تسرّب صوت أمي الدافئ ليملأ بعذوبته الفراغات في صمتِ الغرفة،
تحثّني بأحرف كلماتها الرقيقاتِ على الابتسامِ.
التففت إليها بجسدي كله فوجدتُّها ترسمُ بيديها على ثغرها إحدى ابتساماتها الساحرات لتُريني كيف أفعلها.
حاولتُ،
رغم ما بدا على قسمات وجهي آنذاك من خوفٍ وارتباكٍ من ذلك المجهول الذي تسوقني إليه الأقدار مثلما تفعل بكل من هو في ذات عمري.طوال طريقنا إلى هنا ظلت أمي تطمئنني بحكاياتها وتستفيض في السرد عما سألقاه هناك من ألعابٍ مسلية ورفقة.
قلت لها وأنا أُحتضن كفّها بيدي:
"احكِ لي عن أول يومٍ لكِ في مدرستك يا أمي"
تضغط بدورها على كفّي ثم تحكي،
فألتصق بها وأطمئن لبرهة،
قبل أن تعود هواجسي لتهاجمني من جديد."واحد،اثنان،ثلاثة"
نطق بها عم رمسيس و أصابعه تحلّق من خلف سماءِ صندوقه السحريّ ذي الأرجل الثلاثة الخشبية.
نظرتُ لأمى ثم ابتسمت أخيرًا،
قبل أن يلتمع الضوء الأبيض الشاهقُ ويغشى عينيّ فيحيل الغرفة المظلمة نهارًا مشمسًا لوهلة ثم ينطفئ كابتسامتي ونعودُ إلى عتمتنا سويًّا.
من وراءِ معبودته تلك،
أطلّّ عم رمسيس بوجهٍ قد خلا تمامًا من منحوتاتٍ كانت سنون العمر قد سبق أن خلّفتها له كإرثٍ إجباريّ.
بدا أصغر ربما بثلاثين عام،
قد أضافهم الزمن بدوره إلى عِداد عمري أنا وعمر أمي هي الأخرى في التزامٍ أحمقٍ بعدالةٍ بائدة لم نحظ مرّة بغيرها.
بالطبع لم يكن هذا عم رمسيس،
كان ابنه إدوارد،
شددتُّ على يده أشكره على توثيق لحظةٍ أخرى تضافُ إلى ألبوم العمر الضائع.
ثم تعجّلته في استلام الصور كي ألحق بما تبقى من إجراءات استخراج الأوراق الخاصة بالسفر.ذابت أمي تلك المرة بزاويةِ الغرفة وذابت معها ابتساماتها السابقاتِ.
شعرت كما لو كانت قد تحوّلَت إلى ساعةٍ رملية تتناقص حبّاتها وتذوي كلما اقترب موعد الرحيل.
صمّمَت يومها على اصطحابي بنفسها ضمن طقوس مراسمها الخاصة لتوديعي منذ اللحظة التي تلقت بها الخبر.
كان جليًّا أننا قد استبدلنا حينها الأدوار،
كانت هي الخائفة المرتبكة،
وأنا الذي أحاول دون جدوى أن أطمئنها،
لأحاكي ما اعتادت أن تفعله هي بأمومتها التي لا تنضب.
تلتصق بي لتطمئن لبرهة،
ثم تعود هواجسها لتهاجمها من جديد،
غير أن ذلك المجهول قد ظل محتفظًا بدور البطولةِ في كلتا المرّتينِ."الصور جاهزة"
انتشلني صوت ذلك الشاب من فيض الذكريات الذي كاد أن يغرقني.
كانت ملامح المكان قد تبدلت تمامًا،
إلا أنه أبى أن يتخلى عن عبق أرواحِ من احتضنهم يومًا.
تنسمتُ الهواء بداخله ملء رئتيّ ثم ملء قلبي،
علني أعثرُ على إحدى أنفاس أمي النقياتِ وأتنشقها.
بيد مرتعشة،
تناولت تلك الصور المطلوبةُ مني للالتحاق بدارٍ للمسنين،
ذاك الذي أصبح الخيار الأوحد لي بعد أن خلت الحياةُ خارجه إلا من شيخوخةٍ تنخرُ الوحدةُ بجدرانها.
متر تسللت؟ لا أذكر،
ربما حين بدأت في اجترارِ الذكرياتِ،
أو لعلها حين عجزَت الروح عن خلقِ أخرياتٍ جديدة.
بنظرة خاطفة على الصور استدركتُ،
أنها ولا شك قد تسللت حين توقفتُ عن مواعدة تلك الابتساماتِ على طاولة العمر.العمر يمضي ونحن لاندركه إلا بعد فوات الأوان.
-منقوله-
#صناع_الغد
#ناو
أنت تقرأ
قصص قصيرة | Short Stories
Short Storyكتاب عالمنا البديع مملوء بما تشتهيه العين ومحشي بما يمتع الروح ويريحها والوان سطور هذا الكتاب تتغير دوما فبالرغم من كوننا بشرا إلا ان تجاربنا تختلف من بعضنا لبعض الآخر نحن نتميز بإختلافاتنا .. وبتنوع تفاصيلنا من فرد لآخر وها هنا .. تعال وتعرف معن...