جلسنا لنرتاح في مكانٍ أقرب لخانٍ، يشغله رجال كثيفو الذِقان ونساء تكوّفت حولنا نظراتهنّ الفاحِصة.
كانت احداهنّ ترتدي غطاءً على رأسها، وقد أفصحت قماشته المرقّطة عن خصلاتها البيضاء أسفله، بينما أنشأت تنظُر نحوي بأسلوب شديد، ثم تبدّل محجريْها لروسلان الجالس جواري، قبل أن تتمتم بشيء وهي تربّت على صدرها أسفل نحرها.
طلبَ روسلان أن يُجلَب له كأس أفضل مشروب بالمكان. ولمرّتي الأولى لم أتوقّع أنه قد يبذخ بما يمنحه لنفسه، فعدت لأستدرك أن أكتمَ الناس يحتفظون بثمينهم لأنفسهم.
أمّا أنا فقد اكتفيت بكوب ماء، وجلست أرتشفه ببطء؛ لا أودّ أن ينتهي فأضطر أن أطلب بنفسي من النادل أن يأتي لي بآخر. بيد أن عطشي تضاعف مع أول رشفة.
كان المكانُ هادئًا، همساتٌ خافتة تتداعى من حوائطه الخشبية بأتول، وقد علّقت عليها جلود مدمغة وأدواتُ صيد غير مرصصة. لم تكن هناك لوحات أو تماثيل قيمة، كلّ شيء بسيط. فانغمس بي شعور الارتياح بعد عدة دقائق، قبل أن يُنتَزع عندما رأيت ذات العجوز تسير نحونا، وتُجلِس نفسها في الكرسيّ الثالث وكأنه كان موجودًا بانتظار مجيئها.
صُمّت الأصوات في الخلفيّة عن أذني، وشعرتُ وكأننا وحدنا في المكان. مقلتاها ثريّتا السواد اقتحمت ما بيننا.. الهواء، الفراغ، والأشياء التي لا تُرى، ثم تركتني كمحطّة أخيرة وحدّثتني مستفسرة "عابِر سبيل؟".
نظرتُ قليلًا لروسلان؛ أسائله إن كان من الأفضل مجاراتها أم لا. وقد تكون فظاظة إن تجاهلتها، لكنها قد فعلت المِثل له.
وفهمت أنه قد ترك لي زمام القرار، لمّا رفع كأسه ليشرب منه، والذي كاد أن يصل لنصفه. فعدت لأنظر لها، ثم أومأت أن نعم، وتوجّستُ عندما مدّت كفها المجعّد بغتةً نحوي وأراحته على الطاولة، فاستعجبتُ مما تبغيه.
بدأَت تطرق عليها بخفة، فأصدرت خواتِمها الثقيلة صليلًا، وانبسطت الخطوط على ظهر كفّها وهي تفرّق أصابعها. ففهمت عندها أنها قارئة كف، وفقهت شعوري في البداية أنّ بها شيئًا مألوفًا؛ كالأشياء التي يعرفها أمثالها عنّا قبل أن نفعل، والنظرات التي تفوق عاديّة الناس تفرُّسًا.
سألتها عمّا تريد فعله، فقالت أنه عملٌ مجاني لا يجب عليّ القلق بشأن كِرائه. لم أكن من مصدّقي تلك الأشياء من الأساس؛ كنتُ أرى أنّ الجميع له جزء مجهول، عليه أن يبقى كذلك حتى ينكشف في وقته، سواء مستقبلٌ أم فرصة محتمَلة. أحببتُ فكرة أن أترك أمرًا مخفيًّا لأتطلّع له، وهذا ما اكتشفت أنه قد كان ينقصني في أعوامي الأولى التي تعلمتُ فيها الإستسلام.
أنت تقرأ
عندما تغفو الجبال
Historia Cortaالأشياء لم تعُد تبدو على ماهيتها، ولا ألمَي. أراني أحاول قتل اليد التي تكتم صراخي، ويتكرر الذنب لينهشني، فأُصبح تجسيدًا كافرًا لي. أغرق في قيودي، حتى أظُنّ أن جسدي سينصهِر فلن أملك منه خليّة.