بلا عنوان

5K 101 30
                                    

حمل على أكتافه ثقل الهموم ، تداعى جسده في الليل حتى أنه نسي طعم النوم ، لم يقوى على الحراك صوته إنكتم في حنجرته ، هذا القصر المخيف حاصرته الأشباح ، سمح لنفسه بالإنهيار وحيداً بين جدران غرفته كلما دلف إليها تلفحه الذكريات فيُحسّ بالإختناق ، إشتاق لها لمعذبته التي تركته طريحاً على الأرض الترابية ، مضرجاً بدمائه راحلةً دون أن تلتفت ، مرّ على الفراق عامين و نيف تعود الذكرى فتصفعه ، ما تجرأ أحدٌ حينها على تخليصه من عرينه الأسود بل إرتدى قميص التوحّش من جديد و أطال لحيته مُضيفاً لكيانه طابع اللارحمة، من يخشى على حياته فلا يواجه هذا الشيطان المسمّى ب (يمان كريملي ) تغيّر لدرجة حتى جينكار خادمه و صديقه ما عاد يرتطم به كل من رآه يرتجف و ينزل رأسه كأنه يفرض هيبته المرعبة عليهم، أعاد أسلحته، اللعنة بل صنع ميداناً لرمي الرصاص لم يكتفِ بهذا فحسب إقتنى حصاناً بلون قلبه الأسود يمتطيه بين الغابات و يقف  على الجرف العالي يصهل الحصان و يرفع قدميه الأمامية فيضرب الأرض بقوّة
- " إهدأ كارا (ظلام )إهدأ ، أتعبتك اليوم "
نزل من صهوة جواده يقف بجانبه ناظراً نحو الأفق ، مرتدياً ملابس الفروسية ذات الجلد حول الصدر و القميص الأسود بنطاله الملتصق على رجليه و البوت الطويل لكن أضاف على الزيّ بل على مظهره اليومي قلادة حديد رجالية يخفيها تحت ملابسه معلّقاً خاتم زواجه بها حتى لا يفقده تحت أي ظرف، فتح أزرار قميصه الأوليّة يسمح لنفسه بملأ رئتيه ، هذا الهواء المنعش إستطاع تبريد نار قلبه ولو لجزء صغير " أقسم على نفسه بإيجادهما حبيبته و إبن أخيه أو بالأحرى إبنه المتبنّى ، ظنّ بتركهما أنه سيعيش لكن أخطأ بشكلٍ خطير، كيف لرجلٍ أن ينسى روحه سحر لم تكن فتاة عاديّة بل كانت إمرأته هو، ما زال البحث جارياً فتركيا ليست بالبلد الصغير شاسعة و قد تكون بأي مكان في الدولة أو ربما خارجها، لم يُوكِل لنديم فقط بإيجادها بل سعى إلى رؤساء المافيا الذين يكنّون له الإحترام ليتكفّلوا و يمشّطوا الأمكنه التي يعرفوها بحثاً عن إمرأة محددة، طول العامين و نصف جاءته الأخبار المزيّفة أعطت له بصيصاً من الأمل، حين يصل للمكان يجد فتاة مختلفة تماماً فيعود غاضباً لقصره، رمى قبعته على السرير و فرك رأسه بيديه مُردّداً " أين أنتِ!! أين أنتِ بأي جحر تختبئين! "
سمع طرقاً على الباب و أذن لدخول أيّاً كان خلفه، وقف جينكار المسؤول عن تنظيم الخدم و أمور القصر طالباً من يمان أمراً غريباً لكن وضع يمان لم يسمح له بالتفكير غير بزوجته الهاربة حدّثه جينكار بصوتٍ هادئ " سيد يمان، جئت أستئذن منك الخروج لبضع أيّام هل تأذن لي "
- " أذهب حيث تريد، جينكار قبل أن ترحل ناولني زجاجة الكحول تلك "
- " بالطبع، سيدي، شكرًا لك "

أعطاه الزجاجة المضلّعة مع كأسٍ نظيف يتركه أمام النافذة سارحاً بأفكاره بينما يرتشف ذلك السم الساري في جسده و كأن حالته الصحيّة تسمح بهذا، أوصى جينكار الخدم بإلتزام أعمالهم و نظّم أيام غيابه عن القصر القادمة كي لا يحدث أي تقصير أو وضع مفاجئ، جهّز حقيبة أخفى بينها أوراق بشكل غامض، و إنطلق يمشي خارج حدود ملكيّة الكريملي التي الآن صارت مزرعة شاسعة يتوسّطها قصر إستوحي تصميمه من الخشب العنيد كأنه أحد القصص الخيالية، حرص جينكار الا يتبعه أحد ووقف أمام مكان إنتظار الباصات ينتظر قدوم الحافلة، بعد ساعات من الجلوس و التنقل بين الحافلات وصل وجهته لم تفارق الإبتسامة شفتيه كأنه لم يكن في السابق قاتلاً محترفاً
بحق السماء لو يعلم يمان بما يفعله جينكار لعلّق جثته على بوّابة مزرعته لأخفاءه هكذا معلومة عن سيّده، وقف أمام منزل متواضع بأحد أزقة مدينة بعيدة يطرق الباب، دقائق حتى فتحت له المرأة الغامضة بابها
- " آه، أخي جينكار.. " قالت له بضجر
- " مرحباً، سيّدة سهر آمل أن لا أكون أزعجتكِ "
- " أخي جينكار تعلم أنني لن أنزعج منك لكن وضّحت سابقاً لا أريد لأي شخص من ذلك القصر أن يقدِم إليّ، تفضل بالدخول.. " فتحت الباب و دخل جينكار بأدب حيث حيّاه يوسف السيد الصغير يحتضنه بشوق و كأنه يتذكر عمّه حين يرى أحد أصدقاءه " أخي جينكار، لقد إشتقت لك هل ستأخذني لرؤية عمّي ؟ أنا أتوق إليه لكن خالتي لا تسمح حتى بذكره "
- " إشتقت لك إيضا، سيّدي الصغير، للأسف لن أستطيع مخالفة خالتك لكن لي حديث معها أتسمح لنا بالإنفراد ؟ "
- " بالطبع، أخي أنا ذاهب لأكمال دروسي " ، تركهم يمشي بملل خائباً مطرقاً رأسه للأرض صارت طِباعه كالشبل الهادئ لكن بأي لحظة ينفجر، أحست سهر ببعض الحزن فيوسف تغيّر جداً، لم يعد يهتم بأي شيء و كل ما يريده هو لقاء عمّه، جلس جينكار على الأريكة المقابلة لسهر
- " سيّدتي، أعلم أنكِ ضقتي ذرعاً من حديثي، لكن رؤيتكم تنهارون أمامي يؤلمني فأنني لن أنسى فضل السيد يمان عليّ ما دمت حيّاً و أنتِ تذبلين أكثر كلّما رأيتكِ- "
- " أخي جينكار أنا--"
- " أرجو أن تسمحي لي بإكمال الحديث بعدها يمكنكِ الإعتراض و الرفض إن شئتِ "
- " تفضل"
مدّ يده إلى حقيبته الجلديّة يخرج أوراقاً منها و يسلّمها لسهر التي ترمقه بنظرة إستغراب، قلّبتها لم تفهم شيئاً و نظرت إليه مجدداً تنتظر توضيحاً
- " هذه تحاليل السيّد يمان، لا يعلم بها أحد أبداً وجدتها صدفة بينما كنت أبحث له عن ملفٍ محدد فأخذتها، أعلم أن ما قمت به وقح جدّاً، لكنه قبل أن يكون سيّدي فهو صديقي و صاحب فضل كبير عليّ، تُظهر هذه الأوراق إنهيار جسد السيّد يمان رغم محاولاته بتصنّع القوّة و التمثيل ألا أنه يتألم بعيداً عن كل من في القصر، سيّده سهر، يمان يعاني من خللٍ في القلب يتطلّب التدخل الجراحي و للأسف إن لم يتصرف بسرعة قد..."
