يحمِل الشتاء بقايا المدائن معهُ

387 64 63
                                    

"متى ينتهي الشتاء؟"

لم أُخفِ ضيقي في نبرة سؤالي، والذي بات يزداد بازدياد كراهيتي للشتاء؛ فبالنسبة لي لطالما كان مرادفًا للجهد المضاعف والقوّة المتخاذِلة. لم يكن وسطًا، ولم أحبّ الشعور بالاختناق أسفل القطع الثقيلة من الملابس كي أجد دفئًا قد يُفسده خرق صغير فيها.
عادةُ تفكيري في جميع العراقيل للظروف كانت مصاحبةً لي في كلّ شيء. ولم يكُن الشتاء وحده ما يحمِل معه شعورًا متجمّدًا وتوقّعات مستعِرة بالخيبة.

لم يُجبني، واكتفى بأن نظر لي حال توقّفه، فتبعته بالمِثل لأجد أننا أمام نهر. وبعد بضع خطوات أخذها رأيته ينحني ويلمس سطحه الرقيق بكفّه، ولم أجده يجفل قبل أن يوضّح "إنها أدفأ من الهواء".

رمقني بسماويّتيه لوقت طويل، حتى أومأتُ وتقرفصت جواره لأغمسَ كفّاي كما فعل. شعرتُ وكأنني قد عدت لطفولتي، عندما راقبت الدوامات الصغيرة بعينٍ شاردة. الاختلاف الوحيد أنني لم أستمتِع بفعل ذلك ولم أشعر بالسعادة المطلقة؛ فقد عادت البرودة تأتيني من المياه، لأدرك أن حرارتها لم تعُد مؤثّرة؛ فنزعت يدي المبتلّة، وشعرت بالغثيان يعود مع تسارع نبضات قلبي.

لم أكن بحاجة للنظر لانعكاسي لأعلم حجم السواد المحيط بعيناي، لأنه كان ينبض في محيط رؤيتي، ويزداد مع طرفي لجفناي في كلّ ثانية.

"برأيكَ.." ابتعدتُ، وعدت أستفتح حديثًا لم أملك أدنى فكرة عن ما يتبعه، أو ما أصبو اليه من اجابة أكثر من الانشغال عن شيء سوى ما يعتريني.

صدر صوت مكتوم لوضعه لحاجيّاته جانبًا، ومن ثم أراح جسده على الأرض المتجمّدة. ولحسن حظّنا فقد كان الجو أدفأ من الأيام السابقة، والصُبح تشرف عليه شمسٌ خافتة.

رنوتُ نحوه، فلم أجده يستمع.. كان يفعل عادته بفعل أي شيء سوى متابعة حديثي. قد يجيبني أحيانًا، لكنه لا يُديم الحوار، ولا يحاول الاستفسار عن شيء بدأته ولم أنهيه؛ وكأنّ لديه ما يشغله دومًا.
لكنني جلست قُبالته على أية حال، وعدت أسأله "ألن تخبرني عن مدينتك؟".

لبث وقتًا مليًا، حتى استنطق "لا أذكرها، ولا أتّخذ مسقًا لي". كان صوته يحمل حالة مرض، والتعابير التي تشدّ احتداد وجهه أكدت أنّ أكثر ما يمقته هو ماضيه، هذا إن لم يكُن حاضره الذي يشاطره معي.

في أحايين كثيرة، كنت أودّ سؤاله إن كان سيُجيب طلبي بالرفض لو عاد به الزمن إلى الحين الذي قابلته فيه، وسألته أن يأخذني معه لحيث يتجّه. تساءلتُ إن كان للندم سبيلٌ لشخص مِثله، أم لم يكن يعنيه أمري لهذا الحد. وإن توقّفت عن اظهار فضولي، فهل سأكون كالحقيبة والعصا اللتان يحملهما أم سيظلّ ممتنًا لوجود شخص يتحدّث معه على الأقل.

غير أنني لم أستطع معرفة ما يجول بذهنه أبدًا؛ كان يكتم الكثير كلّما دارستُه، ويبدو خائفًا طوال الوقت، لكن هذا التعبير يرتخي عندما لا يجدني أبتسم له -وذلك في الأوقات التي ينال منّي القلق- فتعجّبت لفكرة أن عبوسي يُريحَه.

"ماذا عن مدينتك؟" سألني، وربما تلك كانت ثاني مرّة ليبادر، بعد الأولى التي سألني فيها عما أريد أن أفعل بصحبته، فأخبرته ببساطة 'أن أهرب'.

حككتُ باطن كفّي، واحتبس جوفي عندما وجدتُ أكمام معطفي قد فشلت في اخفاء جزءٍ من معصمي وما يليه، حيث فقدتُ لون جلدي. فهممت بتغطيته، ودسست رأسي بين كتفاي وأنا أرفع ركبتاي أسفل ذقني.

"مدينتي، كيف أصفها؟ إنني أكره ذِكرها، وكل ما يدور حولها. قيظ الصيف كان الأشدّ فيها، ومقابِله برد الشتاء السقيم. أمّا الخريف فكان كالطوفان، والربيع أشدّهم بخلًا. كان كلّ شيء يحدُث فيها بمبالغة، ولامبالاة بذات الآن".

طالت هزأة صغيرة منه، كادت أن تفترّ عن ابتسامة. وعندما صوّبت نظري نحوه، وجدته يتابع مجرى المياه بأناة وكأنه يلقي بكلماتي عليه ويشاهدها تنجرف.

"هل يضرّك الاستماع؟" سألتُ، وربما ظنني أحاول معاتبته بينما كنت أستعدّ في الحقيقة لما هو أطول من اجابتي تلك.

لكنه سكت قليلًا، ثم قال بهدوء "أنا أُجيب".

"كلا، أعني أن أقصّ عليك، ولا ترغم نفسك على الرد، مقابِل ألّا تتجاهلني."

"سأفعل" قال، وراقبت سقوط أهدابه وهو يميل مقلتيه لكعبيه. فتنامى التردد داخلي، وازداد فورانُ ما يحمله جوفي من بقايا سميد القمح الذي تناولناه بالصباح.

وقبل أن أتدارك نفسي، سقط جسدي جانبًا، ونالني شعور بأنّ أحشائي ستُلفظ، ولم أدرك كم من الوقت مضى وأنا أتمسّك بكتفيه عندما أحاطتني أذرعه، ووجهي مقابِل لإنعكاسه المتهالك على النهر؛ الذي رجوتُ بكلّ ما فِيّ أن يبتلعني.

أفلتني سريعًا بعد أن هدأتُ وأنا أستطعم الحموضة بمرّيئي بكدرٍ. انكمش حاجباي وأنا أكفكف فمي، ثم تابعته حين عاد للجلوس بذات هدوئه، إلى حيث كان ينتظر منّي الشروع بالحديث.

فضحكتُ وأنا أنفُث ما بصدري بوهن، ثمّ قلت "يبدو أنّ الموت هو رفيقنا الثالث، يا روسلان".

وكانت تلك مرّتي الأولى لأدعوه باسمه الذي يحبّه.

واذا بي أجده يبتسم، ويوافقني.

عندما تغفو الجبالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن