يُقال أن الرصاصةَ التي تُصيبُكَ لا تَسمع صوتها..
"أحذر ياغيث!!"
فَتحتُ عينيّ لِأرى التُرابَ أمامي، وأحذيةٌ تركضُ نحوي، أسمع صراخًا بِأسمي وأنا لا أشعرُ بِشيءٍ غيرَ فَكي المُحطم أثر سقوطي على الأرض، وثُمَ... أشعر بِأيادٍ تَسحبني وتثبتني على شيءٍ قاسٍ... لوحٌ خَشبي!زَفرتُ لِهذهِ الذِكرى بينما أنظرُ للسماء مِنْ نافذةِ غُرفتي التي بِالكاد تَصلُ عينيَّ لها، كانت سماءُ عصرِ يوم الأحد صافيةً دونًا عن بَعض الغيم الأبيض الرقيق... مَسحت على ذِراع كُرسيّ بِضيقٍ وكأنهُ يَجلسُ على صَدري ولَستُ أنا من يَجلسُ عليهِ
فُتِحَ الباب قَبل أن تَدخُلَ أمي قائلةً:
"غيثٌ يابُني، هيا لِأُحممكَ وأبدلُ ثيابكَ"
"هه.. أحممك"نَطقتُ بِخفوتٍ ولا أظنُ أنها سمعتني، العَجزُ -ياعدن- خانق، حينَ يُقيدكَ كُرسيٌ يبدوا لكِ كَقفصٍ حديدٍ صَغير، قضبانهُ صدئه، وحتى دواليبهُ هذهِ تَعبرُ على قَلبكِ قَبل طريقكِ
أيشبهُ عَجزي عَجزكِ ياعدن؟، عَجزكِ عَنْ ضَمِنا بِدفئكِ وأمانكِ، عَجزكِ عَنْ فعلِ شيءٍ لِشوارعكِ التي المُفترض أنْ تُزرع بِهَا الحِنطةُ والياسمين لَكن صارت جبهاتٍ للكُماة، وبَدل أن يُعزف فيها العود ويُغنى فيها "ياحياة يومي وأمسُه، ياحياة بُكره وبَعدُه"، لَكن أُستبدلت كلِمات'محمد عبده زيدي' المَعسولةِ بالوغي وبِصُخبِ الرصاص وزغاردِ أُمهات الشهداء
يا عدن!، أُمي وبِهذا السِن تُحمُمني!، لقد جار عليها الزمن ورابها الدهرُ، وخالطَ الشيبُ شعرها ويُفترض أني مَنْ يفعل ذلكَ لها بَعد أنْ تَخذلاها قدماها بِعد هذا العُمر مِنَ الركض خلفنا...
تَنهدتُ وكأن النَفسَ يَسحبُ روحي بَعدهُ وقُلتُ:
"لا أريد، أتركوني لوحدي"
"لكن ياغيث!..."قاطعتها صارخًا بِلا شعور:
"لا أريدُ أحدًا!!"شَعرتُ بِها تَبتلعُ غَصتها التي غَصت قَلبي قبلها وتَخرج... لا أحد ياعدن يَعرف سَبب صُراخنا المُستمر، تَصرخين دائمًا بأصواتِ التفجيرات، ويلومكِ الكُل لِأنكِ أرعبتي قلوبهم، لا يعلمون أن ارضكِ تَنزف، تُرابكِ يحترقُ وحتى هذا الرَماد يَدفنُ قَلبكِ، وتتألمين لآلم الشُهداء وذويهم، كم أنتِ معطاءةٌ وصبورةٌ ياعدن!
ضاقت الجدران مِنْ حولي وكأن غرفتي تتقلص والهواء فيها يُثقلُ صَدري گرمادكِ تمامًا... دَفعتُ دواليب كُرسيِّ-التي داست على قَلبي- وخرجتُ مِنْها، وددتُ رؤية الشارع فَقط، لَكني وقفتُ أمامَ السلالِم أُحدقُ بِها بصمتٍ....
