الفصل الخامس

438 14 1
                                    

وأنا...

أريد... أريد أن أحيا وأن أنساكِ... أن أنسى علاقتنا الطويلة

لا لشيء, بل لأقرأ ما تدونه السماوات البعيدة من رسائل

لــ محمود درويش

كان يقف في بستان مليء بأشجار الماجنوليا ومختلف أنواع الزهور ذات روائح عطرة, وكانت هي تقف أمامه ترتدي فستانا أبيض اللون ينسدل على جسدها ليصل حتى أطراف قدميها مزخرفا من عند الصدر ببعض النقشات الناعمة لتزيدها أنثوية بابتسامة ناعمة أضاءت معالم وجهها كله, ابتسامة فعلت الأعاجيب بقلبه الذي لا يحتاج لتشجيع منها أبدا, شعرها كان منسابا كسلاسل من عسل مصفى تتلاعب به الرياح حولها وكأنها فرحة بملمسه الرائع, شعر بهدوء بالغ يستقر بنفسه وهو يراقبها تتنقل بخفة في البستان... تلامس بتلات إحدى الورود... تدندن لحنا لم يتعرف عليه من بين أنفاسها... ترسل له نظرات باسمة بين لحظة وأخرى, وفجأة تجمدت في مكانها تنظر إليه وهي يدها زهرة قد قطفتها, لمعان الابتسامة يجف من عينيها حتى اختفى تماما لتستبدله بنظرات تصرخ بالغضب, لم يفهم ما الذي حدث لتتغير هكذا!! ولِمَ هذا الغضب الذي تنظر به إليه وكأنه أجرم بحقها!!! لحظات واختفى النور الذي كان ينشر دفئه في المكان, ونسمات الهواء التي كانت تداعب خصلات شعرها بنعومة اشتدت وانقلبت إلى ريح عاصفة, ومن حيث لا يدري ظهر شيء ما لم يتبين ماهيته وانقض على أندلس الواقفة أمامه لتتعالى صرخاتها, أراد التحرك وإنقاذها ولكنه شعر بأنه مكبل... العجز يسيطر عليه وهو لا يستطيع خطو ولو خطوة لإنقاذها من هذا الوحش الآدمي, مقاومتها تزداد تحت ذاك الوحش وصرخاتها تختلط بشهقات أدمت قلبه وهو يحاول الصراخ دون أن يخرج صوت من حنجرته, أخذ يحثها في داخله وهو يقول: هيا أندلس, لا تستسلمي لهذا الوحش... أنتِ أقوى منه!! أندلس أرجوكِ قاومي... أنا قادم لأجلكِ!!

ممدة على الأرض وذلك الوحش فوقها مكبلا ذراعيها, ليلتفت إليه ينظر له في عينيه تماما... ولرعبه كان الوحش يحمل وجهه هو!!!

يا إلهي!!! انتفض من نومه جالسا فجأة وهو يستعيذ بالله من ذلك الكابوس الذى رأه, وضع يده على قلبه يدلكه يحاول التخفيف من دقاته المتسارعة يشعر به يكاد يهرب من سجن ضلوعه بعيدا عنه وعن ذلك العذاب الذي يجبره على المرور عبره , نهض من فراشه دون أن يلقي ولو نظرة واحدة على تلك المرأة النائمة بجواره, ارتدى بنطال منامته وتوجه نحو الشرفة غير عابئ مطلقا بذاك الهواء البارد الدال على قدوم الشتاء للبلاد بخطى حثيثة, استند على سور الشرفة وهو يأخذ أنفاسا عميقة ليزفرها ببطء لعدة لحظات حتى شعر عقله يصفى من نوبة الرعب التي أصابته جراء ذلك الكابوس... ذلك الكابوس الذي لم يكن إلا تذكير لما حدث يوم اغتال فيه روح أندلس, لازال يكاد يسمع صراخاتها تملأ أذنه تؤكد على حقيقة واحدة أنه حقير بلا شرف, وضميره يصرخ به قائلا بأن لا حق له ببداية جديدة كما كان يوهم نفسه, إنه يستحق الموت لما فعله بها, ابتلع ريقه محاولا ترطيب حلقه الجاف كما لو كان صحراء, خدر بدأ بقلبه لينتشر في باقي جسده حتى رأى يده اليمنى ترتعش أمام عينيه دون قدرة منه على السيطرة عليها, اتسعت عيناه بذعر وهو يراها هكذا فما كان منه إلا أن قبض عليها بيده اليسرى بسرعة محاولا وقف ارتعاشها, وبعد عدة دقائق توقف ارتعاشها, جاءه خاطر مجنون بأن عليه الاستماع لصوتها الآن في هذه اللحظة... لم يهتم بأن الوقت متأخر وبالتأكيد لم يهتم بعقله الذي يصرخ فيه قائلا بأنه مجنون وأن عليه تركها وشأنها ويبتعد عنها, وبالفعل تحرك سريعا عائدا للغرفة وتناول جواله ليدلف للشرفة غافلا عن تلك التي استيقظت بسبب حركته في الغرفة ونهضت من فراشها وارتدت قميص نومها الملقى على الأرض تريد أن تطلب منه الدخول للغرفة حتى لا يصاب بالبرد, لكنها تجمدت في مكانها عندما راقبت توتر جسده وهو يضع الهاتف على أذنه ليقول بصوت خافت حمله النسيم لأذنيها ليكون كطعنة نجلاء في قلبها وكرامتها كأنثى: آلو... أندلس!!

في ظلال الشرق - ج1 من سلسلة ظلال -حيث تعيش القصص. اكتشف الآن