أثقال الجِبال

225 51 53
                                    

باغترابٍ، كنا نرمي أقدامنا بثقل على الطريق وأنا أتبعه، ولا طيفٌ يلوح بعد إذ تركتنا الجدران والأخشاب والفوانيس خلفنا، وأضحى ما يمدّنا بالضوء هو الشمس بالصباح، وانعكاسها بالليل.

وللمرة الأولى، في أبعد مدّة زمنية استطعت تذكّرها، فقد حظيتُ بأسوأ ليلة وأسوأ منام أمكنني تخيُّله. لم يهلكني سوى وصول الأمر للحدّ الذي دفعه ليقيّد يداي عنّي، بعد أن حاولتُ تناسي ذلك.

لم أعلم يومًا ما هو باستطاعتي فعله لو تركتهما حرّتان. لكنّ الخوف المشدّد كان حول عيناي، واللتان كلما شعرت بوجودهما، أميل للتفكير بكمّ حاجتي الضئيلة لهما، وأنَ فكرة انتزاعهما هي أفضل الحلول.

لم أملك أدنى فكرة من أين باغتتني كل تلك الأفكار، لكن بشكلٍ ما، هي بدت موجودة منذ وقت طويل، وقد أُميط عنها الحجاب توًّا. وعند الصباح تختفي، عندما أبدأ بالسير خلفه، وأكرر تخيّل الدماء وهي تلطّخ كامل ملابسه، وتلتصق بوجهي عندما عانقني، وأذوق معدنها في فمي ومسام جلدي.

الليل بدأ يصبح كابوسًا أسوأ بمرور الأيام؛ فلا تمُر ليلة دون أن ينال فيها العالم ما يكفي من بكائي.

لم أفهم من أين وجدني كلّ هذا، ومتى سينتهي، من المتسبب فيما يحدُث لي، وكيف لي الهروب بعد الآن.
أمّا روسلان، فلم يعُد شديد الهدوء كما كان آنِفًا. أضحى هو من يفاتِحني الحديث في الصباح، عندما أراه وهو يحلّ وثاقي، فأسأله عن ما حدث في الليل. فكان يطرق رأسه مرّات، ويمنحني أسطرًا مبهمة، وأحيانًا حديثًا مستفيضًا عن أنني كنت بحال أفضل من البارحة، وأنها قد كانت ساعاتٌ هادئة.

فعلمتُ حدّ شعور الشفقة الذي يدعوه ليفعل هذا، لكنني لم أمانعها؛ فقد كنت أرغب بما هو أكثر، ربما شفقةً يقوم بها بتخليص كلينا.. شيءٌ يحقق ما جلبتهُ العجوز من سيرة الموت، وما آمنت بوجوده معي منذ البداية.

لكنه أيضًا بدا متواريًا، وتذكرت كيف لم يبدُ لي منذ الوهلة الأولى كشخصٍ سيفعل سوءًا -وإن كانت عاقبته حميدة- حتى ولو بعد ألف سنة. وأذكُر كيف اعتاد أن يفصح بأنه ليس شخصًا جيّدًا بدوره، ويحاول جاهدًا أن يشاركني فيما لا تشاركني نفسي فيه حتى. لكن الآن اختلف الأمر، والشعور بالغاية بات بعيدًا ومستحيلًا.

"قل لي عن أسوأ ما تعرِفه عن نفسك؟" طلبتُ منه ذات مرّة.

كان قد مرّ ما يزيد عن الأسبوع منذ بدء رحلتنا، والتي لا أفقه فيها شيئًا، ولم أفعل من الأساس.

لم أعد أفهم سبب مواصلتي، أو ما سيجعلني أتوقّف بعد الآن. كنت منقادًا، خائفًا، أكاد أشعر بدنوِّ الموت بأبشع أشكاله كلّما نظر نحوي وابتسم.

عندما تغفو الجبالحيث تعيش القصص. اكتشف الآن