في داخل المدينة

3 4 0
                                    

داخل محطة الحافلات كانت تلك الفتاة ذات الجلباب الوردي واقفةً برفقة رجل ذو بشرة سمراء و عيون عسلية
كانت ملامحه مختلفة تماماً عن  تلك الفتاة ذات البشرة البيضاء الصافية و العيون التي تنافس السماء في زرقتها

تنهدت تلك الفتاة بانزعاج عندما لاحظن كلامح الحزن التي بدأت ترتسم على وجه والدها
" أبي.... أرجوك توقف عن هذا... أنا لن أختفي من على وجه الأرض ....أنا ذاهبة للجامعة فقط...... هم لن يقوموا بأكلي...... أبي أنا الآن في الثامنة عشرة من عمري.... أنا لم أعد تلك الطفلة الصغيرة التي تعتمد عليك في كل كبيرة و صغيرة من حياتها... "

تنهد ذلك الرجل الأسمر بعمق
" إذا غيرت رأيك فلا تنسي اخباري.... أنا حقاً لست مرتاحاً لذهابك إلى مدينة مثل قسنطينة"

قطبت تلك الشابة حاجبيها ...لكنها رسمت ابتسامة متهكمة على وجهها
" هل أنت خائف من أنني سأتجاوزك يا دكتور عبد الرحمن؟  ..... أنا حتماً سأصبح طبيبة تفوق شهرتها شهرتك يا حضرة الدكتور... أيضاً لا تنس أنك أيضاً درست في قسنطينة و هناك التقيت بوالدتي .....أم أنك نسيت يا حضرة الدكتور؟... فالمكان ليس غريباً عنك"

ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه ذلك الرجل المدعو بعبد الرحمن
" يا لك من فتاة شقية!  حسناً لا بأس افعلي ما تشائين و لكن لا تنسي أن تعلميني بكل ما يحدث معك فأنت في الأخير تظلين ابنتي الوحيدة و المدللة"

أومات له تلك الفتاة بالايجاب و ركبت الحافلة المتوجهة إلى مدينة قسنطينة و كلها شوق لعيش مثل هذه المغامرة الشيقة

في الجهة المقابلة كان ذلك الرجل يراقب الحافلة التي كانت تأخد ابنته المدللة و الوحيدة بعيداً عنه
" آه منك يا سحاب.... لو كان الأمر بيدي ما تركتك تغادرين هذه المدينة و لكن.... "
ارتسمت ابتسامة غريبة على وجهه ليقاطع أفكاره رنين هاتفه
" إذن يا حبيبتي  مالذي تريدين معرفته؟ "

" توقف عن مزاحك الغبي و أخبرني هل غادرت سحاب بأمان؟  هي لم تبك صحيح؟  آه يا صغيرتي اللطيفة... هذا كله من تدليلك لها... لماذا سمحت لها بالدراسة في مكان بعيد مثل قسنطينة ؟"

اتسعت ابتسامة ذلك الرجل
" هيا مريم لقد كبرت ابنتنا و لم تعد تلك الطفلة الصغيرة التي دائماً ما تكون بحاجتنا لقد آن الأوان لعصفورتنا أن تحلق خارج العش.... آه قبل أن تقومي بشتمي.... علي قطع الاتصال  يا حبيبتي فهناك اتصال وارد من المشفى "
أغلق الخط بسرعة
لترتسم أخيراً ملامح الجدية على وجهه
" أجل.... أنا قادم في أسرع وقت"
تنهد بهدوء ثم ركب سيارته السوداء
استغفر ربه محاولاً طرد ذلك الانزعاج الذي بدء يتسلل إلى قلبه فيبدو أن العمل سيظل يلاحقه حتى في فترة اجازته
……………………………………

عيون عسلية كبيرة محاطة برموش سوداء كثيفة
وجنتان عاليتان و أنف مستقيم
بشرة تميل للسمرة و لكن خالية من أي عيب
كانت صاحبة تلك المواصفات تحدق في المرأة الواقفة أمامها بينما علامات الانزعاج لا تزال مرسومة على وجهها
" أمي لقد أخبرتك بما أريد لذا من الأفضل لك أن تبتعدي عن طريقي "

