الفصل الاول
________ ترتيب القدر __________
والشمس تنير الارض وتشرق في كل مكان لتنشر إشاعتها الحارقة في الصحراء كالنار ولكنها نار كنار الحب يكتوي بها قلب العاشق ، يرجو بقاءها ويخشى زوالها ، ترسل علينا شواظا من نار ، فتسفع جلودنا ، وتكوي جباهنا ، حتى إذا غلى جوفنا ، ووغر صدرنا ،
فما أجملها قاسية وراحمة ، وما أجملها واصلة وهاجرة .
كان هناك شاب يرعي الغنم وفجاءة تقترب فتاة في غاية السحر .فائقة الجمال .
تأتي بإبلِ أهلها ووردت الإبل إلى الماء فخافت إبل ذلك الشاب من إبل تلك الفتاة ونفرت منها.
فغضب الشاب فسبَّ الفتاة قائلا:
ماذا فعلتي أيتها الحمقاء ؟! الم تكن لك اعين تبصري بها ؟!
فغضب بشده من تطاوله عليها ولم تسكت تلك الفتاة فسبته ثم قالت :
كلا فلست انا الحمقاء ياابله .من انت ايها المتعجرف... سليط اللسان ؟!
فرمقها الشاب بنظرات غاضبة كالسنة النار الحارقة وقال:
انا جميل بن عبد الله بن معمر أحد رواة الشعر، ومن فصحاء العرب .
فردت الفتاة ساخرة :
شاعر مخبول ! فانا بثينة بنت الحباب .ابعد ابلك يامخبول ...
ثم انصرفت من امامه بشموخ وكبرياء .
وبدلا من أن يغضب جميل أعجب بها، واستملح سبابها ، وبدأت السطور الأولى في قصة هذا الحب العذري الخالدة ، حيث تطور الإعجاب إلى حب.
فيقول جميل فيها :
وأول ما قاد المودة بيننا ** بوادي بغيض، يا بثين، سباب
فقلنا لها قولاً فجاءت بمثله ** لكل كلام، يا بثين، جواب.
لم يكن جميل يعلم ما يخبئه له القدر ...لم يكن يعلم انها بداية لنهاية حياته العجاف .
تركته وانصرفت من امامه ورحلت ساحبة معها الهواء والنور ومسببات الحياه ؛ظلت بداخله كالنقش الفرعوني حفرت بأجمل الحناء داخل قلبه. و تركت عطرها داخله ...ما اجمل إلا يفارق عطر قد اعتاد صدرك عليه. فقال فيها جميل:أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهرا لا أعدّ اللياليا
ألم تعلمي يا عذبـة المـاء أنني
أظلّ إذا لم أُسقَ مـاءك صاديا
وودت على حبّي الحيـاة لو أنّها
يزاد لها في عمرها من حياتيااما بثينة فرجعت هائمة وقد اصابها سهام الحب ... ترتمي علي فراشها تتقلب يمينا ويسارا وقلبها لا يهدأ ولا تستقر نبضاته .
تبتسم تارة وتشرد تارة ثم تنهدت واغمضت عيناها .
اما جميل فكان في ذلك اليوم يفنى ويذوب ألف مرة شوقًا لمحبوبته ؛ ورغبة بلقائها.
لم يكن يعلم انها ستصبح يوما ثورة شعرية حقيقية، أشعلها ذلك اللقاء .
ولم يتساءل كيف حدث هذا ؟! كيف ينبض قلبه بحب لمجرد لقاء بدأ بالسباب ... لا احد منا يستطع فهم الحب ... فالحب ليس له اسباب .وهام بها جميل فهام على وجهه شوقا ولهفة للقاءها في اليوم التالي .
وفي نفس المكان ظل منتظر ظهورها وكانه يترقب ظهور حورية من حوريات الطبيعة .
وعند ظهورها من بعيد وقف جميل يتأمل حسنها ويتمني قربها ليشبع عيناه من بحر حسنها...ويهيم وكانه اصبح سكير لسحر عينها . فاقترب منها قائلا:
كيف اصبحتي اليوم؟
فرمقته بثينة وقالت ساخرة :
كنت بخير حتي وقعت عيناي علي شاعر مخبول وتركته واولته ظهرها فكاد ان يوقفها ولكنه جمح شتات نفسه ليخفي عشقه لها ، وظل يتأمل انصرافها وأثناء ذلك حضر كثيّر ( وهو فيما بعد كان راويا لشعره ) فاقترب منه وقال:
فيما انت شارد ياشاعرنا الفصيح ؟!
فخطا جميل بضع خطوات وقال:
انا لست بشاردا ...بل اصيب قلبي بسهم من سهام الهوي . واموت شوقا لقربها.
فاطال كثير النظر فيه وقال:
ياويحي ... أأصيب قلب جميل بالعشق !
جميل وهو يهيم في طيفها ويتنفس عبقها :
بلي ... اصابني العشق ؛ وياويلي ممن عشقتها.
فابتسم كثير وقال له متعجبا من حالته:
ومن تكون تلك التي سرقت قلب جميل منه؟!
فتنهد جميل تنهيدة تكاد تخرج معها اضلعه وقال:
هي الحسناء الهيفاء ذات الحسن ... شامخة كالجبال ؛ سارقة الفؤاد.هي البدرُ حسنًا، والنساءُ كواكبٌ، وشتّانَ ما بين الكواكب والبدر!
لقد فضّلتْ حسنًا على الناس مثلما على ألفِ شهرٍ فضّلتْ ليلة القدرِ
عليها سلامُ اللهِ من ذي صبابةٍ وصبٍّ معنّىً بالوساوس والفكرِ.
ثم قال وهو مازال متيما فيها :ارحَمِيني، فقد بلِيتُ، فحَسبي بعضُ ذا الداءِ، يا بثينةُ، حسبي!
لامني فيكِ، يا بُثينةُ، صَحبي لا تلوموا، قد أقرحَ الحبُّ قلبي!فحدق فيه كثير وقال:
ويحك ... أتعشق بثينة بنت الحباب ! وتتغزل فيها شعرا ! أأجنت يا رجل ؟! أصمت حتي لا يسمعك أحدا ؛ فوالله ليامرون بقطع لسانك.
جميل وهو سارح في خيالها:ما زادني الواشـون إلا صبابـة
ولا زادني النّاهون إلا تماديـا
وقالـوا بـه داء عيـاء أصابـه
وقد علمت نفسي مكان دوائيا
هي السّحـر إلا أنّ للسّحـر رقية
وإنّي لا ألفي لها الدّهـر راقيا
أحبّ من الأسماء ما وافق اسمها
وأشبهه أو كان منـه مداني.لم يكن يعلم جميل ما سيناله من هذا العشق .
لم يكن يدري ان هناك من يستلق السمع لتبدأ قصة عذابه ولوعته ...انتظروها يوم الخميس ان شاء الله