استيقظت على جلبة في الخارج، ثم دخل أحد الضباط وأخذ ينادي بعض الأسماء االذين سيتم العفو عنهم ليعودوا الي بلادهم، "أهذا اسمي الذي قلته الآن "،أمسكته من ذراعيه سائلا، راجيا مندهشا، كأنما استيقظت لتوي من غيبوبة طويلة.
ياإلهي، انها غيبوبة طويلة، دامت أكثر من خمسة وعشرين عاما، كنت فيها أتنقل بين غياهب السجون العراقية، في كل مرة يتم ختم أوراقي بتهمة مختلفة، سجين سياسي، إرهابي، قاتل، وآخرها ضبط بلا أوراق هوية او ما يثبت دخوله البلاد، صرخنا كثيرا انا وزملائي نحن جنود مصريون، ولكن لم يصدقنا أحد.
انسابت عبراتي تواسيني وتقص على قصة، باتت في ذاكرتي الآن وكأنما تنتمي لشخص آخر، كنت جنديا مصريا بسيطا في الخامسة والعشرين من العمر، من محافظة الغربية، أعمل في الخدمة العسكرية تجاه الوطن بكل حب وإيمان، حتى قامت القوات العراقية بغزو الكويت، فهبت مصر والسعودية لمساعدة الكويت على نيل استقلالها، وقامتا بإرسال قواتهما العسكرية للمساعدة في فض النزاع بين الشقيقتين.لبيت نداء الوطن، حيث كنت ممن تم اختيارهم للذهاب إلى هذا النزاع العربي.
ودعت زوجتي الحبيبة، وولدي الصغير، وجنينا لم يطل بقاؤه بعد في ظلمة الرحم، قبلت أيدي والدي الغارقة بدموع الألم والاشتياق، وصاحبتني دعواتهم الراغبة في لقاء قريب، يروي عطش الأرواح، ويقر الأعين الساهرة، ترمق السماء ببريق الرجاء.
رأيت أهوالا في هذه الحرب الضارية، رأيت الموت بأم عيني، يخطف أنفاسا ألفحني دفؤها، في ليال سهر تحت ضوءالقمر، على مائدة السمر المعطرة بذكر الأهل، والأحبة،والولدان، رأيت أجسادا قد تخاصمت أوصالها، فتقطعت وافترق كل عن الآخر، كأنما أرادت أن ترسم لنا مشهدا، معبرا عن حرب تقطعت فيها أوصال الوحدة العربية.
وفي أحد الأيام، وعقب وقوع انفجار هائل، أفقت على هول الأسر في أيد عراقية، مع مجموعة من الزملاء المصريين، وأدخلونا إلى أحد السجون العراقية .
شهدنا بين جدران السجون، تحرر الكويت،ثم احتلال العراق، ثم اغتيال نظام الحكم في يوم العيد، تنكيلا بالمسلمين والعرب الذين لم يحركوا ساكنا، كأن من ذبح كان أضحية المحتل لعيد المسلمين، وتعاقبت الأحزاب على الحكم في ظل المحتل وتناحرت، كل يلهث للحاق بفتات دولة سقطت فريسة محتل بغيض، بدعوى إقامة سلام مزعوم، تتستر خلفه على استحياء مطامع القوي العظمي في السيطرة على منابع النفط في البلاد العربية.
"هيا محمد "، قالها الضابط وأخذني ليتم إجراءات تسليمي الي السفارة المصرية ليتم ترحيلي الي مصر ومعي ثلاثة آخرون لا نكاد نصدق أننا عائدون إلى الوطن!.
ما أجمل العودة إلى الوطن، وما أجمل رائحة هوائه، وما أرق نسيمه العليل الذي يشفي جراح الفراق التي تفاقمت عبر الزمن، عدت إلى بلدتي، فلم أعرفها، ولم تنكرني، ظللت متنقلا بين شوارعها، أبحث عن بيت وعنوان،رجلا في بداية الشيخوخة يبحث عن والدين، كطفل ضائع منذ سنوات، فدلني أحد المارة على بيت شقيق لي تركته في الخامسة عشرة من العمر،هاهو يقف أمامي رجلا أربعينيا يتفحصني باستغراب، قلت له أنا أخوك محمد، قال" أخي محمد قد مات منذ سنوات طويلة في الحرب، من أنت أيها الرجل؟ "،فكشفت عن شامة خلف أذني فعرفني،فاحتضنته، أشتم رائحته الغالية على نفسي، التي لم تفارقني طوال سنواتي البعيدة عن الوطن، سكب كل منا كأسا من العبرات على كتف الآخر انتشاء بفرح لقاء، كان قد أضحى مستحيلا في هذا العالم،سألته عن أبي، فأهداني كأسا آخر من العبرات قائلا "لقد مات منذ عشر سنوات، كانت أمنيته الوحيدة أن يراك، كان دائم الثقة أنك حي ، وستعود يوما ما" .
اه على عمر ذهب ولن يعود، وذهب معه أحباء عشنا نقتات على أمل رؤيتهم من جديد، أكانت ضمة القبر أحن عليك من صدري يا أبي! ،هنيئا لقبر ضمك اليه، ولم أستطع.
هرول بي إلى أمي، وجدتها امرأة في العقد الثامن من العمر، أوشكت عيناها على مقاطعة الرؤية مقاطعة تامة، حزنا على عدم رؤيتها لي،لم تصدق المسكينة ما تجريه الأقدار، أخذت تبكي حتى انقطعت أنفاسهاوتهدجت، اشتقت إلى رائحتك يا أمي، أشعر كأني طفلا بشعر أشيب ليس أكثر، وهاهي زوجتي وجدتها امرأة في العقد الخامس من العمر، قد طعم الحزن من بهائها عبر السنوات حتى شبع، وترك الهزال والضعف، وقفت تنظر في ذهول وكأنما وضعت الحمائم فراخها على رأسها، وتخاف أن تنطق فتزعجها، فتسمرت مكانها،بعينين ذاهلتين، ذابلتين من بكاء دام لسنوات،تساءلت" ومن هذه الشابة الجميلة؟وأين ولدي؟ ،" أجابني أخي " انها ابنتك وفاء، ولدت بعد سفرك بسبعة أشهر، وبعدها جاءنا خبر وفاتك".
"اه يا ابنتي، تعالي الي، كم تشبهين أمك حينما كانت شابة جميلة، اه يا ابنتي لم يتسن لي حملك بين ذراعي حين ولادتك ، أو أتمكن من مداعبتك واللعب معك، ومساعدتك في كتابة أول حرف لك، اه يا حبيبتي كيف كنت بدوني؟وأين أخوك ؟ أجابتني من بين دموعها اللاذعة ، "هو في عمله بالمشفى، فهو يعمل طبيبا،سأهاتفه ليحضر حالا" .
جلسنا سويا أحكي لهم ما حدث معي مذ فارقتهم، ويقصون على أخبارهم وأخبار مصر ، حتى دخل علينا مهرولا شاب وسيم، يشبهني كثيرا، قائلا" أبي، أنت أبي حقا"أجبته" نعم يا ولدي أنا هو". انكب على يدي ورأسي ووجهي يقبلني ويغرقني بدموعه الحارقة وجلس الي جواري يتحدث قائلا" كنت طفلا صغيرا في الثانية من العمر ، عندما سافرت الي الحرب ولم تعد، وأخبرونا أنك مت في أحد الانفجارات ، هكذا كانت تخبرني أمي وجدتي، عندماأمسك بصورتك أتأملها وأنت بالزي العسكري، زهدت أمي الرجال، وعافت نفسها الزواج من بعدك، أملا في عودتك، وعاشت لأجلي وأختي الصغيرة مع جدي رحمه الله وجدتي، وعوضتنا الحكومة المصرية عن موتك بمكافأة كبيرة، وراتب شهري لا بأس به، أمن لنا معيشة ميسورة، وكفانا ذل الفاقة، حرصت أمي على تعليمنا وتأديبنا على خير وجه، وكانت دائما ما تحكي لنا عنك، كانت تحبك كثيرا،تذكرك لنا ليل نهار، وفي كل يوم، كأنما أيقنت أنك ستعود، فأثارت دعوات في نفسي لله، بأفق طفل صغير، أن تعود أبي من الموت، وكبرت ومعي هذا الرجاء، حتى عقلت، وعرفت ان من مات، لا يرجع أبدا، ولكن دائما ما أدهشني ثقة جدي في عودتك.
أصبحت طبيبا، وتخصصت في الجراحة، أملا في إنقاذ الناس من الموت، وأصبحت أختي الصغيرة معلمة في إحدى مدارس بلدتنا.
لم أصدق حين هاتفتني أختي وهي تجهش ببكاء اختلط بالفرح، قائلة إن أبي قد عاد من الموت!."
أبي هل عدت حقا! تساءل ولدي الطبيب، بلهفة وبكاء، كمثل طفل صغير، فأجبته محتضنا اياه تسبقني عبراتي، " نعم يا ولدي لقد عدت من الموت، عدت شيخا، تخطي الخمسين من العمر، لم أهنأ باللعب معك في طفولتك، أنت وشقيقتك، لم أستطع أن أتشارك مع والدتك أيامها حلوها ومرها، كما تعاهدنا، لم أهنأ بأحضان أبوي، أو أتمكن من أخذ عزاءجدك، لم أستمتع بسنوات الشباب مع شقيقي الأصغر ، لم ولم ولم، ولكن الحمد لله لعله خير".
تغيرت أحوال مصركثيرا، ولكنها لم ولن تتغير، ستبقى دائما، أم البلاد والعباد، أجنادها خير أجناد الأرض، وحدودها مدخل إلى أرض السلام عبر الزمن ومن أرادها بسوء، قصمه الله .