تنهدت تلك المرأة التي و رغم صغر سنها إلا أن علامات المرض و التعب قد نالت منها و جعلتها تبدو في سن أكبر من سنها
" أميرة أرجوك كفانا عناداً...كلنا نعلم أن والدك قد مات ...لقد انتهى كل شيء و لا فائدة من نبش صفحات الماضي ...  ارجوك أميرة لا تتهوري ......أنت تعلمين بأنه و باختيارك للذهاب إلى كلية الشرطة فهذا لا يضمن لك الوصول إلى سجلات بمثل تلك السرية.... هيا حبيبتي لا يزال الوقت مبكراً و يمكنك أن تغيري شعبتك... "

  ارتسمت علامات الانزعاج على وجه تلك الشابة
" مالذي تتفوهين به يا أمي؟  منذ متى كان أصحاب الحق يسكتون عن حقهم؟  أمي أنت تعلمين بأن والدي قد تم اعتقاله بهتاناً و ظلماً  ... أنا سأنتقم حتماً لحق.والدي المهضوم و سأسترجعه.."

تنهدت تلك المرأة باستسلام فلا أحد يستطيع الوقوف في وجه عناد ابنتها المجنونة و كل هذا يعود إلى التدليل الذي تبقته عندما كانت صغيرة
لقد كانت أياماً هادئةً
فقط هي و زوجها و ابنتها الصغيرة ذات الستة أعوام
إلا أن القدر كان له رأي آخر
مسحت تلك الدمعة التي كانت ستنفلت من عينيها الخضراوتين
رفعت عينيها المليئتين بالدموع نحو تلك الفتاة التي كانت تستعد لمغادرة جوارها
" إلى اللقاء أميرتي الجميلة... "

ابتسمت تلك الفتاة بشقاوة
" باي باي أمي.... أعدك بأنني سأصبح ملازمة شهيرة و سأكون السبب في اظهار براءة أبي للعيان .... انتظري فحسب أمي... انتظري فحسب"

………………………………………

عيون ناعسة محاطة برموش سوداء كثيفة ينافس لونها خضرة أوراء الشجر
بشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة تضفي عليها براءةً لا تقاوم
أنف صغير محمر من شدة بكائها
و شفتان صغيرتان مكتزتان كانت تعض عليهما يأسنانها التي تنافس اللئالئ في بياضها بينما دموعها بقيت تنزل من تلك العيون البريئة ببطئ
كانت تبكي بضعف
تبكي بألم جراء الضرب المبرح الذي تلقته من شقيقها
لقد كان حلمها أن تدرس الهندسة المعمارية في جامعة قسنطينة
فبدلت قصارى جهدها في الدراسة
سهرت الأيام و الليالي لتحقق هذا المراد
و بالطبع كانت النتائج مشرفة
و لكن شقيقها وقف في طريق حلمها بالمرصاد
كل هذا بسبب قضية الشرف و بعد المنطقة
و لكنها تعلم علم اليقين أن السبب الرئيسي لرفضه الدراسة في قسنطينة هو رفضها للزواج من صديقه النسونجي
تنهدت بألم
و لكن يداً حانيةً ضمتها إلى صدرها و بدأت في المسح على شعرها الأسود الناعم بلطف

" أنظري يا زهرة انت تعرفين شقيقك و مزاجه الناري... لماذا لا توافقين فقط على الخطوبة و بعدها تقررين إن كنت ستستمرين في هذه العلاقة أم لا "

" أمي أرجوك افهميني...... أنا لا أريده ...أنا ليست لي أية مخططات للزواج.... انا فقط أريد اكمال دراستي أنا أريد تحقيق حلمي....  انا لا أريد أن يرتبط مصيري بشخص منحرف مثل زهير..... أمي لقد أخبرتك بكل ما سمعت عنه من صديقاتي ....هو لم يعد ذلك الفتى البريئ الذي لطالما قرم بزيارتنا ... صحيح أننا كنا أصدقاء طفولة و لكن هذا لا يعني بأنني سأربط مصيري به"

أطلقت تلك المرأة تنهيدة طويلة ثم ابتعدت عن ابنتها للحظات
و في الأخير عادت و في يدها حقيبة سفر
" يمكنك الذهاب حبيبتي الصغيرة..... لقد استشرت والدك في الموضوع البارحة و وافق على امر دراستك في قسنطينة....  ها هي تذاكر الحافلة التي ستقلك إلى هناك... أسرعي قبل ان تفوتك الرحلة"

