها خُصلات شعره المموجة.
توقّفت الكلمات في حلقِها وتوقّفت أنفاسها أيضاً. لقد اشتاقت له، ورؤيته الآن كانت كالحُلم، حُلماً جميلاً راودها طيلة الشهرين الماضيين.

قاطَع شرودها به تقدُّمه نحوها. وما إن أخذَ يدها بين يده حتّى ارتجفَت وابتعدت تُحرك رأسها يميناً ويساراً.

"لا.. لا تقترب، لمَا ظهرتَ الآن؟ ألمْ ينتهِي الأمر؟ ألمْ يُنهي والدي الأمر وأنتَ وافقتَه ورحلت؟" كانت تهزّ رأسها بنُكرانٍ وكأنّها غير واعية، فهي لا تُريد منه الاقتراب مرةً أُخرى لتذوق مرارة الفُقدان للمرة الثانية.

"زهرَة، والدُكِ لمْ يرفُضني يوماً،" نظرَت لعينيه أخيراً بتشتُت، "لقد رفضَ المبدأ، وأنّي قد أقسمتُ قسماً مُنذ امتهنتُ التدريس. كعلاقة طبيبٍ بمريضته، فهي في شرعِ القانون مُحرمة." من المفترض أن يزيل كلامه القليل من تشتُتها ولكنّه دون قصدٍ زاده أكثر.

"وما الذي تغيّر الآن، أُستاذ بَدر؟" تمتمت بصَوتٍ مسموع. ابتسم لها وهُو يُوبخ نفسه بسبب استمتاعه بتشتُتها اللطيف.

"أولاً، توقّفي عن مناداتي بـ 'أُستاذ'!" نقرَ أنفها بسبابته، "ثانياً، أنتِ لمْ تعودِي طالبتي بعد الآن." همس لها بابتسامةٍ مُحببة. ولمْ تستطِع هي منع توهُج خدّيها.
لمْ تدرِي بما تُجيب، وكيف من المُفترض أن يكون رد فعلها.

"أساساً لمْ تعودِي طالبتي مُنذُ انتقلت من جامعتك إلى هُنا، ولكنّي اردتُكِ أن تُكملي دراستك وأن تتخرّجي بدون تشتُت وأن يكون تركيزكِ بالكامل مُنصباً على دراستك فقط." لقد وضحت لها الأمور الآن، ولا تدري هل تحترمه أكثر لتفكيره بها، أم تغضب منه لأنّه جعلها تمُر بكُل هذا.

"ولأُصارحُكِ القول، لمْ استطِع أنا أيضاً البقاء في الجامعة وإكمال دورِي كأُستاذٍ لكِ وكأنّ شيئاً لم يكُن،" كانت صامتة طوال الوقت، وقد أرادَ هُو معرفة ما تُفكر به، "قُولي شيئاً، زهرَة." همسَ بيأسٍ.

حمحمت ليخرُج صوتها واضحاً، "هل تُخبرني أن أبِي كان مُشتركاً في هذه الخِطة؟" سألت بدهشةٍ بعدما توصّلت للنتيجة.

"تقريباً، وإلّا فالتُخبريني، برأيك، لما أحضركِ إلى هُنا بالذات بعد تخرُجكِ مُباشرةً؟" ابتسم بإستمتاعٍ وهو يُشاهدها تُحاول إيصال النقاط ببعضها، "وأمّا لقائنا الآن، فهُو تدبير السيدة كوثَر." ضحكت هِي بخفّة عندما تذكّرت إصرار كوثَر أن تذهب هي لتُحضر المُثلجات، مُدّعية أنّها أصبحت عجوزاً.

المُثلجات!

نظرت ليدها لتجِد المُثلجات قد ذابت، وبعضٌ منها سالَ على يدها دون شعورٍ منها.

"أوه يا إلهي، لقد ذابت." عبست بلُطف وهي تنظُر ليدها، وكأنّها لن تستطِيع شراء غيرهم.

"لا بأس، أستطِيع لعقِها مِن يديكِ، فستكون أشهى على كُلّ حالٍ." غمزها بَدر بإستمتاعٍ وقد توهّجت وجنتاهَا بسُرعةٍ رهيبة، لتوكز كتفه وهي تُتمتم 'اختشِي'، ليضحك بصوتٍ أعلى.

... تمّت.

🎉 لقد انتهيت من قراءة | حكاية أبيض واسود | 🎉
| حكاية أبيض واسود |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن