<P align=center> </P>
<P align=right>الروايه للكاتبة / بشائر محمد .. وتم نشرها في جريدة الوطن</P>
<P align=right> </P>
<P align=right> </P>
<P align=right>مذكرات مغتربة في الأفلاج (1) <BR><BR>الرحلة رقم 627 <BR><BR>كان مكبر الصوت في محطة النقل الجماعي صاخبا .. والصالة تعج بالمسافرين والمنتظرين لرحلاتهم . أحدهم نام متوسدا حقيبته، والآخر يحاول الاستمتاع بوجبة سريعة أبعد ما تكون عن المتعة. <BR>ويتوالى النداء بعد النداء للرحلات المغادرة، والمضحك في الأمر أنه يعيد النداء تسع مرات، وفي كل مرة يقول إنه الأخير، لكنه ومع كل هذا يفشل في كسر حالة الجمود والملل التي تهيمن على هذه المحطة ..، ونصغي جيدا <BR>النداء الأخير (إيه هين) لركاب الرحلة 627 والمتوجهة إلى حرض الحوطة الأفلاج وادي الدواسر السليل .. الخ <BR>ياسلام هنا أناس آخرون يعرفون الأفلاج . <BR>ثم ينادي بلا مبالاة على الركاب المسافرين الذين أيضا بدورهم أبدوا اللامبالاة في الالتزام بالوقت لأن تأخرك عن موعد رحلتك (موب نهاية العالم) الباص بيوقف ينتظرك الين تجي ، تسافر يعني تسافر. <BR>الأغلبية كانت من المعلمات المغتربات على ما أعتقد <BR>سيدات يعلقن على أكتافهن حقائب بثقل أوزانهن، وبعضهن يحملن أطفالا صغارا، وأخريات اصطحبن الخادمة. علها تساعدها في هذا الحمل الثقيل غربة وطفل ومأساة. <BR>الرجال يتفقدون حاجات نسائهم قبل الرحيل .. هذا يحمل كيساً من الفطائر والعصير، وآخر يدس في يد ابنته نقودا، وثالث يوصي زوجته أن تنتبه لطفلتها ذات السبعة أشهر . هؤلاء الرجال هم الذين يراهم المجتمع أنصاف رجال .. أو عديمي الرجولة في أسوأ الأحوال.. <BR>فتسمع أحاديث المجالس تدور حول من ترك زوجته أو ابنته تغترب من أجل المال، ويصفونهم بأبشع الأوصاف وأحقرها. <BR>هؤلاء الرجال ينقسمون إلى عدة فئات : <BR>إما رجل طامع يمني نفسه بعد نقل زوجته براتبها ومزايا أخرى يحلم بها <BR>وإما مثابر ومقتنع بحق المرأة في إثبات وجودها، ولو كان عن طريق هذا الخيار الوحيد. لذلك فهو يصم أذنيه عن توبيخ المجتمع . <BR>وإما لا مبال أصلا سواء ذهبت زوجته أو قعدت. <BR>وإما مستسلمون خاضعون لرغبات وإلحاح بناتهم الذي وصل إلى درجة التهديد بالانتحار، كوالدي ووالد ليلى. <BR>وركبنا الباص وتخيلت في الدقائق الأولى أنني سوف أختنق، فقد خصصت المقاعد الخلفية للرجال والأمامية للنساء والعوائل. وكانت تنبعث من الخلف روائح الدخان والعرق والمعسل خاصة لمن أتوا من مكان بعيد، وكانت منطقتنا (الأحساء) محطة للاستراحة فقط ، وأثناء الطريق يحدث أحيانا أن يمر أحد المتطفلين مخترقا صفوف العوائل والسيدات بحجة محادثة السائق أو طلب كوب من الماء، وهو يدعي الترنح بتأثير المطبات حتى يسقط على إحدى الجالسات أو بجانبها، والنقل الجماعي مشهور عند العامة بأنه مكان هؤلاء الهمجيين. لذلك كنا نحرص أن نكون بجانب النافذة واضعين الحقائب على الكرسي الفارغ . <BR>لكن لم أعد أملك خيار التراجع وأبي مريض الضغط والروماتيزم والمفاصل ضحى بنفسه من أجلي، وقرر مرافقتي في رحلة كهذه .. كنت أفكر به طوال الطريق .. <BR>أعلم كم يعاني، وأعلم كم يحاول إخفاء ذلك عني. لذلك لن أسامح نفسي لو حدث له مكروه لا سمح الله . <BR>وواصل الباص رحلة التحطيم التي بدأها الدهر في عظام والدي ووالد ليلى حيث استمرت الرحلة تسع ساعات متواصلة في طرق برية وعرة وموحشة لا يتخللها إلا التوقف لأداء الصلاة، والتي نشهد قبلها قي أغلب الرحلات عادة خلافا وملاسنة حادة بين الملتزمين وغيرهم. حيث يطلب الملتزمون من السائق التوقف للصلاة في وقتها وفي أي مكان في الصحراء. بينما يرفض السائق التوقف إلا في محطات معينة حفاظا عل أرواح وسلامة الركاب. حتى إننا شاهدنا ذات مرة أحدهم وهو يشهر سكينا في وجه السائق إن لم يتوقف. حيث استجاب له قائد الباص بالتوقف، وأدى هذا الرجل الصلاة وحده في الصحراء، ولم ينزل أي من الركاب لكنه سلّم لأول نقطة تفتيش، واحتجز هناك، وواصلنا نحن رحلتنا وصلواتنا التي يفضل الرجال فيها التيمم على دخول دورات المياه ( النتنة ) التي تسكنها الأوبئة والحشرات خوفا من الأمراض، وبينما كان الرجال يؤدون الصلاة جماعة كنا أنا وليلى نرقبهما من خلف الزجاج حيث لم نجرؤ حتى على النزول خوفا وذعرا . <BR>هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها كيف يكابر أبي ويتجلد ، كيف يتعالى على آلامه ويصر على أن لا أنزل مع قافلة النساء إلى البقالة في إحدى المحطات ويذهب هو لإحضار ما نريد، ليقول باسما وهو على حافة الانهيار عندما أسأله ( عسى مو متكلف يابوي الطريق متعب ) أقول أنا ماعلي خوف ، خوفي عليك أنتي وزميلتك . <BR>فيرد والد ليلى أيه والله الخوف عليهن .. وقبل أن تنحدر دمعتي تمتمت ليلى في أذني كالعادة .. وييييييييين اللي ماعليكم خوف استرح بس أنت وياه ياعسى جزاكم الجنة حرقتونا بالشاي قد ماتنافضون من التعب . <BR>فجأة .... ارتفع صوت أحد الرجال البدو بالحداء من آخر الحافلة ، كان صوته جميلا ومؤثرا . هذه هي المرة الأولى بالنسبة لي التي أعرف فيها الخبايا المؤلمة لجملة ( سافرنا برا ). ليس لأنني لا أسافر إلا بالطائرة بل لأنني لم أسافر في حياتي قط . </P>