توقفت تلك الفتاة عن البكاء فجأة
" هل أنت متأكدة مما تقولينه؟  هل حقاً وافق أبي على ذهابي؟  ...لكن لحظة متى اتصل والدي؟  و لماذا لم تخبريني بذلك؟  ...انت تعلمين بأنني اشتقت إليه كثيراً"

لم تكمل كلامها فقد دفعتها أمها بسرعة نحو غرفتها
" ليس هناك وقت للشرح أسرعي و ارتدي حجابك و غادري المكان قبل أن يعود ذلك المجنون المسمى بشقيقك... لأنني متأكدة من أنه سيضرب أوامر والدك عرض الحائط و لن يسمح لك بالمغادرة "

أومأت لها تلك الفتاة الصغيرة بالإيجاب  و نهضت من مكانها بسرعة فوالدتها على حق... فلا وقت لها لتضيعه لأنها متأكدة من أن شقيقها سيحبسها هذه المرة في غرفتها إذا اكتشف ما تخطط إليه
غيرت ملابسها و ارتدت حجابها الشرعي ذو اللون الأزرق السماوي
و لكن و قبل مغادرتها للمنزل ألقت نظرة أخيرة على والدتها
" امي هل أنت متأكدة مما تقومين به؟  أن تعرفين أخي و مزاجه الناري و قد يفعل شيئاً متهوراً ....أمي أنا لا أريد أن يقوم بإيدائك بسببي ..انا أفضل أن أتزوج من ذلك الأحمق على أن أفسد العلاقة الطيبة التي تربطك بذلك المجنون"

دفعتها تلك المرأة بلطف
" أنظري يا زهرة من الأفضل لك الذهاب بسرعة فموعد عودة شقيقك من عمله قد اقترب.... و توقفي عن التحامق ....فذلك الأحمق و رغم جنونه إلا أنه لن يتجرء على المساس بشعرة من رأسي فأنا أبقى في الأخير والدته التي قامت بانجابه.... كما أنه لا يمتلك أي حق في الاعتراض بما أن والدك قد وافق بالفعل على أمر دراستك "

ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجه تلك الفتاة و أومأت لها بالإيجاب لتغاذر المنزل نحو المدينة التي  ستحقق فيها حلمها بأن تدرس مادتها المفضلة

…………………………………………

قبل حوالي عشرين سنة
في مدينة قسنطينة
و بالضبط على أحد الكراسي المقابلة للمستشفى الجامعي
كان الجو ربيعياً مشمساً
و الناس كانوا يتحركون بسعادة غير عابئين بتلك الشابة الشقراء التي كانت جالسة على أحد الكراسي الموزعة بنظام في ذلك المكان
كانت تبكي بشدة
كيف لا و هي قد تسببت في كارثة عظيمة
أجل هي متأكدة من انه لو اكتشف والديها ما قامت به سيقتلانها بدون أن يرف لهما جفن
كيف لا و هي قد قامت بتلطيخ سمعتهما
و الأسوء من كل هذا أنها الآن في بلد غريب لوحدها لا تعرف فيه أي أحد حتى أنها لا تجيد التحدث بلغة سكانه
توقفت فجأة عن البكاء عندما أحست بأن هناك شخص يقف أمامها
رفعت عينيها الزرقاوتين المليئتين بالدموع
دموع الألم
دموع الندم و الخيانة
نعم الخيانة فكل هذا حدث بسبب ذلك الشاب الذي كانت تطلق عليه اسم حبيبها
ابتسمت بألم فمن كان يتوقع أنه كان مجرد محتال قام بتدمير شرفها و سلب أموالها
مسحت دموعها بقسوة عندما تعرفت على الواقف أمامها
ضحكت بألم عندما تذكرت لقاءها الغريب به
و تحديره لها من ذلك الشاب
هي تذكر بأنه أخبرها بصريح العبارة و بلغة فرنسية ممتازة بأن ذلك الشاب الذي اعتبرته حبيبها هو مجرد مخادع يحاول الاستيلاء على أموالها
بالطبع هي تجاهلته لأنها استطاعت أن تستشف من نظراته التي كان يرمقها بها مدى الإعجاب الذي كان يكنه لها
أبعدت تلك الأفكار السوداوية عن ذهنها
لتتكلم بلغة فرنسية متقطعة غلبت عليها اللكنة الألمانية
" إن كنت هنا لتسخر مني و تخبرني بأنك قد قلت لي هذا سابقاً فلا داعي لذلك.... أريد أن ابشرك بأن كل ما حذرتني منه قد وقع و الآن أنا لا أمتلك أي سبب للعيش.. لا امتلك لا المال و لا حتى الشرف... و انا...  ".