شهقت سحر تضع يدها على فمها، أحست بالوخز و هاجت مشاعرها، رغم ما فعلته بمحاولاتٍ فاشلة لكرهه الا أنها لم تستطع، ما قدرتها على تجاهل الحب الا كذبة تحاول إرغام نفسها، أطرقت رأسها للأرض تعض شفتها السفلى و كفّها على صدرها كأنها تحاول تهدئه قلبها، مؤلم... فراقه ووجوده مؤلم كيف صمدت لسنتين بدونه، تحمّلت دفن مشاعرها، تذكرت أول مرّة حين جاءت لهنا لم تنم الليّالي ظنّاً منها أنها قتلت فؤادها نعم يمان كريملي ما كان حبيباً فحسب، بل ساكن قلبها، بمجرد أن تلمح خياله ينبض القلب بجنون، تسمع صوته فيغمرها الأمان، ما الذي حلّ؟ أهي فعلاً إستمدّت قسوة الكريملي و إستطاعت ترك حبّ حياتها ممدّداً غريقاً بدمّه؟ دون أن تلتفت تذكرت أنها قطعت مسافة طويلة تمشي خائبة على الطريق الترابي حتى كاد جسده يختفي من مرآها، أنزلت يوسف و ركضت إلى حبيبها تعثّرت و هي تصرخ " كلّا!! كلّا لا تمت!! كلّا! " وقعت مراراً و إتسخ الثوب الأسود، حين وصلت إليه كان فاقداً الوعي كأنه نائم بعمق على سريره، أمسكت خدّيه بينما تنهمر دموعها و تسقط على وجنتيه، تحتضن وجهه بكفّيها و ترفع رأسه واضعةً الحقيبة السوّداء تحته " لا تمُت!! لا تمت!! " ، تبحث عن هاتفه الخلوي إلتقاط الإشارة صعب قليلاً ، نظرت حولها كالمجنونة فرأت أحد رجاله يركض من بعيد (ابو الأربع دقايق ) " أنا هنا!! تعال!! خذه! خذه للمستشفى إياك أن تتأخر!! إياك!! " ، هذا آخر ما رأته حتى عادت ليوسف الباكي منتصف الطريق يخبئ وجهه بينما يجلس على الأرض محتضناً ركبتيه، حملته بعيداً متجاهلة سؤالاته، خارت قواها لم تعلم كم من المسافة قطعت حتى وصلت وجهتها، إستفاقت من ذكرياتها تنظر لجينكار بعينين دامعتين
- " سيدة سهر، هو ليس بخير تعرفين كيف يخفي توجّعاته رافضاً مساعدة أحد، هذين العامين قضاهما يبحث عنكِ كالمجنون، صار شغفه ركوب الفرس الأسود يغيب لأيام حتى يعود مظلماً أكثر من سابقه "
- " ..... " صمتت لم تعرف ما تنطق إكتفت بالبكاء، ينغصّ صدرها بالآثام، ذنوب العشق بحق حبيبها
- " سأتواجد هنا لثلاث أيام، أتوسّل إليكِ فكّري مليّاً "
خرج جينكار متوجهاً نحو فندق شعبي بسيط، لم يشأ الضغط عليها أكثر، علّها تهدأ و تتخذ القرار الصحيح، سارت نحو غرفتها تدور في رأسها الصراعات تارة تخبرها أن تذهب إليه و تارة تعيد ما فعله بها، ظلّت تتقلب في فراشها طول الليل حتى كشف الصباح عن مجيئه نهضت متخذةً قرارها تعزم تنفيذه بأقرب وقت، جهّزت يوسف إلى مدرسته أطعمته الفطور و قبّلت خدّه الا أن نظراته القاسية إليها ذكرتها بحبيبها الجريح كم صار يوسف يشبهه يعاتبها يوميّاً حتى ضجر و صمت، إبتسمت إليه بإنكسار تحدّث نفسها (كلّه لأجلك، عزيزي حتى لو كرهتني ) لم يقل شيئاً هذا الطفل شعرت أنه كَبُرَ قبل أوانه و حمل الهموم كما عمّه أغلق الباب دون أن يلتفت كأنه يرسل إليها إشارات البغض في قلبه الصغير .
بعد دقائق من إتصالها بجينكار جاء بأقصى سرعته، متفائلاً بها ربما حنَّ قلبها أخيراً على زوجها لكن صدمته بحديثها
- " جينكار، مجيئك لهنا لم يغيّر شيئاً، أنا لن أرجع إليه هو من دفعني لهذه الهاوية فتركني "
هذه المرّة عقد جينكار حاجبيه و كلّمها بحديّة خارجاً عن شخصيّته الهادئة ضاق ذرعاً من هذا الهراء
- " منذ متى أصبحتي بهذه القساوة؟ ، الرجل يموت ألف مرّة بغيابك! سيد يمان يذوي ، يكتم آلامه!! أتعرفين كم زجاجة كحول أنهى في الأسبوع الماضي؟! و هو لم يدنو إليها طول فترة معرفتي به! ، إنه يصارع لأجل حياته بحق السماء !!"