ظهرَ أبي مِنْ أسفل الدَرَجِ ليقول بلهفةٍ يَحُثني على الخروجِ أخيرًا:
"أتريدُ أنْ أحملكَ على ظهري للأسفل ياغيث؟"وهذهِ غصةٌ أخرى يا أرضي، أنا مَن عليهِ حملُكَ على ظهرهِ يا أبي!، أنا يا أبي.. أحملُكَ وأطوفُ بِكَ حول بيتِ الله... أنا يا أبي أنا أسنُدكَ وأحملُكَ وليس العكس!!...
أستدرت بِكُرسيِّ ولَم أُجِب إلا بتنهيدتي الألف، أينَ أغتدي، أينَ أفر، أُختي؟، لَم أراها مُنذُ يومين، ذَهبتُ نَحو غُرفتها لَعلها تَخلقُ حديثًا معي يُضحكني قليلًا كما أعتادت، قَلبها صافٍ مُبتسمٍ دائمًا ياعدن تمامًا مثلكِ!، لَكني-وَقبل أن تصل يدي لِمقبض الباب- وصلني صوتها الباكي
"تَعبتُ مِنْ عصبيتهِ يا أمي تَعبت!، صِرتُ أخاف العبور مِنْ أمامهِ حتى!"عضضتُ على شفتاي أكتم بُكائي، وأحمرت مُقلتاي وأُغرقت دموعًا... تخاف مني..!، الأسوء مِنْ إيذاء مَنْ نُحبهم ياعدن هوَ جَعلهم يخافون مِنا، جعلهم يخافون حتى مواساتنا
شَعرتُ بكِ يا أرضي حينَ يَفرُ مِنكِ الجميع ويخاف، ويبقون فيكِ على قلوبِهِم ويتمنون التخلُصَ مِنكِ اليومَ قَبل غدًا، وأنا شعرتُ بِخوف أُختي مني هذا كالسنان في قلبي، وعدتُ أجرُ حِبالَ خيبتي لِغُرفتي...
ضَربتُ فَخذي لَعلي أشعر، لكن هيهات... حتى ظهري لَم يَعد يستطيع أن يبقى مستقيمًا من هذا الثُقل، أنحنيتُ بِجذعي وأنا أشعرُ بالعمليةِ مكان الرصاصةِ التي كسرت ظهري تؤلمني، لكني لَمْ أبالي، مسحتُ وجهي بأناملي وغطيتُ عينيَّ الدامعه
"يارب..."سَيكلفني هذا الكثير ياعدن أعلم، سيكلفني الكثير من الآلم والدم الذي سينزفهُ قلبي كُل يومٍ، سَأضطر لأن أتغرب، وأعافر الطريقَ الوعر بِدواليبِ كُرسيِّ، لَكن سَيضع الله فِي قَلبي حُبهُ وصبرهُ
وحتى أُختي التي كانت أضعف مِن أن تتحمل عصبيتي سابقًا، سَتصيرُ بألفِ رجُلٍ، أستندُ عليها وأنا آمن، وأنا موقنٌ أني لَن أسقط.. وأنها لَنْ تَجعل الأرض القاسيةَ تحتضنني عوضًا عنها!
سَأقف مُجددًا ياعدن!، لَكن سأقف أقوى، سأقفُ'غيث' ثاني، وسَأعود لِأدافعَ عَنكِ وأحميكِ وأخبرهُم أني ذُقتُ مرارتكِ وحان الأن الوقتُ لأخلصكِ مِنها!.
- إنتهَت.

أنت تقرأ
كُرسيّ || Wheelchair
Historia Cortaالعَجزُ -ياعدن- خانق، حينَ يُقيدكَ كُرسيٌ يبدوا لكِ كَقفصٍ حديدٍ صَغير، قضبانهُ صدئه، وحتى دواليبهُ هذهِ تَعبرُ على قَلبكِ قَبل طريقكِ، أيشبهُ عَجزي عَجزكِ ياعدن؟... - قِصةٌ قَصيرة - جميع الحقوق محفوظة !! - ٢٣ فبراير ٢٠٢١م.