" هل تقبلينني زوجاً لك؟ "
قال تلك الكلمات بلغة ألمانية جيدة

تجمدت تلك الشابة للحظات فهي لم تتوقع أنه كان يجيذ التكلم بلغتها
تذكرت فجأة تلك الاهانات التي كانت توجهها له بلغتها الأم ظناً منها أنه لا يفهم ما تقول
احمرت و جنتاها من الخجل فالشخص الذي كانت تسخر منه هو نفسه الشخص الوحيد الذي بقي يجانبها بعد أن تخلى عنها الجميع
أطلقت تزفيرة متألمة لتكمل بلغتها الأم
" أنا لا أحتاج شفقتك كما أنني لن أغير ديني من أجل وقح استغلالي مثلك..... أنا لست يائسة لدرجة تجعلني أتزوج من مجنون متخلف مثلك"

تنهد ذلك الرجل باستسلام
" أياً يكن... افعلي ما تريدينه... "
أخرج مذكرة صغيرة بغلاف جلدي أسود ثم كتب فيها عدة أرقام و أسماء و أعطاها إياها
" الرقم الذي في الأعلى هو رقم هاتفي ....إذا حدث و أن غيرت رأيك بشأن الزواج بي فهاتفي دائما مفتوح.... أما بالنسبة للرقم الذي أسفله فهو رقم هاتف ابنة عمي نورة إذا أردت أن تجدي صديقة للدردشة او مكاناً للمبية فهي تسكن في شقة قريبة من هنا و لن تمانع أن تعيش مع فتاة لطيفة مثلك... و بالمناسبة هي لا تجيد التكلم باللغة الألمانية لذا ستضطرين للحديث معها بلغتك الفرنسية المحطمة"
قال ذلك بصوت هادئ و رزين و ابتسامة مستفزة مرسومة على شفتيه مما جعل هذه الأخيرة تفقد رباطة جأشها
لتصرخ بصوت مرتفع
" تباً لك و لغرورك.... يا لك من... "

لم تكمل كلامها فقد قاطعها بوضعه تلك الورقة بين يديها ثم غادر دون أن ينبس ببنت شفة مما أجرح كبرياء هذه  الأخيرة
أمسكت بتلك الورقة و حاولت تمزيقها و لكنها عدلت عن تلك الفكرة في آخر لحظة
أمسكت بتلك الورقة و وضعتها في جيب سروالها ثم نهضت من مكانها متجهة نحو الفندق الذي كانت تعيش فيه
نعم هي قد اتخدت قرارها
هي ستعود إلى منزلها و ليحدث ما يحدث
نعم هي تمتلك عملاً و أصدقاء و لن تتخلى عنهم فقط بسبب محتال سرق منها عذريتها
هي ستبني نفسها بنفسها و عندما يحين الوقت ستنتقم منه شر انتقام

اثارت تلك الأفكار حماسها لتنهض بسرعة من مكانها راسمة على وجهها ابتسامة كبيرة
صرخت بصوت مرتفع
" إيثان أيها الوغد المخبول.. انتظر و سترى ...سأجعل حياتك جحيما لا يطاق... سأجعلك تعض أناملك ندمًا لعبثك معي.... أنت لا تعرفني.. أنا هي ماري شافينين... سأحرص على جعل هذا الاسم محفوراً في ذاكرتك القذرة أيها القذر الكريه"
أحست بشعور من الراحة و الطمأنينة و دفعة من الحماس
على الأغلب ان هذا يعود للأدرينالين الذي بدأ يتدفق بقوة في جسمها
غادرت المكان بخطوات سريعة متجاهلة تلك العيون التي كانت تحدق فيها بتوجل فكل ما يهمها الآن هو تحقيق خطتها التي رسمتها تواً

I Want To Say that I Love Youحيث تعيش القصص. اكتشف الآن