- " قساوة؟ ، جينكار أنا عاشرته لدرجة تطبّعت بأطباعه تسألني من أين لي هذه القساوة؟ أنا كريملي جينكار كريملي!! و نحن هكذا وقتما نشاء نرمي و نضحي دون أن نلتفت، صمت فأرتكب أغلاطاً مؤلمة بحق المرأه التي يحبّها و الآن تسألني الغفران له؟ أتسألني أن ألقي بنفسي تحت ظلامه مجدداً؟"
سكتت قليلاً تمسح الدموع بعنف من عيونها تستدير محاولةً كبح النحيب وسط نظرات جينكار المتفاجئة، كم تغيّرت و تحجّر قلبها، مبتعدةً عن شخصيّتها المسالمة
- "وجودنا معاً كان فقط من أجل يوسف ومحدداً بفترة زمنية قد إنتهت منذ وقتٍ طويل، لذا فالشيء الذي سآتي من أجله هو توقيع الطلاق، أريد فكّ إرتباطي بالكريملي نهائياً "
- " تظنّين أنه إذا عَلِم بمكانك سيحرّركِ و يخلي سبيلكِ؟ ، الا تعلمين أنه إستعان بالمافيا للبحث عنكِ؟ "
- " أعلم هذا، إضطررت للتخفّي عنهم بصعوبة أنا لا أخرج بشكلي القديم بل غيّرت كل شيء بي حتى هويّتي "
- " ماذا عن السيّد الصغير؟ "
- " يوسف مسجل تحت أسم مزيّف أخبرته أن يأتي للبيت مع مجاميع الأطفال هناك متخفياً حتى لا يتعرف عليه أحد "
- " مستحيل أن تكوني فعلتِ كل هذا بمفردكِ لابد من وجود شخص لمساعدتكِ "
- " أخي جينكار، قلت لك ما عندي ثم أنني لن أظهر نفسي له سيرسلون له الظرف الحاوي على ورقة الطلاق بيد المحامي و عنصر من الشرطة، حتى و إن أخبرته بمكاني لن يجدني أعرف أنه صديقك القديم و لن تخفي عنه شيئاً "
- " فهمت، شكرًا لوقتكِ أستأذن منكِ "
أتمّ جينكار كلامه و مضى يجر أذيال الخيبة و الفشل، تمنى للحظة تمكّنه من جمعهما المشتت، حانت عودته للقصر قبل أن يشكّ سيّده بغيابه غير المبرر، في هذه الأثناء شعرت سحر بخطورة موقفها و كشف مخبأها، لذا إستعانت بالصديق القديم الذي أعطاها إياه أخيها بالرضاعة (فرات)
تذكّرت حديثها مع أخيها قبل أيام ..
-"أنظري سحر، جميع ما أقوم به لأجلك هذا يعرّضني للسجن خصوصاً قيامي بتهريبكِ خارج البلاد، لا مجال لتراجعكِ لو أمسكوا بكِ على الحدود سننتهي كلينا، هذا رقم صديق أعطيته بعض الرشوة"
-"لكن فرات تعلم بأن يمان متوغّل بالمافيا وله عديد المعارف هناك ماذا إن وصلته الأخبار؟ "
"لا تقلقي بهذا الشأن، (موسى) سيتكفّل بكما، دهائه يفوق عشرة رؤساء مافيا، فقط إلتزمي بما يقوله لكِ"
-"حسناً، أشكرك "
-" لا مشكلة، كوني بخير أختي، لا تتصلي بأحد حتى هاتفك تخلّصي منه، سيعطيكِ هاتفاً لا يتم تتبّعه و غير مسجل، كل الأمور تكون على ما يرام حين تصلين لندن سيؤمن لكِ عملاً و مكاناً تسكنين إليه "
-"لكن الن يطلب مالاً مضاعفاً ؟ ليس لدي القدر الكافِ؟!"
-" أنقذت مؤخرته قبل أعوام من مكيدة كادت أن تنهي حياته و حياة عائلته لذا هو مدين لي بمعروف ، عليّ الرحيل قبل أن يشك المفوّض بشيء "
-" شكراً على كل شيء فرات، لن أنسى معروفك هذا "
أجرت إتصالاً سريعاً بالمهرّب الذي كان حريصاً جدًا و أنهى كلامه ببضع كلمات دون ترك مجال لسحر أن تستفسر " غداً الساعة الرابعة فجراً في الميناء، لا تتأخري" ظلت مترددة من الذهاب، لكنها فرصتها الأخيرة قبل أن يجدها يمان قررت إنتهازها.

زمردتي - My Emerald Where stories live. Discover now