وراءَ زجاجٍ يقف خلفه رجلانِ لا تحيد انظارهم عمّا أمامهما،على طاولةٍ تلفُّها رائحة الحديد الصدئ،تعتليها مذكرةٌ وقلم تمسك بهما يدان خشنتان وصوتٌ يأمر،فأتلو عليهم ما يودون سماعه
كنتُ لا أزال لم ابلغ الثامنة عشر،حيث رحت اتمشى بالقرب من تلك التلة التي تعتليها شجرة الكرز المعمرة في جوِّ الشتاء القارص،حين سمعتُ صوتَ نحيبٍ خافت خلفها،دنوت منها لأبصرَ فتاةً حسنةَ المظهر تسندُ ظهرها للشجرة وقدماها بين اذرعها،التفتَتْ إلي لأقابل أعينها وقد اغرَورِقَت بالدموع المنسالة على وجنتيها الورديَّتان،بعينيَّ الّتي لم تحمل تعبيرا واضحا آنذاك،لأهم مندفعا بانتزاع معطفي واضعا إياه عليها،فلم تكن ترتدي ما يدفئها سوى ملابس منزلية.
قرفصتُ بجانبها سائلا إياها عن إسمها فلم تجب،مرَّت لحظةٌ من الصمت قبل ان تخبرني بأنه آية،ثم سألتني متلعثمةً عن إسمي فخرجت من فاهي ضحكةٌ عابرة،رادًّا لها «سعد،ولِما تأنّينَ هنا وحدكِ يا آية؟»،نظرَت نحوي بعد ان فركت عيناها الزرقاوتين كالدمى،قائلة بنبرةٍ يعتريها التعب:
-لا شيء،فقط وددت أن اختلي بنفسي قليلًا.
-وهل من يختلي بنفسه يبدأ الأنين هكذا؟.
-لا شيء من شأنك.تنصرِفُ نحو نهاية التلة،أثبت بنظري عليها بعيدا عن كل شيء،متناسيًا البردَ الّذي كان ينخرُ عظامي،نزلتُ عن التلّةِ وكل ما يشغل بالي ارتسام وجهها الذي لا زال يراودني،اسيرُ في طريقٍ طويل مؤدٍّ للمنزل،في قريةٍ ريفية متحضرةٍ قليلا،اكثر من أن نُنعَت بالقرويين.
ادخلُ بيتي المتواضع المكوَّنَ من ثلاثة غرفٍ ومطبخ وحمام،والدي فلّاحٌ متقاعد من الجيش لذا يحصلُ على راتبٍ تقاعدي ييسرُ حياتنا،تهرعُ امي هديل للبابِ بعد سماعها صوت صريره بمئزرها وخُصَلِ شعرها المنسدلِ عليه،مسمرّةَ البشرة جميلة القد،بعينيها الشهلاء حُدَّت مؤنبة بأني قد تأخرت،تغضبُ ولكن تهدأ بعد أن تطمئن كأيّ أُم.
تحضِّرُ لنا العشاء بينما ينكمش والدي جعفر كالعادة في جريدته أو ينهمك في البحثِ عن ما يُشغِلُ بهِ نفسه،اليوم الأحد لذا هذا مايفعله جميع الآباء،كان أبي مربوعًا قصير الشعر ذو بشرة حنطية وعينان بُنيّتان،ترتسم على محياه الصرامة،تُنادينا أمي للعشاء فنلبي ندائها بعد أن غسلت وجهي بالماء الساخن.
ننهي عشائنا ثم يخلدان للنوم،اذهبُ لغرفتي وما يؤرقني تلك الفتاة،لماذا لا ينفكُّ عقلي عن التفكير بها؟،هل أصبحت متيمًا بها بهذا اللقاء الواحد؟،احسم قراري للبحثِ عنها في المدرسة بحكم أنها تبدو بمثل عمري،لماذا لم اسألها عن عنوانها؟ أعاتب نفسي لترددي وقتها إلى أن يخطف عيناي النوم.
استيقظُ مبكرًا لاتجهز للمدرسة،اتناولُ فطوري بسرعة متجاهلا سؤال امي عن هذا الانفعال المفاجئ في الصباح متجها نحو موقف الحافلات على عجل،أستَقل الحافلة لتوصلني للمدرسة كالعادة مرورا بالعديدِ من اليافطات والأشجار على جانبيّ الطريق الخالي المتصدع،الدولة لا تلقي بالا لما يكلف بلا فائدة كبيرة فليس الكثير من يسلك هذه الشوارع.
أنت تقرأ
قرينُ الشتاء
No Ficciónسعد مراهق في مرحلته الأخيرة من الثانوية العامة،يقيد بعشق فتاة لا يعرف إلا إسمها وجمال وجهها خلفَ جدار الواقع اللا مرئي