الفصل الرابع والعشرون ج2

348 13 0
                                    

وقفت قاهرة أمام طاولة الزينة الخاصة بها تضع اللمسات الأخيرة على زينتها, ثم علقت الأقراط التي أحضرها والدها لها في الظهيرة, تراجعت خطوتين للخلف حتى تستطيع أن تنظر لنفسها بعدما تحضرت, انتقلت عيناها ببطء من حذاءها الأحمر ذو الكعب المرتفع صعودا للفستان الرمادي الذي انسدل حتى منتصف ساقيها محتضنا قوامها في حشمة مخادعة, ارتفعت عيناها لعنقها الخالي من أي قطعة مجوهرات لتظهر بشرتها المرمرية وقد أظهر رقبة الفستان ذو الكتف الواحدة بياضها, عيناها تعلقت للحظات للأقراط المعلقة بأذنيها لتدمع عيناها قليلا, لتتمنى بحماقة أن تكون والدتها بجانبها... أن يكون هذا الكابوس كما كان في خيالاتها المراهقة سابقا حلما تبغى الوصول إليه, زينة وجهها التي تلخصت في كحل أسود حدد عيناها العسليتين ليزيد من بريق الغموض بهما وأحمر شفاه أحمر اللون أظهر اكتناز شفتيها, لم تستطع التهرب من النظر لشعرها الأسود المثبت في تسريحة بسيطة فوق رأسها كثيرا وقد انقادت إليه نظراتها كما لو أنه مغناطيسا, لا تعلم لِمَ منذ أن أعادت شعرها لهذا اللون وهي تشعر بالهشاشة, وكأن قاهرة ذات الأحلام الوردية قد عادت تتلبسها مرة أخرى, ارتعش الذعر بعينيها وهي تحاول البحث في مرآتها عن كاي التي تعرفها فلا تجدها, وكأن تلك القاهرة قد عادت فقط لكي تطرد كاي من داخلها متخلصة من قوتها التي أسندتها يوما في سنوات عجاف, للحظات تلبستها فكرة أن تمزق ما عليها وتهرب من هذا المكان عائدة لمنفاها حتى تلعق جراحها وحدها, هربت تلك الفكرة منها على صوت طرقات متتابعة على الباب لتلتفت ناظرة إليه, فتحت فمها تطلب من الطارق الدخول ولكنها صوتها اُحتُجِز بداخل حنجرتها غير قادر على الخروج, تنحنحت لتقول بصوت متحشرج قليلا وإن كان مرتفعا: تفضل!

وقف معز أمام الباب المغلق شاعرا بمزيج مرعب له من التوتر والخشية, أراد أن يدلف... وأراد أن يبتعد, تردد للحظات أخرى قبل أن يسمع صوتها معيدا عليه أمر الدخول فيحسم أمره ويفتح الباب خاطيا عدة خطوات قبل أن يتوقف مصدوما في مكانه, لقد كانت المرأة الواقفة أمامه وكأنها أميرة هاربة من الحكايات القديمة, رمش بعينيه وهو يرى قاهرة كما لو أن تلك الأعوام التي مرت لم تحدث قط, فكرة واحدة محملة بكل الفرح اللحظي الذي اشتعل بجسد مرت في عقله المعطل عن العمل... قاهرة عادت!!

ابتلع ريقه وهو يتحرك بخطوات بطيئة يخشى أن يتسرب هذا الحلم من بين يديه, ولم يكن حال قاهرة بأفضل منه مطلقا فقد ظلت مسمرة في مكانها تنظر له دون أن تتفوه بحرف وهي ترى تلك الأمنيات الحمقاء تتحقق, أسرتها عيناه التي لأول مرة منذ أن عادت لا ترى في عينيه سوى مزيج الغضب والاشمئزاز, رأت فيهما انبهار بها وشوق اشتعل لها, خافت أن تنطق بكلمة فيتبخر ما يحدث من حولها كسراب, وقف معز أمامها مباشرة لا يفصله عنها سوى نفس واحد وقد جعلها الحذاء مرتفع الكعب في موازته تماما رأسا برأس, لفحتها أنفاسه الدافئة وهو يهمس كما لو أنه يحدث نفسه: يا إلهي العزيز!

في ظلال الشرق - ج1 من سلسلة ظلال -حيث تعيش القصص. اكتشف الآن